تشيع في مجتمعنا الليبي وباقي المجتمعات العربية ألقاب تشريفية يتخاطب بها الناس فيما بينهم في لقاءاتهم اليومية وفي مناسباتهم الخاصة والعامة، لعل أكثرها شيوعا ألقاب مثل: (الحاج والشيخ والأستاذ)، وليس ثمة عرف اجتماعي ثابت يحدد من يُطلق عليه لقب من هذه الألقاب، والواقع أن المرء في ليبيا يحتار في مخاطبة من لا يعرفه، فإذا كان الشخص ملتحيا ولباسه عربيا يمكن أن يخاطَب بلقب (شيخ) أو حاج)، أما إذا كان لباسه (إفرنجيا) فهنا تتزاحم في الذهن الألقاب المحتملة فهل هو شيخ أم حاج أم أستاذ؟ أم هو يستحق كل هذه الألقاب؟ وأيها المناسب له؟
إن لقب (الحاج) كان في الماضي يطلق على من أدَّى فريضة الحج فقط، ويحظى صاحبه في المجتمع بوافر التقدير والاحترام، ولكن بات الآن لقبا مشاعا يخاطَب به معظم كبار السن ومن ظهرت عليه علامات الشيخوخة سواء حج أم لم يحج، لأن عبادة الحج ارتبطت في ذهن عامة الناس بأن أكثر من يقوم بها هم كبار السن.
ولقب (الشيخ) الذي ينبغي أن يختص به العالم في الدين أو خطيب الجمعة أو إمام المسجد، نراه يطلق جزافا هكذا على فئات كثيرة من المجتمع، فالمعلم عندنا (شيخ)، وكذلك القاضي والمحامي والمؤذن والموظف في المحكمة وفي التعليم وغيرها من الوظائف والحرف، وكل من عُرف بين الناس بالصلاح والتقوى والتزام الصلاة في المسجد، ولو كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة.
وكذلك لقب (الأستاذ) المفترض أن يختص به المدرس في المدرسة والجامعة، يطلقه الناس في هذه الأيام على فئات اجتماعية كثيرة، ويمكن أن يطلق على أي موظف كبير الرتبة أو صغيرها، كما يمكن إطلاقه على كل من يرتدي ثيابا (إفرنجية) سواء أكان معلما أو تاجرا أو ممرضا أو سائق تاكسي…إلخ، فليس له من ضابط يضبطه، شأنه في هذا شأن لقب (الشيخ)، فالمدرس وإمام المسجد والموظف ومنشد المدائح والموشحات يمكن أن يشتركوا في لقب الشيخ والأستاذ معا.
وسأترك هذه الألقاب العامة لأتوقف عند لقب علمي خاص يميز من يعنيه عن غيره من الأفراد، ولا يمكن اطلاقه على كل فرد كيفما اتفق، وأعني به لقب (الدكتور) الذي لا يطلق في الأصل إلا على من تحصل على شهادة الدكتوراه في علم من العلوم التطبيقية أو الإنسانية ووصل إلى درجة التفلسف فيها، لكنه في ليبيا وفي غيرها من المجتمعات يطلق عرفيا على كل من تخرج في كليتي الطب والصيدلة مع أن الشهادة التي تمنحها هاتان الكليتان هي البكالوريس.
والملاحظ أن لقب (الدكتور) طغى على كل ما سواه، ويقدِّمه الناس على غيره من الألقاب حين يكون الإنسان مستحقا لأكثر من لقب، فقد يكون المتحصل على شهادة الدكتوراه حاجّاً أو عالما في الشريعة أو مهندسا، لكن أكثر الناس لا يخاطبونه بلقب حاج أو شيخ أو باش مهندس، بل يفضلون مخاطبته بلقب (الدكتور)، لأنهم يدركون أن من موجبات الاحترام والتقدير أن تخاطب الإنسان بأفخم وأحب لقب لديه.
وأكثر الناس في بلدي وباقي بلدان العرب جارحون كالصقور، ولا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب، فالدكاترة في نظرهم ليسوا سواء، بل درجات ومراتب، فدكتور النحو والصرف أو الأدب والنقد أو علم النفس أو الفلسفة لديهم (مجرد مدرس)، وليس كدكتور الطب والهندسة والتصنيع وعلوم البحار والفضاء، وهذا يشي بأن الناس يزدرون في دخائل نفوسهم العلوم الإنسانية ويرون أن العلوم التطبيقية أفضل وأنفع منها، إلى جانب هذا لم يسلم بعض الدكاترة من الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات من تحقير الناس لهم والاعتداء عليهم في أماكن أعمالهم، وكثيرا ما تتردد عندنا في ليبيا العبارة الساخرة الشهيرة: (دكتور العازة والقهرة) تعبيرا عن عدم رضا الناس عن دكتور ما، وقد يكون سبب هذا السلوك العدواني تلك النرجسية التي تصيب بعض الناشئة من الدكاترة، وتظهر في تصرفات وأقوال توحي للناس بأن الدكتور إنسان مغرور يحتقرهم ويسفِّه أراءهم.
