اشتيوية محمود
النظريات النقدية ترف لاحق لحياة أولية.. فيها من الحب والألم والمشاعر ما يجعلك تحس بالشبع وتحتاج لتسلية.. فإعمال الذهن رياضيا في النص ممتع جدا جدا ويتطلب جهدا يكون ممتعا هو الآخر.. فأنت تدخل النص وتبحث عن أشياء معينة “تناقض.. تشظ.. مثيرات.. خيط ناظم.. إشارات إحالية….” تتقصاها وتضم ما جد فيها لخبراتك السابقة…
إن الحفاظ على المنهج يتناسب طرديا وحياة التحضر قالت دكتورة النقد ذات محاضرة.. ولكن ماحدث معي في ذلك الكتاب -الذي يوحي بالبساطة والتعقيد في آن- لم يكن في الحسبان.. كنت كطفلة مشدوهة بمرج أخضر لايرتد إليها طرفها من جمال المنظر وسحره الآسر.. أصوات وألوان غاية في الدقة والأناقة.. غزالة بلون العسل وبقعة بخصرها النحيل ولون التوت لونها.. تضيء زغيباتها كلما سطع عليها شعاع شمسي.. وصوت قيثارة ينبعث من عاشق ولهان متيم بغزالته حتى الثمالة.. هاهي المحبوبة تتثنى وتبهج كل الحضور حتى الملكة!.. وكل القراء أيضا!…
أزياء وعطور عبقت بها غرفتي حينما فتحت ذلك الكتاب السحري.. فتجاوزت غرفة المكتب إلى البهو.. إلى أقصى العالم…
أذهلها جمال هيريديس وفستانها الفستقي وذاك الشعر بندقي اللون.. ناهيك عن حذائها المصنوع من جلد الثعبان.. تتالت الأزياء والألوان والأفكار المنسابة.. ولكن هذه إحدى ضفاف النص.. حيث تمحورت على الضفة الأخرى أنساق معاكسة لكل تلك الخضره والتثني.. وهاهي الحرب تدق طبولها، لست أقصد حرب شعب الموهيجاج مع جنود الماغيو…، بل تلك الحرب الداخلية المتوارية والأقوى على الإطلاق، فلا أحد يعرف سبب كره هيرماس لهيريديس.. حيث أخذ يبث شكوكه هنا وهناك بين أيدي الملكة على أن هيريديس جاسوسة من إحدى الطامعين…
“لكنه من المحير أن تقطع فتاة ضعيفة ونحيلة وديان فزان وغاباتها وتنجو من وحوشها وقطاع طرقها، اعترف بأنني تعمدت إزعاجها واكتشفت أنها لا تملك شيئا سوى التوسل والدموع…“… ”الفتاة أضعف من أن تغامر برأسها من أجل التجسس…“… ”السر في ضعفها يامولاتي، الممالك لا ترسل محاربين أشداء لمهمة كهذه..“
أفصح النص عن بعض الأسباب التي تجعله كذلك.. وهي أسباب تجعلك تقتنع أن ما فعله في تلك الحادثة القديمة كان صائبا جدا.. فقد كانت تلك الحادثة أولى الآهات التي سمحت لذاك السائل – القابل للإشتعال- أن ينهمر من المقل دون عودة.. فقد كان هيرماس يأوي “إلى مخدع أمه وهو في الثامنة من عمره، ليجد زوجها الجديد متكورا في مكان أبيه، اجتاحت الزوج عاصفة من الغضب تجاه الطفل الذي يتعدى على خصوصية أوقاته الحميمية، فعاقبه بربطه إلى قائم خشبي في حظيرة الخنازير وانهال عليه بسوط من الخيزران، كان السوط يشق الهواء النتن بزعيق حاد ثم يهوي بقوة على ظهر الطفل، والطفل لايبكي،…….. نزت من داخله زمجرة مثل حيوان يائس جريح، ثم انفجرت معدته بالقيء، أخرج كل ما في جوفه ولم يبق إلا الحقد الذي غمر قلبه وروحه وكل خلاياه. في المساء أطلقه الزوج من قيده بعد أن صك سمعه بكلمات التهديد والوعيد.. لكن الطفل عاد ثانية إلى المخدع، هذه المرة يحمل نصلا حجريا مدببا أغمده في خاصرة الزوج وتركه غارقا في الدم“…
ليس هذا وحسب بل غيرة الملكة تندروس.. التي يكمن تبريرها في ذاك الحوار الذي دار بينها وبين ميلائيل قائد الحرس…
“- الحائكة المقاتلة؟
– كيف تجدها؟
– كانت رائعة، لم نر أحدا يقاتل بتلك الليونة والدقة، لقد تغيرت موازين القوة خلال المعركة الأخيرة.
