المقالة

صَحافة زازيَة *

حرية الصحافة (التشكيلي نواف الملا)
حرية الصحافة (التشكيلي نواف الملا)

ما يشبه ترسب التجارب والمعرفة

ما فيش صحافة في ليبيا، هذا كلام مستفز ومؤلم لشخص مثلي يعتقد أنه يعمل في الصحافة، جرح كبريائي؟ نعم ،يجرحكن/كم أيضا؟ لابد ، ولكن ماذا تقصد الناس بهذه العبارة؟ قبل 2011 كانت تشير إلى معنى واحد، أنه لا يمكن ولا بأي شكل انتقاد النظام وصاحبه الذي وصفه بالبديع، والأمر حساس للحد الذي دفع صاحب النظام، إلى قتل مشروع ابنه في غدٍ يلّمح لغيابه، ولكن أليس لدى الناس الحق في قول ذلك؟ لأنه وكما هو واضح ،لا يراها الناس صحافة لأنها تقول فقط مالا يثير حفيظة صاحب النظام .

2024 تقول صديقتي هدى هل تصدر صحف في ليبيا؟ وينها؟ ترى هل تقصد هدى القارئة والمهتمة والمطلعة والقانونية أنه وبصورة مشابهة ما فيش صحافة في ليبيا بالغمز السياسي نفسه؟ أم أنها تقصد حرفيا أنها ليست تُقرأ، أو غير موجودة في الأساس، باعتبارها لم تصادفها؟ وجُرح كبريائي ثانية، فأنا أكتب في هذه الصحافة اللا مرئية ، لا مرئية بكل ما تعنيه السلطة الرابعة من مراقبة وانتقاد للسلطات، وكشف كل ما يتعلق بالفساد، ونشر الوعي بالحقوق والحريات ، وعليه فهي بهذا المعنى لا مرئية لا قبل لاتّوا.

إذاً الناس لا تعرف أن فيه صحافة؟ وإن فيه شعب كامل يعمل في هيئة عامة للصحافة، يعتقدون وأنا منهم أننا نعمل؟ وأننا ننقسم حسب اعتقادنا أيضا إلى صحفيات/صحفيين، وإدارة بها موظفات وموظفين يفترض بها أن تخدم أهل الصحافة ليتفرغوا لصناعة صحافة جيدة لها تنشاف وتنقرا ، ولها تطبيقات ومواقع ، وأعداد ورقية بعدة طبعات بسبب النفاذ؟

لا، بالطبع لا. اعتراف آخر يجرح كبرياء كل الصحفيات والصحفيين بمختلف تخصصاتهم ،ومن ضمنهم أنا ،التي عُينتُ بصفة محررة في 1994 ,وصفتها في شهادة مرتبها في 2024 موظفة ، وأن هذا حدث عادي عند صاحب الإدارة، فهل ترون ذلك أمرا مقبولا يا أمة الصحافة في الهيئة العامة؟ لا أعرف، فنحن لا نتقابل، نحن عشائر متفرقة، ومهجّرة بالهادي الله، وتحت حسّ مسّ.

ماذا أعرف إذن؟

في 1989 أفزعت بوي حينما قفزت في مقعدي بجانبه في طريقنا إلى غريان، حيث أدرس في كلية المحاسبة، وسبب تلك الصرخة المرحة والقفزة، هو تحقيق مصور منشور على ثلاث صفحات من مجلة شهرزاد، من يذكرها؟ نعم، المجلة الليبية والتي كانت تصدر من قبرص ، كنت اشتريت المجلة كعادتي، فأنا مغرمة بها، بسبب نوع القضايا التي تطرحها، ولكن ما المميز في ذلك الصباح وأنا ووالدي في السيارة النيسان البازيليا تنهب بنا الطريق المظلل بشجر السرو فيما تبدو الجبال وكأنها خيال بعيد؟ حسنا ، احم احم التحقيق المنشور كان لي، وكنت شاركت به في مسابقة أعلنت عنها المجلة وجائزتها 400 دولار لاكتشاف مواهب صحافية، كنت أنشر في الأثناء مقالات نسوية واجتماعية في العموم في جريدة الطالب منذ نهاية مرحلة الثانوي، ولكن في شهرزاد بالصور التي التقطتها بالكاميرا الخاصة بوالدي، في أول تجربة لي مع التحقيق المصور؟ كان ذلك بمثابة ختم بالموافقة على تعبير كتبه لي صديق مراسلة من أنني أملك موهبة صحفية جيدة، جملة قادتني إلى تسلق سلم صحيفة الطالب ومن ثم مصعد عمارة الصحافة ، التي أعلنت في 1994 عن رغبتها في تعيين خريجين وخريجات من كليات منها تخصصي ،الاقتصاد.

