إن الانتماء إلى الوطن لا يشكل بالضرورة دليلا على الولاء له. فاقتناء بطاقة الهوية لا يعني أن حاملها قد تولدت عنده ثقافة الترابط، أو قد نشأ عقد بينه وبين وطنه، لا تزول بنوده، بحكم المصلحة أو الظروف مهما كانت. لذلك فمعيار الالتزام بالولاء للوطن يكون في السلوك الذي يترجم مشاعر الاعتزاز بالانتماء، ويصل الى حد القبول بمقومات التضحية في سبيل حماية استقرار الوطن، وصون كرامته، والذود عن سيادته.
ونظرا لأننا نواجه اليوم مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي الناتجة عن تنامي قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات، والهادفة إلى تطويع عقول أجيالنا وتوجيه أفكارهم، علينا ضرورة التركيز على إشاعة ثقافة المكان والولاء للوطن والتمسك بوحدة الوطن وهويته، وليس الولاء للحزب أو القبيلة، ليتلازم الانتماء للوطن مع الولاء لقيادته في كل الحالات والمقاييس والأدبيات.
وعندما يصبح الولاء للوطن على رأس أولوياتنا، نستطيع الوصول إلى دولة القانون والمؤسسات، لأن الولاء قيمة ثابتة لا تتغير. أصبحت مسؤولية تحصين أجيالنا المقبلة وتنمية مداركهم وتوجيه عقولهم نحو الولاء للوطن والاعتزاز بالانتماء للوطن واجبة وضرورية من خلال ترسيخ المبادئ التربوية التالية:
أولا: إحلال مبدأ التشرف بالمواطنة مكان التفاخر بالقبلية والحزبية وتشجيع روح الفريق الواحد بدلا من الانفرادية والأنانية، مع ضرورة التركيز على الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تحثنا على هذه المبادئ.
لقد عجز الحزب في المجتمع عن تقديم نفسه بديلا عن القبيلة، وأصبح في كثير من الأحيان أداة احتياطية لخدمة الانتماء القبلي لبعض أعضائه في صراعهم على المغانم السياسية في دولة وجودها بالنسبة لهم مشروطا بخدمة القبلية، لأنه ليس من خلال الوطن بل من خلال القبيلة فقط يستطيع هؤلاء أن يتميزوا ويحصلوا على مكانة..
والساسة الليبيين في المشهد السياسي الحالي يعول على القبيلة وليس على الحزب او غير ذلك الذي يمكن الاستغناء عنه، بل يمكن اختفاؤه من المشهد السياسي دون أن يتغير شيء في هذا المشهد. لا يمكن تأسيس أي كيان سياسي انطلاقا من المنطق القبلي والجهوي لأن تسييس هذين العاملين يهدم ولا يبنى، فهما يمثلان ما أسميه “بنية الانقسام الذاتي” لأن كلا منهما يحمل في ذاته بذرة انقسامه على نفسه إلى ذرى تسبح في فضاء التشظي إلى حد العدمية.
حيث تم التقدم إلى الانتخابات على أساس الاختيار الفردي وبعيدا عن شعارات الأحزاب، بينما ظلت القبلية والجهوية حاضرة في خدمة الجهويين والقبليين الذين وصل عدد منهم إلى البرلمان، وهو عدد لا يعكس القاعدة الانتخابية المؤيدة لتوجهاتهم، بل بسبب عزوف الناس عن الأحزاب ولاسيما تلك المنتمية منها لتيار الإسلام السياسي الذي كره الليبيون ممارساته وحلفاءه من المليشيات والجماعات المتطرفة والتكفيرية العابرة للحدود، والتي أوصلت الوطن إلى ما وصل إليه، فبفضل الثقافة المعادية للأحزاب وبسبب ممارسات تيار الإسلام السياسي نشأت حالة من الفراغ استغله الجهويون والقبليون ليستثمروا الجهوية والقبلية استثمارا سياسيا مثل ما استثمر قبلهم الإسلام السياسي الدين بالكيفية نفسها.
السؤال الاهم من نحن؟
إنّ تحديد معنى من نحن» سيُحقق لنا ما يمكن أن نطلق عليه «الهوية الليبية الجامعة»، التي يمكن اعتبارها نقطة انطلاق لإعادة بناء الدولة، والتي من دونها لن يستطيع الليبيون تحقيق مفهوم الوطن الذي يحلمون به، ويرفعونه شعارا لهم. الحقيقة المرّة؛ هي أن بعض النخب، المتصدرة للمشهد السياسي، تجد بعضهم، لا يهمه تقييم ما تُقدمه من أفكار ومشاريع وبرامج.
الثقافة السائدة الان: من أي عائلة أنت لمعرفة طبيعة ونوع الانتماءات العائلية والقبلية والعرقية والجهوية والثورية والفكرية، وأن المعايير العلمية والموضوعية الأخرى مثل: المعرفة والكفاءة والخبرة والأمانة والنزاهة والمقدرة، لا قيمة ولا وجود لها. وهذا دليل، واضح وخطير، على وجود أزمة حقيقية وعميقة، في مفهوم هويتنا وطبيعتها ومكوناتها. عليه فتحديد أسباب الازمة والسعي الجاد لحلها، أصبح أمرا مهما وضرورياً..
فتشكيل الهوية الليبية الجامعة، هو محاولة للوصول إلى «الذات الوطنية» التي من خلالها تتطابق مواهب المواطنين وإمكاناتهم، مع الأدوار السياسية والاقتصادية والاجتماعية الممكنة والمتاحة لهم، وتقوّي انتماءهم واعتزازهم بوطنهم، ويكونون بذلك قادرين على تحديد نقاط قوتهم، ويستطيعون اتخاذ القرارات الصعبة، ومعرفة كيفية التعامل معها بنجاح.
12.9.2022
يتبع