سِمة حياة البدوي هي الترحال ، ولدى لم تكن مُفردة وطن موجودة ضمن مُفردات قاموسه. فالوطن الوحيد الذي عرفه البدوي وأنس إليه هو ظهر ناقته ، التي كان يُرخي لها العِنان لتضرب في الأرض ، وتتنسم مواطن الكلاء والماء ، وحيثما توفر قدر من ذاك الكلاء والماء ، أناخ البدوي بعيره ، وحط رحاله ، ونصب خيمته ، وأقام وِأستقر في تلك البقعة حتى إذا ما أتي هو وإبله على ذاك الكلاء والماء ، وتيقن له أن تلك البُقعة قد صارت قاعا صفصفا ، نزع أعواد خيمته ، واعتلى ظهر ناقته ، باحتاً عن وطنٍ مؤقتٍ آخر.
لم تتغير عقلية البدوي هذه وفهمه لمعنى الوطن حتى بعد أن خرج من صحرائه المقفرة. ظلت مفردة وطن في قاموسه دائما مرادفة لكلمة الغنيمة. ولدى عندما خرج بدو قريش من صحرائهم المُقفرة ، وإجتاحو ما حولهم من بلاد ، تحت مُسمى الفتوحات الإسلامية ، تعاملو مع البلاد التي استولو عليها بعقليتهم البدوية تلك ، فرغم أن البلاد التي وقعت تحت سيطرتهم ، توافرت فيها كل شروط الحياة الصالحة للإستقرار ، إلا أن عقلية البدوي المهوسة بالترحال ، تعاملت مع تلك البلاد على أنها ليست سوى غنيمة ، ليست إلا محطة في طريق ترحالها الطويل والأبدي.
فبدلت ما بوسعها لإستنزاف كل موارد الحياة في تلك البلاد ، وسخرت تلك الموارد للقيام بإجتياح جديد لبلد آخر مجاور ، ولم يوقف زحفها ذاك إلا قمم جبال بلاد الغال .
ثقافة البداوة التي تقوم على الترحال والضرب في الأرض ، تلك الثقافة فُرضت على البلاد المنكوبة التي وقعت تحت سيطرتهم على أنها دين سماوي.
وصارت مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال ثقافة للشعوب الأصلية لتلك البلاد .
فتلك الشعوب التي كانت تستوطن تلك البلدان لفترات تاريخية متطاولة ، وأسست فيها لحضارات عظيمة ، أنساها إعتناقها لدين البداوة ثقافة الإستقرار التي توارتثها عن أسلافها ، وتحولت عنها لتعيش بثقافة الترحال ، التي سزقها لها البدوي على أنها وصايا من السماء.
تحت مُسمى الجهاد تحول أهل تلك البلاد ، من حياة الإستقرار التي تقوم على الزراعة والصناعة والإعمار ، إلى حياة الغزو . إستبدل الفلاح معوله الذي كان يشق به الأرض ليخرج خيراتها بسيف ورمح ، وتحول من صانع للحياة والنماء ، إلى هادم للحياة ومؤسس للموات والفناء.
تحت مُسمى الجهاد ، تحول الفلاح والصانع إلى مُرتزق في جيوش البدو ، يقاتل ليُقتل فيغنم جنة الحور العين ، أو يَقتل فيغنم أسلاب قتيله .
***
– تقول إحدى الإساطير السومرية الضاربة في القِدم، أن الآلهة إنتزعت أحد أبناء الإنسان من غابته الأرضيه المتوحشة ، وجاءت به إلى حدائقها الإلهية ليقوم على خدمتها.
علّمت الآلهة ذاك الإنسان كل ما تجيده ، علمته كيف يعتني بالمحاصيل ، وكيف يشيد الدُور ، وكيف يستأنس الحيونات ، وعلمته أيضاً كيف يكسو نفسه، ويُداري عُريه. وعند إنتهاء مُدة خدمته عندها ، أعادته إلى غابته الأرضيه ، فاستغل كل تلك المعارف التي تعلّمها في إعمارها ، محاولاً جعلها على صورة حديقة الآلهة.
ربما يكون خيال الإنسان السومري قد أنتج هذه الإسطور ، لإيجاد تفسير يبرر له نمط الحياة المتوحشة ، التي كانت تعيشها تلك القبائل الهمجية ، التي كانت تُغير على حقوله ، وتنهب مزروعاته ومحاصيله.
