قصة

دروب تائهة

خديجة زعبية

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

 
ترفع أمي ستائر النافذة وتفتحها مباشرة، هي تستيقظ مبكرا كل صباح وأشعر بلحظة إطفائها لجهاز التكييف دائما أصبح هذا الأمر اليومي هو منبه دائم لي وأحد طقوسي المحببة، تلتقط مسامعي هدوء خطواتها محاولة ألا توقظني تمتمت أذكار الصباح أسمعها وأنا أغالب رغبتي في البقاء في السرير أطول فترة ممكنة.
 
اعتادت تجهيز كتبي، دفاتري، تختار لي ملابسي لكل يوم تحرص دائما على أن أبدو مميزا في نظر رفاقي وكلما تحدثنا في موضوع أني كبرت وصار لزاما علي أن أعتمد على نفسي و أن أريحها من متاعبي و مزاجي المتقلب يكون ردها بأنها مازالت تراني طفلها و يجب الاعتناء بي حتى أكبر وأكبر وأكبر وتراني رجلا له مكانته ووزنه بين رفاقه.
أنا يا أمي في الثانوية اليوم، أحبك جدا، وأعلم أني طفلك المدلل ولو صار عمري خمسين سنة. مازلت أتظاهر بالكسل وعدم رغبتي في الاستيقاظ حتى أسمعها تناديني مرات ومرات إمعانا في ملاطفتها بأسلوبي ورغبة مني في استدراج كلامها أكثر وأن أستمتع بسماعها وأنا أبتسم تحت غطائي.
 
دائما ماكنت ألاحظ ترتيبها الدائم للغرفة، تحرص كل فترة بتغيير الديكور كما تخبرني، تضع على المكتب مفرشا زهريا صغيرا وتستبدله بعد فترة بآخر بلون العشب، ترتب الكتب على الرف والدفاتر تضعها بجوار المنبه، على الحائط ترتب صوري، من الأقدم إلى الأحدث تقول الصورة القادمة ستكون يوم نجاحك هذه السنة أمازحها بل ستكون يوم أقود السيارة وأنت بجانبي، تغضب مثل كل مرة وتجيب باستمرار: لا سيارة قبل النجاح في الثانوية و تشير بسبابتها متوعدة، أركض إليها و أعانقها ممازحا:
– عشان خاطري يا حجة خليها قبل؟!
ترد بصرامة :أبدا ولا تحلم.
 
كثيرا ما كانت نقاشاتنا تنتهي بخصام قصير، أعلمها وتعرف هي ما بداخل نفسي، أراقب مرور السنين على وجهها وأعلم أنها تنتظرني، ترى في نجاحي أملها المنتظر وثقة أرست بنيانها في شخصيتي.
أتثاقل في استيقاظي دائما مشاكسة لها، نفطر سويا، روتين كل يوم، أنت لا تأكل جيدا في الصباح وهذا يؤثر على تركيزك في الصف يجب أن تشرب كوب الحليب كاملا، عليك الالتحاق بصالة رياضية تبدو ملامح سمنة على جسمك، لا يا حبيبتي أركز والله أركز وخاصة في الرياضيات أعلم تخوفك منها لكن الأستاذ معجب بنباهتي ويشيد بمستواي أمام زملائي.
 
تبتسم وأعلم أنها تفتخر بي في داخلها وأكاد أسمعها تقول:
– هذا الولد متفوق دائما.
 
على مدخل البناية أسمع صوت “مصطفى” يستعجلني في النزول، أقول لها قبل أن أخرج متى نبع الحنان تشتري لي سيارة وتريحني من المشي للمدرسة؟ تنظر لي مباشرة وتقولها دائما ولا تحلم يا حبيب أمك.
أعانقها قبل نزولي وأسمع دعواتها لي وككل يوم يسألني “مصطفى” عن سبب سعادتي فأبتسم دون أن أجيب.
 
في طريقنا يتحدث رفيقي دائما وأشاركه أحيانا بإجابات مختصرة، يخبرني عن طموحاته ورغبته في جمع أكثر ما يمكنه من المال ليعوض ما فاته من الحياة البائسة. أقول:
– يا أخي أنت انتبه لدراستك وبعدين فكر في المال.
أنت لا تفهم!! يجيبني: المال كل شيء في الحياة، وكلما جمعت منه ازددت قوة.
أعنفه، نناقش الموضوع دائما نختلف نتشاجر وفي بعض الأحيان نتخاصم ولا يكلم أحدنا الآخر لأيام.
 
اليوم في طريقي للعمل رأيت طيف “مصطفى”، تساءلت عن مصير عائلته الصغيرة بعد وفاته. طرقت باب بيته، فتحت صغيرته “غـيد” وابتسامة هادئة على وجهها، تنتظر رفيقاتها للمدرسة، أسمع صوت أمها من الداخل: من يا “غيد”؟. تجيبها: إنه…إنه… تطير لي الصغيرة وتعانقني، تلف ذراعيها الصغيرين حولي وتقول بفرح:
– كنت متأكدة من حضورك، سترافقني كما وعدتني.
– نعم سأرافقك.
 
تأتي أمها من الداخل وتخبرني أن الصغيرة كانت تنتظرني وأخبرتها بأن عمو لا ينسى! تضع يدها الصغيرة في كفي وننطلق لمدرستها. أراها تطير كفراشة، تحلق كسنونو قربي. رحمك الله يا رفيقي هل علمت اليوم الفرق بيني وبينك!!

مقالات ذات علاقة

من القرية الى المدينة (4)

المشرف العام

محابس الغرس

كريمة حسين

الشرف

سعد الأريل

اترك تعليق