الجائزة قُلصت إلى 150 دولار تقريبا ،فحسب تنويه المجلة لم تصل مشاركات مكتملة فنيا للحصول على المبلغ المعلن سابقا- حيلة ليبية بامتياز_ ثم أنني لم أحصل على المبلغ الذي اشارت المجلة أنه سيُرسل لمن تُنشر مشاركته، لم يصلن أبدا. هل استأت من ذلك؟ طبعا، غير أنه بدا لي النشر في مجلة لغتها وأفكارها عالية، إنما وثيقة رسمية لتحول شبه تام في مستقبلي المهني على ما ظهر، ولا ننسى أنه كان زمن السخرة ومازال، فمسألة المقابل المادي المجزي وإلى هذه اللحظة من العام 2024، غير واردة، مالم تكن مديرا/ة في أعلى طابق في الدولة أو في أعلى طابق للهيئة العامة للصحافة، إننا نُدار أيتها العزيزات ،أيها الأعزاء ، وحرفياٌ بنظام التسويق الهرمي.(إمالا الناس علاش يتقاتلوا عالمناصب؟)

الفطام عن روتردام

2023 بعد اجازة قصيرة أولية مع عائلتي في البلاد التي تركتها قبل تسعة أعوام تقريبا، ولم يبدو أنني أعطي الموضوع الأهمية التي يستحقها ، حتى رأيت وجه أمي يضيئ قائلة: زي الحلم، سعاد تضهور في اطرابلس! ومن تلك الزاوية رأيت البلاد مجددا، فسمحت للسعادة بالتسلل من كل خلية فيّا، حتى خفت أن يكون ذلك شعور الواهم، لهذا عدت في نفس العام للبقاء ثلاثة أشهر، كنت أردت اختبار الأمل، ثلاثة أشهر كما لو كان قراري فترة تجريبية للعودة، و قياسا لبيئة الحياة، لذا تخليت عن حذري وقطعت صلتي بروتردام و بلديتها كما لو كانت فطاما اختياريا، و قلت : لأبحث عن عمل لي هناك، هكذا بادرتُ موظفة البلدية بالجواب عن سبب مجازفة المغادرة لفترة طويلة، لكن المفطومة عادت خالية الوفاض، منفية إلى حيث لا يراني أحد تماما كما في 2010، مفلسة ويائسة، وقبالة موظفة البلدية ذاتها، كان عليّ سماع سؤالها الذي مس كرامة جنسية بلاد مازال من الصعب تسميتها وطن: لماذا عدتِ؟

صحافة ما لقيت الطب لعيوني

لا أعرف كم عدد الأشخاص الذين يطلبون شهادة مرتب من إدارة الصحافة، ثم شعروا أنها تبدو أقرب لشهادة وفاة، فلشخص مثلي فإن شهادة الوفاة ،أعني شهادة المرتب تلك ظهرت في مرتين تفصل بينهما 14عاما بالتمام والكمال، لم يتحرك في صياغتها شيء، أما عمارة المرش التي طار مرشها، ارتفعت فيها الأسوار. واتفصّلت دويرات وأبواب بين الممرات، ووسط حوش عربي مسقف، تغرق في أضواء النيون، ولا أثر لضوّ ربي، هكذا كنت أفكر فيما أجلس قبالة موظفة البلدية، في قاعة واسعة مفتوحة على النهار، تسمح برؤية الجميع مع توفر الخصوصية ،هذا الحيز الصغير والأنيق كان كل ما رغبت أن تكون عليه زاويتي في عمارة الصحافة، كنت حزينة، وأجبت على سؤالها المنطقي وإن بدا لئيما: لم أجد عملا هناك. كنتُ أقصد لم أجد لي مكانا هناك، قلتها بكل شعور الحرّاقة، وكررتها دونما سبب: لم أجد عملا هناك، كما لو كنت أقنع نفسي، خجلت عوضا عن كل أموال ليبيا من أن أقول، حسابي البنكي فارغ.

