حملتني الندوة التي أقامتها الجمعية الليبية للآداب و الفنون على أجنحة قوية من المسرّة و الحُبور، مساء الثالث من أبريل لهذا العام بفضاء دار الفقيه حسن بالعاصمة طرابلس و مشاركة قوية من المختبر النقدي بجامعة مصراتة حول كتابي الذي وسمته بالمولد و جنسته “رواية” و صدر ضمن منشورات مجلس الثقافة العام قبل إثنى عشر سنة مضت 2006 و بعد أن أنجزته قبل ذلك التاريخ بما لا يتجاوز السنتين، أي بعد الفراغ من نشر الجزء الثالث من “مسارب” ذلك الذي تناولت فيه السنوات الثلاثة الأولى من عهد الفاتح من سبتمبر أي الربع الأول من العام 73 و هي المرحلة التي بدأت شهر أبريل من ذلك العام و قد تزامنت مع المولد النبوي و بلغت ذروتها بما أُطلِق عليه الثورة الشعبية، و التي لم تكن في حقيقتها سوى إعلان للأحكام العُرفية بما نُفِّذَ فيها من تعطيل القوانين و جرّ ذلك العدد الكبير من المثقفين و النقابيين و الناشطين السياسيين من الذين لمعت أسماؤهم في مسيرة التاريخ الليبي الحديث و ما ساده من حراك ملؤه المعارضة لما سيطر على العهد الملكي من الجمود و عدم القدرة على مواكبة العصر و ما شهده من مستجدات، إنه الحراك الذي كان له أكبر الأثر في تجريد ذلك العهد من أي سند شعبي دلل عليه سقوط النظام الملكي في لمح البصر مهّدَت لها كما يؤكد أكثر من مراقب مساندة بعض الأطراف الدولية الغربية، بدأت بخروج الملك المُسِن من البلاد و إصراره على البقاء بين اليونان و تركيا، و وسط دوامة من الإشاعات التي لم يكن خارجها ما تردد عن انقلاب مُنتَظَر من العقيد عبد العزيز الشلحي و استقالة تقدَّمَ بها الملك، و منشورات كانت تُوزَّع بشكل غزير و لافت و في أسلوب غاية في الركاكة و مجافاة اللياقة حمَلَ اسم الضباط الوحدوين الأحرار، و إيهام بعض الأطراف الأمنية أو تسخيرها ربما كي تتهم بها بعض العاملين في وكالة الأنباء الليبية، إلى الدرجة التي وضعت بعضهم تحت الرقابة، حتى أن سيارات الفولكس فاقن المعروفة بتبعيتها لإدارة أمن الدولة كانت تراقب صباح مساء إلى اليوم الحادي و الثلاثين من أغسطس 69 و هو اليوم الأخير في عمر النظام الملكي و هو اليوم الذي دخلت فيه ليبيا عهد آخر، حدد ساعة الصفر فيه الملازم معمر محمد عبد السلام بومنيار الذي حضر مرفوقاً بالنقيب مصطفى الخروبي إلى منزل المقدم موسى أحمد و تركا له وصية أن تنفيذ المُتفق عليه سيبدأ في الساعة الواحدة ليلاً، مع أن معمر كان قد اتفق في وقتٍ سابق مع موسى أن يكون يوم الأربعاء الثالث من سبتمبر موعداً للإجتماع مع خليل جعفر و من معه لتوحيد التنظيمين. و يبدأ موسى أحمد مهمته باحتلال قرنادة التي كانت من مشمولات غيره من المشاركين في تلك العملية و قد رأى ألا يترك خلفه جيباً و يتجه شرقاً؛ و إنما يبدأ بتأمين ما حوله و الكثير يقولون أنه حسناً فعل.
هي خلفيات حَدَت بالكثيرين إلى القطع بأن ما جرى في الفاتح من سبتمبر لم يكن مفاجأة للغرب و لكنه كذلك ليس بتدبيره و تعليماته و أن الإسراع بتصفية القواعد التابعة لأمريكا و بريطانيا ما كان له أن يحدث لولا الإطمئنان القوي من أن الذين آل إليهم أمر ليبيا مُبرَّئَيِن من أي توجه سياسي يمت إلى ما سوى اليمين بصلة، و أذكر على الصعيد الشخصي أن تقريراً أعدَّهُ أحد الصحفيين الفرنسيين الذين زاروا طرابلس في تلك الأيام ما نصه أن الذين يحكمون ليبيا هم أطفال صوت العرب و عبد الناصر 56 و ليس الهَرِم الذي يعيش شتاء العمر و ليس بينهم سوى عنصر واحد يمكن أن يُوصَف باليساري قال الكاتب يومها “احتفظ بإسمه لنفسي” و هو يقصد بالطبع -حسب علمي- الضابط عمر المحيشي و قد حسب الكثيرون يومها أن الوحدة العربية أقوى شعارات العهد الجديد قد غدَت أقرب إلى الناس من حبل الوريد، مما جعل تصريحات الدكتور المُغربي الذي ترأس الوزارة عقب الفاتح من سبتمبر و كان القذافي قد تواصل معه و القوميين العرب و النقابيين و فاتحهم في عزمه على تغيير النظام و استبعد فيها أي المغربي أن تأتي الوحدة العربية بعد أسابيع أو شهور بمثابة المُعرقلة للوحدة، ليكون رحيل عبد الناصر عقب احتفال العهد الجديد بجلاء القوات الأمريكية و مشاريع الإتحادات العربية مع مصر و السودان و مصر و سوريا من الأدلّة القوية على توالي الأزمات و قوة الدوامة و إن كان البعض يراهن على أن القذافي وحده الذي يعرف ما يريد ألا و هو الحكم و بدون قيد أو شرط و على قاعدة أن يكون لكل مكلف بأمر، المساعد الذي يمثّل العين التي ترى و الأذن التي تسمع، و اليد التي تقمع عند اللزوم، هي سياسة انتهجها هذا الرجل من البداية و التزم بها طوال الأربعة عقود التي حكم فيها البلاد و من الممكن القول أنها كانت وراء حالة الإرتباك التي طبعت مواجهة آخر الأزمات و تسببت في هذا الحجم الكبير من الخسائر التي لم يسلم منها الرجل و أسرته، و قد كان من الممكن أن تكون أقل بكثير، و التي بدأها مكابراً و انتهى منها دون ذلك؛ في نهاية المطاف، إلا أن الذي لا شك فيه أن العهد في مجمله يمثّل مرحلة مهمة من التاريخ الليبي و ليس أمام كل من يستشعر المسؤولية إلا أن يبذل الجهد تلو الجهد لاكتشاف أسرارها و ما اتصفت به من القدرة على التعاطي مع الظروف السائدة و أفلحت في إبعاد ما لاحَ من تصور دولي كان يحبذ أن تذهب ليبيا ثمناً لما كان مطروحاً من التسويات الإقليمية القائمة على بعض المشاريع الوحدوية لتغطية التسوية المتعلقة بالقضية المركزية، فإذا بالنظام الجديد يفلح في أن يكون ضمن اللاعبين و يتجاوز ذلك الترتيب، و من هنا كانت سلسلة التدابير التي جمعت بين العصا و الجزرة شرطاً من شروط المرحلة و كانت حملة الإعتقالات جزءاً من اللعبة، و كانت محاولة توثيقها و لو على الصورة غير المكتملة التي أمكن الدفع بها و العهد ما يزال قائماً تمثّل الهدف الأكبر، و قد جاءت الأوراق الثلاثة التي شارك بها الأخوة المشاركون أفضل قراءة و أثمن مكافأة عن تلك المحاولة، صحيح أنها ليست الأولى إذ سبقتها قراءة انتظمت في