وبحسب هذه الإسطورة يجوز لنا القول ، أن الإنسان المُتحضر ، هو نسل ذلك الكائن الإنساني الذي إجتبته الآلهة ، وقربته وعلمته من علومها ، وأطلعته على طريقة حياتها.
وأما الإنسان الغير متحضر (البدوي) ، فهو سلالة ذاك الكائن الذي لم تتكرم عليه الآلهة بالإصطفاء لخدمتها ، فظل يعيش حياة التوحش مع الحيوانات البريه في حديقته الأرضية .
الكائنات الإلهيه بطبيعتها كائنات مُنتجة ، فهي التي أنتجت هذا الوجود ، وهي التي تقوم على تطويره والإرتقاء به ، ولذا فلقد صيرت ذاك الإنسان الذي إجتبته كائناً مُنتجا ، يُعطي للحياة بقدر ما يأخد منها.
أما الكائن الآخر (البدوي)، والذي لم ينل هذه الحُضوة من الآلهة ، فقد ظل يعيش حياة الإستهلاك، غير قادر على إنتاج أي شيء. ولذا ظل يعتاش على ما ينتجه غيره .
الكائن البدوي كائن مُستهلِك لا يُجيد شيئاً سوى القضم ، ولو عدنا للبحث عن منشأ ثقافة الإستهلاك ، لوجنا أنها ثقافة بدوية المنشأ بامتياز ، فرغم أن ذاك الكائن البدوي عاش على أطراف حضارات عظيمة ، كانت تمنحه الفرصة تلو الأخرى للإنضواء تحتها ، والخروج من حياة التشرد والصعلكة ، إلا أنه آثر ذلك النمط من الحياة ، وبدل أن يندمج في تلك الحضارات ، ليصبح جزءاً من نسيجها ، بدل ذلك ،نصب خيمته المُهترئة على أطرافها ، وإعتاش على الإغارة عليها وغزوها ، ونهب وسلب ما يقدر عليه ، ليعود ويختفي خلف كثبانه الرملية المُتحركة.
لقد كان البدو وعبر التاريخ سبب رئيسي في سقوط عديد الحضارات ، بسبب غاراتهم المتواصلة عليها، وإستنزاف قدراتها ، حتى أن بعض تلك الحضارات العظيمة، لجأت لإستأناس بعض تلك القبائل البدوية ، ووفرت لها ما تحتاجه من مأكل ومشرب ونفقات، مقابل أن تجعل منها حائط صد ، تصدُ به غارات وهجمات البدو على أطرافها ، بحيت يقفوا بينها وبين بقية أبناء جنسهم ، مثلما كان الحال مع الغساسنة والمناذرة .
نجاح البدو عبر النهب والسلب في إسقاط بعض الحضارات والقضاء عليها ، لم يكن هو السبب الحقيقي في إعاقة مسيرة الإنسانية بأكمالها .
فكلما أسقط البدو حضارة من الحضارات ، أقام الإنسان المُتحضر حضارة جديدة في ذات المكان ، أو في مكان مجاور له. بحيث ظلت مسيرة الإنسانية نحو الرقي لا تتوقف .
لما تسبب قي سقوط الحضارة الإنسانية بأكمالها ، لم يكن هو سطو البدو على الموارد المادية لتلك الحضارات ، بل كان سطو البدو على الأفكار والفلسفات التي قامت عليها تلك الحضارات.
هنا بدأت الكارثة الحقيقية ، وهنا بدأ سقوط الإنسانية في هوة مُظلمة ، ظلت تهوي فيها لما يزيد على عشرة قرون متواصلة .
نهب البدو في غاراتهم ضمن ما نهبوه ، شذرات من بعض الأفكار الدينيه والفلسفيه التي إبتكرها الإنسان المُتحضر ، ولأن عقولهم الغير مُتحضرة عجزت عن فهم المغزى والغاية من تلك الأفكار والفلسفات ، فقد فسرتها وأعادت إنتاجها بشكل مشوه، ثم إعتنقت تلك الأفكار المشوهة ، وآمنت بها ، ونسبتها للسماء ، وإستغلت الدافع الإيماني الذي منحها إياه إيمانها المُشوه ذاك ، لإجتياح كل ما حولها ،وفرض تلك التفسيرات المُشوهة للمُنتج الحضاري للإنسان المُتحضر ، بزعم أنه منحة وهِبَة خصتهم بها الآلهة دون العالمين.