ولا شك أن هناك كثيرين من الدكاترة قد شهد لهم الناس والمؤسسات العلمية التي يشتغلون فيها بالتواضع وسمو الخلق، وكانت شهادة الدكتوراه دافعا لهم للتألق والإبداع في مجال التخصص.
لكن إلى جانب هؤلاء هناك عدد لا بأس به ممن تَعْتَعتْهُ (نشوة الدكتوراه) حتى أفسدت سلوكه وأتى بما لا يليق من الأقوال والأفعال، والواقع أن لهذا اللقب وقْعا لذيذا في أذن بعض من يعنيه ومن يحرص على سماعه، فهو يُشْعره حين يُنادَى به بين الناس بالفخار والانتشاء والزهو، وبأنه قد ارتفع إلى مصاف علية القوم وأعيانهم وساداتهم، وحين يُنادى باسمه مجردا يشعر بالإهانة والضعة، ويحاول قدر جهده أن ينبَّه مخاطبه الذي يجهله بما يفيد أنه (دكتور)، وليس شيخا أو أستاذا أو من عامة الناس،كأن يقول له مثلا: قل لفلان أن الدكتور (…) يسلم عليك.
وشعور بعض من نال لقب الدكتور رسميا أو عرفيا لا يكاد يساويه إلا شعوره بالسعادة الغامرة والفرح الكبير في يوم عرسه، وبعض العائلات في البوادي والأرياف تقيم الولائم الفاخرة وتطلق الزغاريد والرصاص في الهواء، وتتلقى التهاني من الأسر والقبائل بمناسبة حصول ابنها على شهادة الدكتوراه، وترى والد الدكتور وأهله يحرصون أشد الحرص على تعريف ضيوفهم بأن لديهم ابنا هو الدكتور فلان، لذلك من الطبيعي أن يحرص الدكتور من هؤلاء على أن يعرف القاصي والداني أنه دكتور وعلى الجميع أن يخاطبه بهذا اللقب.
والحق أن حرصه على أن يخاطبه الناس بلقب (الدكتور) ليس مما يعاب ويلام عليه، فمن حقه على الناس أن يحترموه ويخاطبوه بلقبه العلمي، كما هو يحترمهم حين يخاطب أحدهم بلقب الشيخ، وذاك بلقب الحاج أو الأستاذ، إنما مما يعاب على الدكتور هو عدم أهليته للقب الذي يستحقه، فكم من دكتور تلعنه الدكتوراه وتتبرأ منه.
ولئن استفاد الناس من علم وخبرة بعض (الدكاترة) فإن هناك أطباء وصيادلة وأساتذة جامعات لم ينتفع الناس بعلمهم، كما هم انتفعوا بالمزايا التي توفرها لهم شهاداتهم، ولم يسعوا إلى رقي ونهضة شعوبهم كما سعوا إلى التزلف وتملق ذوي المال والسلطان، لأجل الكسب المادي والوجاهة الفارغة، ويبدو أن المؤسسات العلمية التي درسوا فيها لم تنبههم إلى أن ثمن مرتبة الدكتوراه هو الصدق والأمانة والاخلاص في العمل والتفاني في إتقانه، وقد يحتج هؤلاء بأن سياسة الدولة وثقافة الناس لا تشجع على البحث وبذل الجهد للرقي بالمهنة والتخصص العلمي، وهذه الحجة غير مقنعة إلا لمن آثر الكسل على الجد والاجتهاد، ثم إن الدولة والناس لا يمنعون أحدا من اتقان عمله والبراعة فيه، فمن الذي يمنع الطبيب من تطوير تخصصه ومتابعة المستجدات الطبية المتسارعة؟، ومن الذي يمنع الأستاذ الجامعي من تطوير مقرراته وتقديم الأفضل لطلابه؟
وكيف نُفسَّر سبب تخلف بلاد الأف مؤلفة من مواطنيها من حملة الشهادات الجامعية الأولى والشهادات العليا والدقيقة المتخصصة؟ ولماذا لا يحرص سيادة الدكتور على النبوغ والتميز في مجال تخصصه كما يحرص على أن يناديه الناس بـ (يا دكتور)؟
نعم قد يؤثِّر المجتمع بعصبيته وجهَّاله في الفرد ويملي عليه سلوكياته وأفكاره وعاداته وينزع منه أجمل ما في شخصيته من سجايا ومثل عليا، ولكن أية شخصية التي يؤثر فيها المجتمع ويسيطر عليها؟
إنها الشخصية الضعيفة غير المستقلة التي تربت على التقليد والاستنساخ والإذعان للأقوى، ومع أن صاحبها يحمل لقبا علميا محترما تجده هو والعوام سواء بسواء في نمط التفكير وفي السلوك، لذلك لا غرو أن يشيع في البلاد الجهل وفساد الأخلاق بين طبقات مختلفة من المجتمع، والحق الذي لا مراء فيه أن الجهل ما شاع في بلد إلا لأن المتعلمين من أبنائه تعليما عاليا لم يستطيعوا أن يكونوا قدوة صالحة في القول والعمل لمن لم تتح لهم فرص التعلم والتثقيف الجيدين.