السنوات الأخيرة من العشرية الأولى من قرنِنَا هذا شهدها معرض القاهرة الدولي للكتاب و ترتيب مجلس الثقافة العام تحدّث فيها الناقد المصري المعروف و الأستاذ الجامعي الدكتور صلاح السروي أحد أعضاء الهيئة المديرة لإتحاد كتَّاب مصر و أدار الحوار الروائي البارز إبراهيم عبد المجيد كما انتظمت في ذات الفترة ندوة دعت إليها أكادمية الفكر الجماهيري عندما أُسنِدَت رئاستها للدكتور المهدي امبيرش و نهض بمسؤولية موسمها الثقافي الدكتور عمر حمُودة الذي كانت له ورقته و الذي طالما كان في مقدمة المنحازين لما يكتب كاتب هذه السطور و قد دعا يومئذ عدداً من الكتَّاب المتعاونين مع تلك المؤسسة التي كان لها دورها في تنشيط الحياة الثقافية دونما تعصّب للون محدد أو طيف ضيق، إلا أن الأوراق التي قُرِئت هذه المرة جاءت أكثر شمولاً، و تلك هي طبيعة الثقافة الجادة، كلٌ يستفيد من سابقيه، ليتحقق التراكم المطلوب و الجدل المُثري، إن من خلال استبطان النص كما فعل رضا أو الإقدام على التفكيك أملاً في اكتشاف الدلالة، كما حرص المالكي أو ربط النص بما سبقه كما ذهب الأشلم صاحب الموقف الجاد من مسارب في رسالته الضافية حول السيرة الذاتية التي حصل بها على درجة الدكتوراه في الفترة الأخيرة. جمعت الأوراق الثلاثة التي كونت مادة الندوة، بين الإستعانة بالتجربة الشخصية التي عاشها الكاتب رضا بن موسى، إذ من المؤكد أنه وقف عبر النص على تلك التجربة المريرة التي عاشها مع ثُلّة من رفاقه الذين بدأوا رحلتهم السجنية من الكويفية ببنغازي ليختتموها بطرابلس قبل أن تنتهي بالنسبة لهم سنة 88 تقريباً، فتجاوزت الإثنى عشر سنة أي تجاوزت الفترة التي رصدها نص المولد بإثنى عشرة مرة، إلا أن توقيتها المبكر ربما يكون قد أسبغ عليها بعض ما سطّره قلم هذا الكاتب و هو يعيد نصوصها و يشير إلى بعض مقاطعها لتُشكِّل ورقته ما أطلق عليه رئيس الجلسة الناقد رمضان سليم صفة النص على النص، ذلك أن رضا كان ضمن الذين اقتيدوا إلى سجنهم من الحرم الجامعي و هم يحلمون بمستقبل غير ذلك الذي اغتاله السجن و ما رافقه من العنف الذي لا يملك المُمتَحَن به في الغالب إلا أن يعيش ما سعى النص إلى تصوره حقيقةً أو تخّيلاً، خاصة و أن التجربة قد شملت ضمن ما شملت عرض بعض الإعترافات المُغتَصَبة على شاشات التليفزيون، فحرصت “كما عبَّرَ من استغل أول مناسبة للخروج من البلاد و إعلان انشقاقه” أولئك الشباب من إدّعاء الصمود أمام المحققين فلم يبق للضحايا أي فرصة للتعويض، و هي ذات المقاطع التي وجد فيها الناقد و الأستاذ الجامعي الدكتور عبد الحكيم المالكي عضو المختبر النقدي في جامعة مصراتة، و هو يستعين بأحدث أساليب النقد السردي و السيروي و السيميائي أن النص في صميم الأعمال الروائية ليس فقط لأن تجنيسه من قِبل كاتبه منحه هذه الأحقية، إذ على أهمية ذلك فإن ما وقف عليه الناقد و هو يفكك النص و بعض تلغيزاته، كما ذكر في مصطلحه أَهّلَ المولد للدخول في الجنس الروائي. إنها ذات القواعد التي اعتمدها الدكتور حسن الأشلم في ورقته، و إن بدا مُنحازاً بعض الشيء لرأيه القائل بأن