هنا بدأت إنتكاسة الإنسان ، فالمَواطِن التي داهمها البدو ، وقضو عليها ، كانت هي مراكز الإشعاع لكل هذه المعمورة ، وبسقوطها سقطت حضارة الإنسان في كل هذا الكوكب ، وإجتاحت العَتمة كل أرجاء الدنيا ، حتى هلَّ عصر الأنوار من مكان قصي في الغرب ، بعيداً عن المشرق ، الذي إعتادت الأنوار أن تشرق منه على الدنيا.
***
– لقد تشوه العقل المشرقي من جراء الإجتياح البدوي، والذي قام تحت مُسمى نشر كلمة الله ، وتم إغراق الإنسان المشرقي في بحر مظلم من الخرافات والأساطير ، لم يستطع كل ما أشرق به عصر الأنوار من نور غمر كوكب الأرض ، وفاض حتى أضاء الفضاءات خارجه ، لم يستطع تبديد تلك الظلمة التي رانت على عقل هذا المشرقي ، الذي علّم أسلافه الإنسان كيف ينطق كلماته الأولى ، وكيف يخط حرفه الأول على جبين الدنيا.
لا يمكن لنا أبداً مُعالجة التشوهات التي أصابت عقل الإنسان المشرقي ، دون تخليصه من رواسب الثقافة البدوية المُستهلِكة ، والتي سيطرت عليه لقرون متطاولة . وهذا لن يتأتى لنا دون الخوض في العقيدة الإيمانية ، التي ورثها هذا العقل المشرقي عن أسلافه ، والذين أجبروا على إعتناقها تحت تهديد السيف ، أو تحت إرهاب التخويف بجهنم المزعومة.
فصل الإيمان كمفهوم إنساني وحضاري ، عن عادات وتقاليد بدو قريش ، وما جاورها من قبائل الصحراء المُتوحشة ، سيكون هو الأساس ليبدأ هذا العقل المشرقي ، مسيرته نحو التحرر والإنعتاق من سطوة البداوة ، التي سيطرت عليه لما يزيد عن ألف وأربعمائة عام ، تحت عنوان زائف ومُزور يسمى دين الله .
ذلك لن يتم ، إلا بعودة العقل المشرقي للبحث والتنقيب في ميراث أسلافه العظماء ، الذين صنعوا الحضارات قبل الإجتياح البدوي الرهيب.
بحثه ذاك سينير له الطريق ، وسيساعده في إيجاد أصول هذه المفردات الإيمانيه ، التي يدعي البدو أنها هبطت إليهم من السماء ، وبذلك سيتعرف هذا العقل المشرقي ، على تلك المفردات الإيمانيه في نسختها النقية ويدرك جوهرها ، ويستطيع بذلك فصلها عن الموروث البدوي القرشي الذي أُلصق بها.
كل مُفردة من مُفردات الإيمان البدوي المزعوم ، لابد أن تجد لها جدور راسخة ، في فلسفات وأفكار حضارات المشرق القديم ، والبدو لم يفعلوا شيئاً بعد سرقتها سوى تشويهها ، وتسخيرها لخدمة نمط حياتهم الغير مُنتجة ، ومن تم وضع ختم الله عليها ، لتكون مُلزمة وغير قابلة للتطوير أو حتى للنقاش.
لايمكن أبداً للعقل المشرقي أن يتحرر ، طالما ظل يعتنق عادات البدو وتقاليدهم ، ويعتبرها دين يدين به لله .
سياسة الهروب للأمام التي ينتهجها العقل المشرقي ، عبر محاولاته اليائسة والبائسة ، في الفصل بين ما يعيشه اليوم ، من نِتاج لإنتشار ثقافة البداوة في نسختها الحديثة المُعاشة ، ومحاولة فصلها عن جدورها الأولى ، عبر تنزيه النسخة الأصلية لهذه الثقافة ، وإعطائها مسحة نورانية ، تبرأها من هذا الواقع المُعاش اليوم ، هذا الهروب هو عمل عبثي ، لن يُفضي إلا إلى مزيد من الغرق في الأوهام .
الداعشيون الذين نُعاصرهم اليوم ، ونرى مدى بشاعتهم وقبحهم وإجرامهم ، إن هم إلا صورة طبق الأصل عن أسلافهم الداعشيون القُدماء ، الذين داهموا هذه المنطقة قبل ألف وأربعمائة عام .
نحن اليوم بمشاهدتنا لما يفعله الداعشيون المُحدثون ، إنما نشاهد صورة قد تكون مخففة عما فعله أسلافهم من داعشيو قريش ، ولو تطورت وسائل الإبداع في هذه المنطقة ، ووجد مثقف حقيقي يستطيع إنتاج أفلام سينمائية ، تستقي نصوصها من الكتب التي تروي سير الداعشيون القدماء ، وتتناولها بعين الإنسان المُتحضر ، لشاهدنا من البشاعات ، ما تتضائل معه كل بشاعات القاعدة والنُصرة وحماس وحزب الله ، وكل التنظيمات الإرهابية بمختلف مسمياتها .
العقل المرعوب عقل عاجز عن التفكير ، وطالما ظل العقل المشرقي يتناول المسائل التي تُطرح عليه للنقاش ، وهو تحت سطوة ألسنة جهنم المزعومة التي أرعبه بها البدو ، فهو لن ينتج شيئا .
الخلاص من سطوة الرعب والخوف ، هو ما سيجعل هذا العقل قادراً على وضع تلك النُصوص التي جاء بها البدو ، ونسبوها زوراً إلى الله ، ليستعبدو بها الأمم من حولهم ، وضعها على طاولة البحث والدراسة ، ولن يحتاج العقل المُتحرر من سطوة الخوف إلى كثيرِ عناء ، ليُدرك أن تلك النصوص ، لاتصلح حتى أن تُنسب إلى الشيطان ، إذا إفترضنا جدلاً وجود كائن بهذا الإسم.
إدراك المصدر الحقيقي لتلك النصوص ، ومعرفة أنها ليست سوى مفاهيم بدوية متخلفة عن الحياة ، سيوجب الخلاص منها ، والخلاص منها ، سيوجب خلاص العقل المشرقي من ثقافة الترحال والتيه والتشرد ، التي جعلته يعيش حياة البداوة روحياً ، حتى بعد أن تجاوزها جسديا.
خلاصه من ثقافة البداوة التي تقوم على الإقتتال ، والغزو ،والسلب ،والنهب ، ستكون هي خطوته الأولى نحو التأسيس لثقافة المواطنة ،التي تقوم على الحياة المشتركة ، المبنية على التعاون والتكافل، والتي يكون فيها كل فرد خيط أساسي ، في النسيج الإجتماعي للوطن المُزمع بناءه.
قِطعة الأرض هي العنصر الأقل أهمية في بناء الأوطان ، فطالما توافر الإنسجام الفكري بين طائفة مُعينة من الناس ، وتوحدت أهدافهم وتوجهاتهم ، فهم قادرون ولاشك على بناء أوطان عظيمة ، أعظم بمئات المرات ، من الأوطان المتوارثة التي لايجيد أهلها ، سوى التغني بحفنات ترابها الغالية .
لقد أسس الإنسان لأوطان وراء البحار في هذا الكوكب ، وصنع فيها أعظم الحضارات ، التي وصلت بالإنسان إلى إستكشاف مجاهل الفضاء ، وهو سيكون قادر على التأسيس لأوطان أكثر رقي وتقدم ، في كواكب أخرى بعيدة عن هذا الكوكب.
أما العقول التي ستظل تعيش على ثقافة البدواة ، التي تقول أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين ، وتظل تتقاتل وتتناحر لأجل بُقعة من الأرض ، زرعت ثقافة البداوة في عقولها ، أنها بُقعة مُقدسة عند الله ، تلك العقول ستظل مستلبة لصالح تعاليم البداوة المُقدسة ، ونهايتها ستكون حتماً هي نهاية كل ما يتعارض مع قوانين الحياة ، التي تقوم على التقدم والتطور والإرتقاء .
نهايتها الحتمية هي الإنقراض ، إما على يد القوارض التي تعشش في عقولها وتقرضها ، وإما بمبيدات القوارض ، والتي سيضطر الإنسان المُتحضر يوماً ما لإستعمالها ، عندما ييأس من صلاح هذه المخلوقات ، فيضطر لإبادتها ، حتى لاتستمر في إعاقة الحياة عن التقدم والنماء.