خبر فاجع حملته اخبار ليبيا التي تعودت على ان تنقل لنا الفواجع والكوارث، هو خبر رحيل عميد عمداء فن الموسيقى في ليبيا الفنان الجميل المبدع الرائع المجدد الاصيل الذي جمع بين اعمق وارقي ما في التراث، مع استيعاب لروح العصر واستفادة من الفتوحات الحديثة في الانغام والالحان، فانتج حصيلة من اجمل وارقى ما عرفت المدونة الغنائية الموسيقية في ليبيا، الاستاذ الموسيقار يوسف العالم، عليه رضوان الله.
يمثل يوسف العالم في فن الموسيقى والغناء الليبي، نموذجا ورمزا، له تفرده وحضوره الفاعل المتميز، الذي لا يكرر احدا غيره، بدأ منذ نشأته في بنغازي في حي الصابري يتعلم الموسيقى على ايدى اساتذة في هذا الفن يكبرونه سنا، حيث اتقن العزف على العود، وصار معروفا في دائرة الاصدقاء بهذه المهارة في العزف، وتلقى عرضا من مراقب الاذاعة في اواخر الخمسينيات بالانضمام الى الاذاعة، فبدأ منذ ذلك الوقت اندماجه في الوسط الفني وتعرفه على رئيس القسم الفنان الرائد على الشاعلية وابن جيله شادي الجبل الفنان الكبير ابو مدين، وكان الفنان العظيم حسن عريبي قد ترك طرابلس والتحق بالعمل في بنغازي واتصل بالقسم الفني حتى صار رئيسه فيما بعد وكانت هذه هي المدرسة او البيئة الفنية التي تلقفت الفنان العظيم يوسف العالم فباشر منذ ذلك الوقت التلحين، منتقلا من مجرد العزف مع الفرقة الموسيقية على آلة العود، واظهر منذ الحانه الاولي براعة وحساسية وجمالا، وقدرة تنبيء بان هناك عبقريا من عباقرة النغم، وكان العمل الذي عرفناه به واكتشفنا وجود هذا العملاق، او الملحن الذي ولد عملاقا، هو اغنية طيرين في عش الوفاء، باتن سهارى كنهن.
وقصة هذا اللحن ان الاذاعة تشجيعا للفن ورغبة في اظهار المواهب، اعلنت عن مسابقة بين الفنانين في مطلع الستينيات، وكانت المفاجأة ان الفنان الذي فاز بالمرتبة الاولى هو هذا الملحن الجديد الفنان يوسف العالم، وكانت الكلمات من تاليف واحد من اجمل الشعراء الغنائيين واكثرهم علما وثقافة واطلاعا على التراث الشعبي الذي انتج فيه بعض التآليف هو الشاعر الجميل والانسان البديع الراحل عبد السلام قادربوه، وتلقفت هذا اللحن وهذه الكلمات الحنجرة الذهبية لواحد من ارقى واجمل واقوى الاصوات في الغناء العربي هو فنان الغناء الشهير المطرب الاستثنائي محمد صدقي، وهذه الاغنية هي التي اعلنت عن الموهبة الخارقة في التلحين موهبة صديقنا وحبيبنا يوسف العالم، وقد تبدت فيه شخصيته التي تجلت في كل الحانه واغانيه، حيث كان ابرع اهل الالحان في تجسيد المعنى والاحتفاء بالكلمة اعطائها حقها تصويرا وانفعالا وتجسيدها بلغة الموسيقى، فلا تملك الا ان تتفاعل وتتواصل مع المعاني خلف الكلمات، دون ان يكون ذلك على حساب التطريب ولا انتقاصا من عذوبة اللحن والايقاع وجماليات الميلودي في احلى صوره واساليبه، فانت تدخل حالة تتكامل وتتناغم فيها العناصر صوتا ولحنا ومعنى، الكلمات مع الهارموني والتوزيع وتناغم الالات والعزف، وهي المدرسة التي دشنت مرحلة جديدة في الغناء الليبي، كان استاذها ومعلمها وقائدها يوسف العالم، وبهذه الرؤية وهذا المنهج قام بتلحين القصيدة الشعرية لصديقنا الشاعر المقل والذي لا يستخدم موهبته الا نادرا مصطفى الهنقاري صاحب قصيدة ليبيا يا نغما في خاطري، التي كانت مسئولة عن شهرة مطرب هو الاخر صاحب انتاج قليل ولم يواصل للاسف الشديد المشوار رغم صوته الجميل المطرب محمد نجم، ولكن مطربين مثل محمد صدقي كانت اصواتهم حاملة للتراث اللحني والموسيقى الذي انجزه الموسيقار يوسف العالم وكذلك المطرب صاحب العذوبة المقطرة تقطيرا مثل الشهد، عادل عبد المجيد، خاصة في تلك الاغنية التي يعتبرها المطرب نفسه احدى اجمل اغانيه من كلمات الشاعر الغنائي الراحل عاشورعبد العزيز والتي تقول كلماتها “ورد الجناين والزهر والحنة، والفل ياما خبروني عنه”، كما غنى له عميد المطربين الليبيين وكروان الغناء في بلادنا اطال الله عمره الاستاذ عبد اللطيف حويل، وتعامل مع جيل كامل من المطربين.
وقد بدا اعجابي به ومتابعتي له منذ استماعي للحنه العبقري طيرين في عش الوفاء، وبسبب ارتباطنا بالعمل في جهاز واحد هو الاذاعة التي كنت اكتب لها البرامج، فقد كان لابد ان نلتقي، وان تتوثق بيننا الصداقة، وكان لابد لوجود مثل هذه العلاقة الشخصية لاعرف ان هذا الابداع وهذه الموهبة وهذه العبقرية في التجديد الذي لا يفك الارتباط بالجذور والاصول لم يأت عبطا ولا صدفة، وانما من خلال شخصية، شديدة الاعتناء بالتحصيل الثقافي، و متابعة الجديد في الابداع الادبي وفي الفكر علاوة على الجديد في الفن، ولم يكن غريبا ان تربطه علاقات متينة وجميلة بعمالقة التلحين في العالم العربي مثل فريد الاطرش ومن هو في مستواه تاريخا وانجازا، وكانوا يعرفون قيمته ويقدرون مواهبه ويعترفون بعظيم ابداعه، وكان متابعا لما يبدعه زملاؤه وارتبط بعلاقات ود وصداقة وتعاون معهم جميعا، كما كان متابعا للانتاج ادباء بلاده، وفي السنوات الاخيرة وبسبب الظروف التي دخلتها ليبيا لم يكن التواصل معه سهلا، وكنت اكتفي بتلقي الرسائل منه وارسال الرسائل اليه عبر اصدقاء في مواقع التواصل الاجتماعي بينهم، الفنان الصديق جمال النوصيري والصديق الفنان فتحي بدر الذي ابلغني كيف ان الموسيقار العبقري يوسف العالم طلب منه ان يبحث عن الرواية الاثني عشرية واشتراها له ثم نقل لي انطباعه الايجابي عنها بعد ان قرأها كاملة، وهو ما يعطي فكرة عن رحابة عقلن وعمق ثقافة هذا الفنان الذي رحل هذا الصباح ولكن ابداعه وما حققه لثقافة بلاده وفنونها سيبقى خالدا الى الابد عليه رضوان الله ورحمته.