من أعمال التشكيلي صلاح الشاردة
النقد

قلم و ريشة.. قراءة في قصيدة “اللّلا” للشاعرة غادة البشتي

كانت علاقة الأدب و لازالت مع الفنون الأخرى محط اهتمام الكتّاب و الشعراء على مر العصور، فقد كتب الأدباء عن رسامين و أعمالهم فكانت علاقة وطيدة في كل جوانبها، فالرسم و الموسيقى هما مصدر إلهام للكثير من الشعراء، كما أن الكلمات تعد مصدر إلهام للتشكيليين و الموسيقيين، إنها بانوراما كثيرا ما تجيز لنفسها الأخذ و العطاء، التأثير و التأثر، محاكاة متبادلة، فالفنون في نشأتها منذ بدء التاريخ كانت تدور في فلك واحد، و تنصهر لتعطي مضمونا مشتركا، و المتتبع لحركة النقد منذ سقراط و أفلاطون يدرك أن هذا النقد لم يفصل بين أنواع الفنون، بل كان ينظّر لها على أنها فعل يصدر عن الفنان إما بإلهام من عالم المثل، أو أنها فعل إنساني بحت يحاكي الصور الموجودة في الواقع. إلى أن جاء أرسطو الذي قسم الفنون إلى قولية و بصرية و سمعية، و على الرغم من هذا التقسيم فقد استمر الأدب في عقد صداقته مع الفنون الأخرى، ليستثمر هذه الصداقة في توصيل الأفكار و المشاعر معا.

من أعمال التشكيلي صلاح الشاردة
من أعمال التشكيلي صلاح الشاردة

و قد تمثلت العلاقة بين الأدب و الفنون الأخرى إما في كتابة الكتّاب عن فنانين تشكيليين أو موسيقيين و إنتاجهم الفني كما فعل الشاعر الفرنسي بودلير الذي كتب عن رسامي عصره، و كما فعل  الروائي أندريه مالرو الذي كتب عن كتابا عن الفن التشكيلي سماه (المتحف المستحيل)، و كما كتب رنيه شار عن صديقه بيكاسو، و كما فعل الروائي و المسرحي منصور بوشناف مع بعض أعمال التشكيليين الليبيين  و الأمثلة كثيرة في هذا الجانب .
و من جانب آخر هناك من كتب بوحي من لوحة تشكيلية، كما فعل كيتس الذي استقى تفاصيل “قصيدة على قارورة يونانية” من إحدى لوحات كلود لورين، أما سبنسر فقد استلهم بعض قصائده من زخارف القماش، و قد استلهم الشعر الإنجليزي الكثير من معالجات النحت اليوناني  .
و في ذات النسق نجد تجربة الشاعرة غادة البشتي في قصيدتها “اللّلا” أيضا مستلهمة من لوحة للفنان عبد الرزاق الرياني، ابتداء من عتبة النص الشعري المأخوذ مباشرة و دون تحوير أو تناص من عنوان اللوحة، و ذلك في تقديري يعد إقرارا واضحا من الشاعرة بمشروع كتابة نص يستنطق تفاصيل هذه اللوحة بالتحديد دون غيرها، كون هذه اللوحة تجسد تفاصيل حياة (الللا) المنحدرة من أصول ارستقراطية تظهر ملامحها في اللباس و طريقة الجلسة و المكان، و التي فيما يبدو استهوت شاعرتنا لتعطي لنفسها الحق في تقمص هذه الشخصية في مقدمة ذكية لقصيدتها عندما تستخدم أسلوب استفهام ماكرا دالا على التأكيد على أنها توصّلت بالرسام و أبلغها بأنه سيرسمها .
حَقًّا.. سَتَرْسِمُنِي؟
ثم يأتي الاستفهام الثاني الذي يدل على أن الرسم كائن لا محالة، و كأن الرسام أجاب بنعم .
كيفَ سَتَرْسِمُنِي..!
وهنا تستخدم الشاعرة الفعل المضارع المقترن بالسين ليصبح الفعل مستقبليا، كما تستخدم فعل الأمر بمكر شعري، كون الأمر له أكثر من دلالة، منها الطلب و منها أيضا الأمر، ليبقى المتلقي حائرا بين المدلولين،  و تذكرنا هذه اللغة بلغة أحلام مستغانمي في قصيدتها (كتبتني)، فغادة ترغب في أن يرسمها فنان بريشته و ألوانه،  و أحلام أيضا ترغب في أن يكتبها حبيبها بحروف و كلمات و جمل على الرغم من استخدامها للفعل الماضي، و قد عبرت غادة عنما يجول في نفس كل سيدة تمنت أن تكون هي ذات (الللا)، كما تمنت سيدات القرن السادس عشر و ما بعده أن لو كانت كل واحدة منهن موناليزا .
لكن الشاعرة و كعادة الشعراء لن تستكين ليرسمها الفنان بل ستثور عليه و على ألوانه، و هكذا هو الشعر لن يكون شعرا إلا بثورته على المرسوم و المعتمد و على كل المعتاد، فالشاعرة لا تكتفي بلوحة الموسم الواحد، بل هي لوحة كل المواسم و الفصول، و اللوحة ستكون عنوان للسيدة المعاصرة بكل الاعتبارات التي تشترطها لتكون (لللا) معاصرة، تدرس و تعمل و تكتب القصائد و الروايات مع الحفاظ على قيمها الارستقراطية  :
كيفَ سَتَرْسِمُنِي..!
وأنا
لَوْحَةٌ بِكُلِّ الفُصُولِ !
قِيثَارَةٌ بِكُلِّ الأَرْوَاحِ!
بِجسدي الثَّائِرِ عَلَيْكَ..
عَلَى فُرْشَاتِكَ وَأَلْوَانِكَ
عَلَى لَيْلِكَ..
عَلَى كَأْسِكَ..
عَلَى أَفْكَارِكَ وَ “جويَا”
إن شاعرتنا تقرر ماهية الصورة التي تريدها رسما لها، بل تتدخل في تفاصيلها، و تصف تقاطيعها، لتنصب نفسها وصية على الريشة و المساحات الملونة، فوصفت العينين و القدمين و النهدين، و قررت أن يرسمها نحيلة الملامح، عشبا و سرجا و سرا و دربا و شجرة … و ليس بإمكانه إلا أن يرسمها أرضا لا يباركها الألم . استفهامات تتوالى مع كل مقطع تفرض فيه إجاباتها .
اُرْسُمْنِي..
أَرْضًا لَمْ يُبَارِكْهَا الأَلَمُ
وَشَجَرَةً لا يَسْكُنُهَا سِوَى الصَّبَاحِ..

و تعزز الشاعرة نداءها للرسم بلغة أنثوية  يقينية صارمة تستخدم فيها أفعال الأمر بشراهة، بقولها :
هَيَّا اُرْسُمْنِي
قَدَرًا يَتَّسِعُ لِكِلَيْنَا
مُضِيئًا كَوَجْهِ وطني العَتِيق..
في ربط يسعى نحو تكامل وجهها مع وجه الوطن العتيق دون آلام و دون جراح  .

مقالات ذات علاقة

قراءة في رواية “رحيل آريس” للكاتبة الليبية د. فاطمة الحاجي

المشرف العام

جَدَل المكانِ والذاكرة عند أحمد يوسف عقيلة

سالم العوكلي

(العجوزان) حوارٌ يعبقُ بالنوستالجيا

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق