لابد أن النهار بسماء باب العزيزية بات رمادياً وكهلاً, يموج بالرياح ونُذر التخلي, حيث هناك يتوالى انفراط الأصدقاء, وهروب أبناء العمومة, ومشاحنات الابناء, وارتباك الابنة, التي ماتزال قادرة ـ رغم كل شيء ـ على الكذب بلا شعور بالذنب, وفي الأفق,
تتحرك ـ عبثاً ـ مسرعة ومذعورة, مئات الخطط البليدة, في محاولة يائسة, لرتق الأسمال البالية في ثياب العقيد بلا جدوى, تريد أن تنتقم, تقتل, تفتك, تغتصب, قبل أن تُعلن عن خروجه الجبان, أو هروبه المحتمل من موت وشيك, وترتعش بابتذال مُهين, تتلعثم خائفة أمام السحنة القذرة والمقلوبة, لسيد باب العزيزية, الذي لطالما مثّل احتمال أن يكون هو الحلقة المفقودة, بين الإنسان والغوريلا, في التطور النوعي لسلسلة الكائنات الثديية.
خلف سور باب العزيزية, بجدرانه المقاومة للقصف النووي كما يُشاع, والمطوقة بآلاف من الدروع البشرية كما أخشى, ينتصب كائن نحيف, منحرف الشفة العليا, لإصابته بتيبس في شرايين وجهه, يقف بارتعاش, يترنح قليلا, ترحل عيناه بخوف دائم, إلى تقاسيم كل الوجوه التي تهتف له, وأجساد الذين يركضون لخدمته, يراقب باحتراس شديد, حركات أصابع ابناءه السبعة, وزوجته المنبعجة الكرش, وشُخشيخة ابنته الوحيدة.
قدماه الآن بالجحيم, عالقتان بين السماء والأرض, تتقدم مخاوفه دون أن تعرف عما تبحث, ولا ما يبحث عنها, تتبع فقط جوعه الداخلي, وتعطّشه الفطري للسلطة, لكنها رغم ذلك, تجروء على الشعور بالأمل, الأمل في أنها قد تفلح في تجاوز إرادة العالم, وعشرات الآلاف من الليبيين القتلى, والمعطوبين, وآلاف المخطوفين والمفقودين, وتفلح أخيراً, في العبور ثانية إلى خارج ذلك السور.
لابد أن جدران باب العزيزية, تنشق الآن عن هلع لا يدري عنه, مثل موجة تتحطم مدويّة على الصخور, هلع يطلع من كل مكان, من الدهاليز المحروسة بأبواب عالية, ومقاوِمة للمدافع والصواريخ, من الممرات الطويلة الغائرة تحت الأرض, إلى مسافات يصعب الوصول إليها, من زوايا الغرف التي اعتاد فيها مقابلة الكتاب والمثقفين, حين ينوي تهديدهم وابتزازهم, لتخليد أفكاره النذلة بأسمائهم.
لابد أن أسطح الغرف فوق رأسه الآن, تبدو أكثر انخفاضاً, ونشيش الهواجس والخوف, يصفرّان في دماغه الساخن, وهو يحلم بمعجزة ما ـ تنشق عنها الأرض, أو تجود بها السماء ـ يمكنها أن تسمح من جديد, لبضع نسمات لطاف, أن تتسلل إليه في سجنه الكبير هناك, ولابد أن الصور تتداخل اليوم برأسه, يختلط حاضرها بالماضي, حاضرها الذي ظن أنه لن يكون هكذا أبداً, والماضي الذي كلّفه الكثير الكثير من دماءنا, ودماء غيرنا بتشاد, وتونس, ومصر, وآيرلندا, ولبنان, والسودان, ونيكاراغوا, واسكوتلندا, وأوغندا, وألمانيا, وبريطانيا, ليهددا أخيراً مشاريعه التي تعلن له بعناد عن تراجعها, وانهيارها أمام عينيه.
ولابد أنه يحلم بتلك الأيام, حين كان بوسعه مغادرة قلعته بباب العزيزية, ليشعر من جديد بطراوة المكان بالأعلى, ويتمشى قليلاً على السطح الناصع, بتلك السترات المقاومة للرصاص والطعنات الغادرة, وسط مجموعة من الحرس, سبب ولائهم الوحيد له, شرائهم بملاييننا نحن, أو تورطهم معه بإراقة الدم الليبي, ولابد أنه يحلم بأن يستعيد من جديد, تلك اللهفة البلهاء, للضوء يتسلل من زجاج سيارته المقاوم للرصاص, وهو ينعكس مترقرقاً على الطرقات أمامه, حين تنهب سيارته الشوارع, التي أُخليت له خصيصاً منذ يومين مضيا.
