حزنه يتمطى في المكان، وفي صدره يزدحم الوقت، حين الخوف على بنغازي مثل السؤال، يُلح عليه، يؤجج قلقه الذي لم يُفلح في منعه من النمو، عندما صار الموت في كل مكان، قاسياً مجانياً وبلا هوادة، يراه بفظاظة في تلك الجذوع والرؤوس المشقوقة للمتظاهرين، والأنوف المثقوبة بالرصاص تفور بالدم الحار، والأكتاف المخلوعة، والجلود التي تعرّت عن اللحم، وتلك الأعضاء التي لا تزال تنبض، تتجاذب إلى بعضها، تُعيد تماسكها، تحاول أن تتحرك، تعرج وتترنح، تحاول الوقوف ببله على أرجل مختلة، فترديها طلقات “الميم طاء” وقذائف “الآر بي جي”.
الصرخات المحبوسة في حلوق المتظاهرين لعقود، سمعها “المهدي زيو” بوضوح، تعلن أخيراً عن نفسها، تهتف عالية، تتردد في كل مكان، في كل شارع، في كل زقاق، من خلف كل نافذة، “حرية حرية” و”الشعب يريد، إسقاط العقيد”.
كان يفكر طوال الوقت: كيف تُفلح تلك الصرخات في أن تصير بيضاء، أمام العيون المصدومة لهذا المصير الذي يواجهونه؟ كيف تُزهر في أيدي المتظاهرين التي تحمل لافتات الحرية أشجاراً غير خشنة؟ وكيف تُراها هتافاتهم الملتهبة، قادرة على أن تزرع نجوماً أكثر دفئاً في سماء ليبيا؟
وخاف، خاف “المهدي” على بنغازي، خاف على قامتها العالية من أن تصير محنيّة ومجوفة، خاف أن يرسم تعاقُب الملاحقات ملامحها، الملاحقات الممهورة بالفقد والتقتيل، ورجال كتيبة الفضيل بوعمر السفاكين، وأحبائه الذين رحلوا ولن يعودوا.
خوفه على بنغازي الجريحة، فاقم عنده الشعور بالخوف مما كان يفكر فيه، خوفه الجامح على مدينة صيّرها جنود الكتائب عَراء وعُزلة، صيروها مدينة أخرى غير التي اعتاد، مجللةً بالحزن، والبطش، مزروعة بالذعر والفتك، والمرتزقة السفلة، تكتسحها الزوابع ودوامات القتل والترويع، فراحت أفكار وأفكار تتناسل في رأسه المهموم، الذي أَحسه يطن كخلية نحل.
في سيارته الصغيرة، وضع “المهدي” رأسه على مقود السيارة، داهمه توتر شديد، قبض بقوة على المصحف الصغير بين يديه، وألصقه بجبينه، فشعر ببعض السكينة، وسلام مدهش تسلل إليه، أغمض عينيه ورحل بتفكيره بعيداً.
فكر في ليبيا الغد، ليبيا الجديدة، ليبيا النظيفة بدون القذافي، فكر أن ساجدة وزهور ستتمتعان بمستقبلٍ أفضل، سينلن تعليماً جيداً، وفرصاً أوفر في العمل والنجاح، فكر في زوجته، وتذكر عينيها المندهشتين تتطلعان في وجهه بقلق، حين أخذ رأسها بين يديه هذا الصباح، وقبلها بحرارة، وسألها أن تسامحه، عندما قاطع شروده فجأة، صديقاً يمد رأسه من زجاج السيارة المفتوح:
ـ “مهدي” أنت بخير؟
ـ أنا بخير بخير.
ـ ظننتك متعباً، أنت تجلس هكذا منذ بعض الوقت.
ـ لا تقلق يا صديقي أنا بخير تماماً.
عاد “المهدي” يقرأ آيات من القرآن، قرأ بخشوع آية الكرسي، ثم قرأ مرتين بضع آيات يحبها من سورة النور، رددها بحب، بدأ من “الله نور السموات والأرض” كان يتحسس الآيات بحب، يمرر راحة يده على كامل الصفحة وهو يعاين ارتجافة طفيفة في أطرافه.
أغلق المصحف الصغير بين يديه، قبّله ووضعه في درج سيارته، ودمدم لنفسه بخفوت:
ـ اللهم ثبتني يا رب، اللهم اعني فإنك أنت المعين.
