محمد بالطيب
يُسمّي التونسيون إلى اليوم الكأس الصغير المخصّص للشاي بـ”كاس طرابلسي” نسبة إلى طرابلس (أي ليبيا)، كما تعتبر مادة الشّاي من أهم المواد المورّدة من ليبيا والتي تباع في الأسواق الشّعبية ومتاجر البضائع المهرّبة.
ففي دراسة عنوانها (من الظواهر الاستهلاكية الجديدة في المجتمعات المغاربية في الفترة الاستعمارية : “الشاي و التكروري” بالبلاد التونسية) للباحث والأستاذ الجامعي عبد الوحد المكني في مجلّة “إنسانيات” (المجلة الجزائريّة في الإنثروبولوجيا الاجتماعية) رصد هذا الأخير بدايات دخول الشّاي إلى تونس وتحوّله إلى مادة استهلاكية واسعة الانتشار بعد أن كانت حكرًا على الطبقات العليا في قصور البايات حتى بدايات القرن العشرين .
** الغزو الإيطالي وهجرة الليبيين إلى تونس:
يقول المكني في دراسته أن ” لمادة الشاي في الاستعمال التونسي عدة تسميات فهو “الشاي” في لغة الكتابة الرسمية سواء الإدارية أم الصحفية و هي التسمية الرسمية الرائجة في البلاد العربية آنذاك و خاصة في بلاد مصر و المشرق التي عرفت استهلاكه قبل تونس، أمّا في الاستعمال العامّي الرائج عند التونسيين فيسمّى “التّاي” وقد يكون ذلك تعريبا مباشرا لنطقه الإفرنجي عند مورديه و المتاجرين به في العالم وفي تونس سواء من الفرنسيين « thé » أم الإنجليز « tea »، كما ينطق عند العامة التونسية في بعض الجهات الداخلية بـ “التاهي” و أيضا “الشاهي” تأثرا بالاستعمال الرائج عند أهل طرابلس و عند المهاجرين الليبيين المنتشرين بأنحاء البلاد التونسية”
مضيفًا بالقول: ” إن تعدد الاستعمالات و التسميات تدل على حداثة انتشار تلك المادة بالبلاد وهو ما يقودنا إلى التساؤل عن زمن دخول الشاي وجذوره كمادة استهلاكية بالبلاد ؟؟”
ليجيب قائلاً: ” لقد طرح هذا السؤال عندما عمّ انتشار استهلاك الشاي في البلاد التونسية في مطلع العشرينات و قد أجمعت الإجابات و اتفقت على أن نشر شربه عند عامة الفئات الشعبية كان بواسطة المهاجرين الليبيين أو أهل طرابلس كما كانوا يسمونهم في تونس وكان ذلك بداية من سنة 1911 أي إبان الغزو الإيطالي لليبيا ووفود فلول الهجرات الجماعية التي توزعت على مختلف جهات البلاد”.
مشيرًا إلى أن كلا من عبد الرحمان قيقة و جون مانيان في بحث حول انعكاسات آفة الشاي بتونس من منظور شعبي يؤكّدان “إن تاريخه حديث جدا : عندما جلبه المهاجرون الطرابلسيون بسبب الحرب الإيطالية التركية لسنة 1911-1912 وقد وجدوا هذه البلاد غريبة عن هذه العادة المتجذرة عندهم”.
وأضاف المكني في دراسته قائلا: “وقد قامت السلط الإدارية “التونسية” أو الدوائر الصحية و من ورائهما الإدارة الاستعمارية الفرنسية بمحاولات استبيان و بحث عن جذور استهلاك الشاي بالبلاد فكان الإجماع في مختلف التقارير على دور المهاجرين الطرابلسيين في نشره و تعميم استعماله عند التونسيين”.
وبتنقيبه في وثائق الأرشيف الوطني التونسي للفترة الإستعمارية بتونس التي دامت بين (1881-1956) يذكر عبد الواحد المكني أنّ “محمد الصالح دبيش عامل أولاد عون يؤكد مثل أغلب زملائه من قياد الجهات الداخلية على أن انتشار شرب الشاي كان بعد عام 1911 اثر قدوم الكثير من أهالي طرابلس للايالة”
مضيفًا في ذات السياق، أنّ الأطباء ورجال الصحة بدلاهم في الموضوع إذ يشير إلى أن ادموند سرجان (طبيب فرنسي وعضو معهد باستور) يعتبر أن “أن أهل طرابلس هم الذين عمموا استهلاك الشاي الأسود بتونس”9 و نعت طريقة إعداده بالطرابلسية à la tripolitaine ».
ويؤكّد المكني فكرته بالقول أنّ الأغاني و الأمثال الشعبية هذا الرأي الشاي حسب من خلال المتواتر الشعبي “خلى طرابلس و كمّل تونس”، كما يستشهد كذلك بمقطع من أهزوجة شعبية تحكي عن الشاي نصّها:
“أصل التاي حشيشة مرة و الحكمة في ماه ** تقلدنا وسلّم في برّه وين تمشي تلقاه
أصل الشاي ما كــانش عـادة تقلدنا ** وسلّم في بلاده وين تمشي تلقاه”
ليعلّق عليها بالقول: ” لا مراء إذا في أجنبية هذه المادة عن البلاد، و الإجماع على أن الليبيين هم الذين نشروها بتونس بعد 1911 لا يريحنا من عناء الإجابة عن ملابسات ظهورها بتونس لأول مرة ؟؟”.
** بدايات إستهلاك الشاي في تونس:
إجابة عن هذا السؤال يعتبر عبد الواحد المكني أنّ المصادر (المصنفات أو الرحالة أو الأرشيفات الإدارية و الجبائية التونسية) لا تجيب بدقة فـ”الواضح أن استهلاك الدخان و التكروري والقهوة راج في البلاد منذ القرن 17 و خاصة عند الفئات التركية الحاكمة أما الشاي كمشروب منعش و ترفيهي فقد وجد في أواسط العهد الحسيني أي مع مطلع القرن 19 لكن انتشاره كان محدودا و لم يصل ما وصلته القهوة من إشعاع وتأثير عند العامة أو الخاصة إذ أصبحت بمثابة الشراب الوطني ” القهوة التركية أو الشاذلية نسبة للولي ابي الحسن الشاذلي “.
ليؤكّد أنّ “استهلاك الشاي في البلاط الحسيني أو عند بعض الخاصة كان نادرا و في غمار و إطار الهدايا و البضائع والزيارات الأوروبية و بالتالي لم يصبح إلى حدود تاريخ استعمار البلاد بل حتى مطلع القرن العشرين ظاهرة استهلاكية ذات اعتبار”.
ويواصل المكني تحليله بالقول: ” ولنا أن نضيف أن رعايا الجاليات الأوروبية بتونس منذ أواسط القرن التاسع عشر و خاصة الأنجليز كانوا يستهلكون هذه المادة لكن وفق الطريقة الإنجليزية المتمثلة في مزجه بالحليب و استعماله في شكل أكياس صغيرة و هذه الطريقة لا علاقة لها بتلك التي انتشرت في صفوف التونسيين بعد 1911 و القائمة على استهلاك الشاي الأسود ( و يسمى الأحمر أيضا) بعد طهيه بالماء و إضافة كمية من السكر و يكون ذلك في إناء يعرف ب”البراد” و يوزع في كِؤوس بلورية صغيرة تعرف عند التونسيين بالكؤوس الطرابلسية”.
ليؤكّد مرّة أخرى أن “إمكانية نشر هذه العادة من قبل الرعايا الأنجليز و خاصة المالطيين تبقى مستبعدة بل شبه مستحيلة و الواضح أن المهاجرين الليبيين هم الذين كانوا الأصل في جلب هذه المادة إلى تونس و ساهموا في نشر تقاليد استهلاكه فالظاهرة في علاقة متينة مع موجات الهجرة الليبية11 للبلاد فقد شكل العنصر الطرابلسي الوافد إلى تونس إحدى مكونات المجتمع الهامة”.
وعن أبرز الهجرات الطرابلسية (الليبية) نحو الإيالة التونسية يرصد المكني أنّ “ابرز موجات هذه الهجرة ذات الجذور القديمة كانت سنتي 1911-1912 اثر الاحتلال الإيطالي ثم في العشرينات (1922-1928) بعد تزايد فضاعات الاستعمار الإيطالي بقيادة غراسياني و أخيرا بعد جفاف 1947، لقد قدر عدد المهاجرين الليبيين إلى تونس سنة 1936 بأكثر من 25000 نسمة12، ثم تزايد بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد 1947 ليقارب 35000 نسمة”.
ليؤّكد وبشكل حاسم أن “الجالية الطرابلسية في تونس في العشرينات و الثلاثينات كان لها تأثير حاسم في ترويج استهلاك الشاي وفق التقاليد الطرابلسية خصوصا أن المهاجرين الليبيين اختلطوا بالفئات الشعبية التونسية من مزارعين و عملة و منجميين بمختلف أنحاء البلاد و خاصة في ربوعها الريفية و القروية”.
وعن علاقة الليبيين بالشاي يقول المكني في دراسته: “كان لليبيين ولع كبير باستهلاك الشاي إذ به يفتتحون يومهم و به ينهونه و يرونه منشطا ضروريا للعمل فكان” البراد والكانون و الكيسان” من جملة أدوات العمل و لا نعرف الكثير عن جذور انتشار استهلاك الشاي بطرابلس الغرب هل يكون بفعل الأتراك (و هو الأرجح لأن الشاي كان معروفا عند الأتراك منذ القرن التاسع عشر ) أو الإنجليز الذين كان لهم نفوذ وعلاقات مع السنوسية في إقليم فزان و برقة –و ان كان أغلب المهاجرين إلى تونس من إقليمي طرابلس و فزّان -والثابت ان الليبيين كانت لهم تقاليد خاصة ومميزة في إحضار الشاي واستهلاكه و اصبح الشاي عندهم في مطلع القرن العشرين-وربما قبيل ذلك بقليل- مشروبا عاما وأساسيا للترفيه والتنشيط” وفق تعبيره.
___________________