لا أنكر مقدرتها القتالية، لكن تغير موازين القوة قد يغير موازين الاستقرار…………
الملكة ليست فزاعة حجرية يخافون منها في النهار، وفي الليل يبولون عليها.. تعلمت كيف أجعل من نفسي جسرا ليعبر الموهيجاج نحو حياة تليق بهم،…. هل تعتقد أنه من العدل أن تأتي فتاة غريبة وجدت الطريق ممهدا فتسلقت فوق كتفي لتصل إلى القلوب، القلوب التي لا تعرف إلاالجحود والخذلان،….
لم تستطع تندروس أن تخرج من جلباب الرصانة، وتفجر مشاعر الغيرة الأنثوية الجامحة التي لا تحتاج إلى أسباب منطقية لتشتعل وتأكل قلب المرأة.“
وهكذا تمتلك القضية طابعا فلسفيا.. فليس هناك الشرير أبدا ولا الخير أبدا.
حب ميكارت لغزالته.. وإلام تشير الغزالة.. وكأننا أمام صورة مقلوبة لرواية التبر للكوني وتعلّق أوخيد بمهريه الأبلق.. فالتناص يفجر جملة من القضايا الوجودية.. الحب.. الاستقرار.. الاتصال.. الانفصال.. فقد افتدى أوخيد مهريه الأبلق بينما أفتدت سافي ميكارت…
هل يعدم الخلاص إلا في أقصى الألم؟! هل من الضروري أن تكون التضحية كبيرة إلى هذا الحد؟! هل يجب أن يكون الفداء غال جدا إلى هذا الحد الرهيب؟! لماذا؟!!!!!
وهكذا كلما تشعبت الأحداث تزداد المسافة الجمالية ويكسر النص أفق المتلقي.. فمن يتوقع موت واسين ذاك الطفل البريء الجميل.. وكأن شيئا كهذا يجب أن يحدث.. مع أين كان “لكن هيريديس كانت ساهمة عن كل ماحولها، تتأمل السماء التي لاضياء فيها، وإن كان للشر رائحة فيمكن القول أنها كانت تشم رائحة شر مستطير، لكنها لاتعلم من أي اتجاه سيأتي، وضعت يداها على قلبها المنقبض، وحاولت أن تتنفس بعمق وتملأ صدرها بالهواء لتطرد الرائحة التي تشبه رائحة الموت فلم تفلح إلا في استنشاق المزيد منها”…
وهكذا تتالت الحروب والنزاعات بين الوطاويط والبشر والثعابين وبين البشر بعضهم البعض.. فكانت الصراعات ذات النمط الظاهر.. وكانت المخفية منها أشد وقعا وألما.. هكذا تبرأت صخور الأكاكس “من الشرور المعجونة بالطين” حتى الصخور لم تتوقع موت الغزالة.. فكيف لها أن تتخيل سبب موتها.. كيف لها أن لا تزفر لهبا حارقا يجهز على الكون؟!.. فتأتي الحكمة من كل ذلك وهي أن كل ما في الكون من حياة وطبيعة.. ماهم إلا حبر يسجل التاريخ.. فقد أعلى النص من قيمة التوثيق رسما وكتابة وحفظا للأجساد…
– ”ميلائيل أنت تعلم أنه ليس للشعوب ذاكرة، لهذا كانوا بحاجة دائما لمن يكتب لهم التاريخ.. إذا لم يقرأ البشر التاريخ بين الحين والآخر فسوف يتملكهم وهم الحاضر. الوهم الذي سيقضي عليهم في النهاية حين يخفقون في قراءة المستقبل“…
فالتاريخ يقلب الموازين ويرفع قدر المغدورين.. ليكونوا بأعلى درجات السلم.. ويصدق على ذلك قول نزار قباني:
برغم النزيف الذي يعتريه
برغم السهام الدفينة فيه
يظل القتيل على مابه
أجل وأقدر من قاتليه
شخصيات رائعة مدورة يشي النص بغموض بعضها “هيريديس – مهيلا – الملكة – إيجا” وهذا ما يساعد على رحابة المساحة التي تندلع فيها الأحداث.. كم أتمنى جزءا ثانيا للنص.. فلازلت أود التعرف على المزيد مما يحدث لكل من ميكارت- هيريديس- آيجا- تندروس وكاشيون…
تمنيت لو استطعت قراءة اللوحات ولكن أحسست أنها أكبر مني.. آمل أن أطلع على قراءة تتضمن سيميائية لوحة الغلاف.