ربط حزام الأمان حول خصره بإحكام، تطلع في المرآة أمامه إلى مؤخرة السيارة، كأنه يتأكد من وجود اسطوانتي الغاز هناك، التفت بهدوء إلى كرتونة “الجولاطينا” أسفل صالون السيارة وأعدها بسرعة وبيدين ثابتتين ـ على عكس ما توقع ـ للإنفجار، شغّل مفتاح السيارة، أمال مسند كرسيّه إلى أقصاه، قرّب المقعد قليلاً حتى لامست قدماه دواسة البنزين، وانطلق بقوة وسرعة رهيبة نحو بوابة الكتيبة.
قاد “المهدي” سيارته بخط مستقيم، متجهاً مباشرة نحو الباب الخارجي للكتيبة، لم يرفع رأسه، فقط واصل قيادته المجنونة وهو يبدل السرعة.
سمع صياح من حوله، صراخ مجنون، واهتياج محموم، وطلقات رصاص انهالت متتالية، حطم عدد هائل منها زجاج سيارته المندفعة بجنون من الجانبين والخلف، تناثر الزجاج، غطى بطنه وفخذيه، خدش بعضها خده وجبهته، شاهد قطرات دماء على ما تبقى من زجاج سيارته يأتي من الخارج، ولمح جثة داكنة، تنزاح بقوة وترتطم بجانب السيارة بجواره بالضبط، حتى أنه رفع مرفقه متحسباً لدخولها من النافذة التي تحطمت بالكامل، شعر به يدهس الجثة، حين داست عجلاته اليمنى شيئاً رطباً.
لازال الرصاص ينهمر بغزارة، وصراخ مذعور يأتيه من الخلف، ونفير هائل فيما بدا أنه أناس يركضون، وصفارات ظن أنها تأتي من نقطة عميقة بالكتيبة، لم يعرف هل تخيل سماعها، أم أنها كانت حقيقة، وسيارته في سرعتها المجنونة نحو الباب الثاني، تدوس على شيء مرتفع وحاد، فأغمض “المهدي” عينيه بقوة، عض على شفته وهو يرى الجدران من حوله تبتعد وتبتعد، وعرفه أنه اقترب من الباب الحديدي الداخلي، الذي سيفتح للثوار ثغرة لقتل المرتزقة، والحصول على السلاح لتحرير بنغازي.
ـ أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
فتح “المهدي” عينيه بقوة وهو يصر على أسنانه، عندما اقتربت السيارة من الباب الحديدي الثاني للكتيبة، ثم أغمضهما واسترخى تاركاً المقود.
ارتجت السيارة بقسوة وهي ترتطم بالباب، انقذف هو بقوة للأمام، وشعر بحزام الأمان يحز في بطنه بفظاعة، واختنق بشدة مترنحاً، حين تداعت الصور من حوله بسرعة رهيبة، لاحت له الجبال والهضاب، أطياف بنغازي كانت تأتي وتتبدد، أشكال مُتميعة غير مفهومة، رأى أمه هناك في دائرة كبيرة من الضوء ساجية تصلي بسكون، رأى طفولته، رأى بنغازي، رأى ليبيا، ساجدة وزهور، زوجته، وجه صديقه الذي حياه قبل قليل، الله الله.
واصل “المهدي” إغلاق عينيه، رأى في غشائهما دوامات أهليليجية من الأنوار، توقدت ثم خبت وخبت وخبت، ثم بدا أن بروقاً وشرارات قد انفلتت في دماغه، بعد أن أدركه شواظ النار الذي أرسله انفجار الفتيل عندما لامس البارود، قبل أن تنفجر السيارة كلها بفرقعه هائلة، وترفعها نصف متر عن الأرض.
انقذفت بقوة بعض الحصى والأحجار، ذرّت الحصيات ودومتها بالجو، والزعفران المعثر بالرمال، سبح بكثافة في مركز الإنفجار، فتكثّف الدخان شبيهاً بدوامة بحرية، تدومت ذراتها الرمادية، وتطايرت معها أشلاء بعض الجنود والمرتزقة.
أزيز الإنفجار صم آذان باقي الجنود الراكضين في كل مكان، أفقدهم التوازن، والضوء الخاطف الذي أرسله الأنفجار أثرّ بأعينهم بقوة لم يتوقعوها، فانخطفت الأجساد بسرعة رهيبة تحت الشفق الأحمر وانطرحت بقوة، كما لو أنه حقل مغناطيسي مُدوم وهائل الجذب، التهمت سياط النار التي أرسلها انفجار اسطوانتا الغاز، أجساد بعض الذين علقوا بين عجلات السيارة، فانزاحوا يتلوون ككرات من نار، صوب الفتحة الكبيرة التي أحدثها الانفجار في البوابة، لكن مئات الثوار هبوا للداخل، صوب سيارة “المهدي” الذي حلّقت روحه الطاهرة أخيراً، الى المكان الذي تمناه.