صار مؤخراً لا يرى غير الخريف, الذي تغرق فيه ساحات مدخل باب العزيزية, وغرف انتظار كبار الزوار بمقاعدها الوثيرة, وسجاجيدها الحمراء الوثيرة الناعمة, الفارغة تماماً الآن, إلا بمن يغريهم بعقود التنقيب عن النفط, ودهاليز الممرات التي تغص بكاميرات المراقبة وكلاب الحراسة المدربة, وجنود يافعين داكني البشرة مجعدي الوجه من التعب والاعياء, بعد أن كانت تمتلئ بحشود المتملقين, يحرصون في كل مناسبة على نيل رضاه, ودرجات السلالام التي تعودت حارساته أن يرتقينها حافيات, مستعدات عند أقل إشارة انزعاج تلوح على وجهه, أن يبرزن أسلحتهن من تحت حزام بنطال الجينز الضيق .
صار يرى كل شيء من حوله شاحباً, ومُصفراً مثل درن رئوي, آيل للتهشم والسقوط, وهو يشاهد كل يوم, المدن الليبية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب, تتحرر من قبضته, وتعلن له في تحدٍ خروجها عليه, تختلج رأسه بآلاف المخاوف, والأصوات, والدوامات, والكراهية, والعالم يحسه يُظلم ويضيء بآلاف الأنوار الخاطفة, التي تشتعل في ذهنه المتبلد, وتعيده بفظاظة دائماً إلى واقع بات يخشاه, ويخاف الاعتراف به, في كل مرة يشاهد فيها قناة الجزيرة أو العربية أوالحرة أو السي آي إي والسكاي نيوز التي لا يفهم منهما شيئاً, إلا أنه بدأ يضمر ويموت.
لابد أن لهباً حارقاً يتصاعد من أبعد نقطة بأعماقه, وأن شيئاً حاراً يستعر في قلبه المشموخ بالوهن, في كل مرة يرى فيها المجلس الانتقالي يحقق مكاسب جديدة للثورة ضده, فينال اعترافا سياسياً هنا, أو تأييداً دولياً هناك, أو يجلس ممثله الشرعي إلى مائدة مستديرة, مع ذات الحكام والزعماء, الذين كان يجالسهم يوماً, متبختراً بثيابه المزركشة الطريفة, أو يُعلن عن قرب افتتاح سفارة لدولة فرنسا, قطر, السنغال, إيطاليا, غامبيا.
حتماً أن مئات الهزائم والخسائر, والخوف من الليبين والغد والتاريخ, تتشابك الآن أمام عينيه, وبالكاد تُسعفه ذاكرته المقروحة, بالإحباط والإحراج ـ أمام نفسه, وعائلته المتسلقة, المستعدة لمبادلته, والتخلي عنه عند أول سانحة, وموظفيه الذين يتمنون هلاكه أو القبض عليه, أو قتله لو يتاح لهم, ـ بمخارج ما, تجعله قادراً على الهروب بالوقت المناسب, والتنصل من كل شيء كعادته.
لكن ذعراً جديداً ومن نوع مختلف ـ يعايشه لأول مرة ـ يضعه اليوم وجهاً لوجه أمام نفسه, يُحيله إلى ذلك الشعور المرير, بالحقد والضغينة, اللذان باتا يلازمانه منذ فترة, كلما وجد نفسه مزروعاً أمام التلفاز, كحيوان مشدود إلى وتد, يشاهد بحقد, كاثرين آشتون تهبط بطائرتها في بنغازي, التي لم يضمر لها السعادة يوماً, وهي تفتتح على الفور مكتباً يمثل 27 دولة أوربية, تعلن دعهما لمن يقتلهم, أو ينتظر بترقب رهيب قرار لويس مورينو أوكامبو, الذي سيُحيله إلى مُلاحق ومطلوب حتى داخل سور زنزانته المنيع, لكن ذعره ذاك, لا يمنعه من أن يصر لنفسه, أنه لا زال حراً, حراً تماماً, حرٌ خلف حوائط اسمنتية مسلحة, حر داخل قفصه الصدري, حر داخل دمه المعتكر, حر داخل دائرته, حيث لازال بوسعه ـ رغم ضجيج العالم من حوله ـ تحريك كرسي, إزاحة طاولة, أو الإمساك بقلم.