المولد تمثّل الجزء الرابع من مسارب و التي كانت واحدة من خمس نصوص شكّلَت مادة دراسته للدكتوراه في كتابه الرائد حول السيرة الذاتية الذي تناول فيه سِيَّر عبد الله القويري و كامل المقهور و أمين مازن و علي خشيم و أحمد نصر، و لم يسمح له الأستاذ المشرف أن يضم المولد إلى السيرة باعتبارها مُصَنَّفَة كرواية، و هو على كل حال لم يُجردها من مقومات الرواية و هو يراها تُتخذ موضوعاً لهذه الندوة، و التي لم يبخل بالمساهمة فيها لمجرد أن أُحيط بها علماً و هو يحضر أحد الأنشطة السابقة، و إنما سارع بالتلبية و من ثم الحضور جنباً إلى جنب مع الدكتور المالكي و عدد من المشاركين في المختبر النقدي المذكور ليحضروا جميعاً إلى جانب الدكتور الطاهر بن طاهر حرصاً على إغناء المنشط، لا سيما و قد انعقد إجماعهم على وصف النص بأنه عمل كُتِبَ في الزمن الصعب، و هو ما لم أتردد في إبداء اعتزازي به، لتوافقه مع الرهان الذي عوُّلتُ عليه لمجرد الفراغ من الكتابة و الحصول على موافقة المطبوعات على نشر الكتاب ضمن منشورات مجلس الثقافة العام و عدم قيامي بواجب الإهداء لعديد العاملين في حقل الكلمة حتى أن الكثير من الذين حضروا الندوة تبين أنهم لم يقرأوا النص على نحو ما ذكر الدكتور الطاهر بن طاهر و الدكتور علي برهانة، على الرغم من أن الأخير كان ضمن المتواصلين مع مجلس الثقافة العام و لجانه الكثيررة. و إن كنت أعلم أن هناك من قرأ النص فور صدوره، و في جميع الأحوال فقد حَمَلَت الأوراق كل ما من شأنه أن يُعرِّف بالنص و يُوجِز الملاحظات المتكونة عنه على أحسن الوجوه و أوضحها سواء من يجد نفسه على اتفاق مع النص أو من يختلف معه، و تلك هي طبيعة الأشياء، على أن المشترك الإيجابي بين هذه الأوراق جاء في المجمل أقوى مما عداه و إذا كانت ظروف النشر بدَت عند الإستماع لأوراق الندوة التي استطاعت أن تنفذ إلى ما عشناه من صعوبات بصدد مسألة التوثيق إلا أن طيف تلك المجموعات التي امتلاء بها ذات يوم ذلك المبنى التاريخي الذي يُطلَق عليه إسم السجن المركزي و الذي أبَت المزايدة السياسية و التنكر لتاريخ الأجيال أن تزيله بالمرة حتى لا يبقى للكثيرين ما يمثله ذلك التاريخ و الذي شهد أكثر من عهد، فإن وجوه أولئك الراحلين بدَت تطل و يوشك المرء أن يناديها واحداً واحدا، و لا سيما أولئك الذين حكمت ظروف النشر عدم التعرّض إليهم لأن القاعدة التي أمكن اعتمادها هي تلك التي تتبنى القول المعروف ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جُلّه، بمعنى أن توثيق تجربة السجن على هذا النحو و لو كانت بهذا القدر من غياب المنشود و النظام الذي اقترف هذه الجريمة و داخل سلطته أجدى من انجازها في عهدٍ لا حق يمكن لأيٍ كان أن يطعن في صدقيتها و كذا إنجازها خارج الحدود لتُحسَب في الأعمال الدعائية، و إن كانت هذه أفضل مما عداها.
___________________
ندوة (قراءات في رواية المولد للكاتب أمين مازن ) التي نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون مساء الثلاثاء 3 أبريل 2018م، بدار حسن الفقيه حسن للفنون – المدينة القديمة، طرابلس.