ما هى شهادة المرتب؟ إنها سيرة مهنية ومالية لعمل صاحب هذه الشهادة، ويفترض أنها تفصح عن درجته وتسميته الوظيفية ،وحقوقه المالية ،والتزاماته الضريبية، ما أثار رغبتي في التقيؤ، أن شهادة المرتب لهذا العام 2024، تشبه أختها في 2010، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وأن حتى ما طرأ من تغير في قيمة المرتب إنما هو قرار حكومي(يشابه ما حدث تجنبا لفبراير 2011) وليس اعتمادا على مطالبة الناس بحقها في الرفاه، أعني أننا كصحفيات وصحفيين إنما يمشي علينا ما يمشي على الجميع، يعني الصحافة بمفهومها الوظيفي إنما تُقاد ولا تقود. هل هذا يُعقل؟ والسؤال الأهم، لماذا مازال يحدث؟

سؤال المليون

ما وظيفة الإدارة في كيان صحفي مهما كان اسمه؟ لطالما شغلني هذا السؤال، ليس لأن لا إجابة له، بل لأن ما تقوم به الإدارات المتعاقبة ووصولا إلى الحالية هو تسميم بيئة الصحافة، إذ ظللت في مرحلة الفطام (الشهور الثلاثة الأخيرة من العام 2023) أتردد على عمارة الصحافة لشؤون إدارية فقط، كان علي فيها أن أدور بين المكاتب، للسؤال عن اجراءات يفترض أنها من صلب عمل الإدارة، أي أن الإدارة ورئيسها مهمتهما الأساسية هي تقديم وتسهيل الخدمات للصحفيات، و الصحفيين وإدارة شئونهم المالية تلقائيا ومن دون حاجة لترددنا على مكاتبها، لذا حين تطلب الإدارة من الصحفي/ة أن يكتب طلبا لتعديل درجته/ها، أو تماطله في استرداد أمواله، فلابد أن هذه الادارة بها خلل حقيقي، مكنّها من أن تبتلع الصحفيين بحقوقهم وكرامتهم من الجنسين وتمد لجميعنا لسانها،(يرفعوا في حوافظ المرتب كلٌ لمصرفه بنفسه) وبالتالي ،نية عدم الحفاظ على كيانهم المستقل وذواتهم سليمة كصحفيات وصحفيين واضحة، فمجرد حاجتي لتذكير الإدارة بعملها بالتذلل بطلب إنما هو عدم احترام، وممارسة فوقية غير مفهومة إلا إذا كان مصدرها هو ضعف البناء الهيكلي والتنظيمي، وما يسببه من سوء معاملة ، وتمييز، واستخدام السلطة في جعل الحق العام، حقٌ خاص، ومن التغاضي عن انعدام الشفافية في إدارة الأموال ، وغياب معايير التقييم، ومعدلات الأداء ، الأمر الذي يحول دون قدرتنا كعاملين في العموم، من فهم نظام الجزءات، والمكافأت ،والتكليفات أو الحدود الفاصلة بين الصلاحيات، ما أدى إلى أن تسند مهام على الورق بصورة شكلية (زلباحة) تحمّل المكلف مسئوليات الوظيفة فقط دون أن يترتب على ذلك أي كلفة مالية زيادة، أو أي اعتراف بتراكم الخبرة، مثال : أنا مستشارة رئيس الهيئة للشئون الصحفية، لكن المستشارة ، صفتها موظفة في شهادة المرتب ،اتقاضى راتبي على الدرجة المدرجة فيها، وهذا أمر قديم يعاد ببراعة، إذ ظل يحدث لأعوام طويلة جدا، فكل الإجازات التي عملنا فيها  ومهام  إدارة الملفات والأقسام في صحف الهيئة،  كانت تكلف الإدارة صفرا شمال مرتباتنا الهزيلة، وهذا مازال يحدث  بكل هذه الدقة حتى الآن. الفرق أن التكليفات القديمة كانت شفهية، الآن تخسر الإدارة بعض الورق والحبر ، لذا يمكنني القول أنها إدارة متلاعبة، تسيّر بالمزاج الشخصي والحب والكره، والخدمات المتبادلة ، ليس أدل على ذلك من هذه العبارة الشائعة “علاقتك كويسة بفلان/ة؟” هي العلامة المؤكدة على أننا لا نعمل في مكان له إدارة كفؤة، بل في ملكية خاصة يديرها أشخاص مرتاحون إلى درجة السماح بكل هذا الازدراء والحرمان. وهذا الأمر يثير البغضاء والعداوات بين زملاء المهنة، مما يؤدي إلى تفكيك وتدمير قيم وأخلاق المجتمع الصحفي – وهو أحد أهم قنوات التواصل بين أفراد المجتمع وسلطاته الثلاث. هيئة  يفترض أن تكون بيئة جاذبة للشغوفين والمواهب ،ناهيك عن الكفاءات من العاملين في مجالات الصحافة المتنوعة، بل ويجب أن تكون مختبرا للأداء الصحفي، ومكانا يتدرب فيه طلبة/طالبات الإعلام، وأن يرتبط بصلات وثيقة ودائمة بهدف استخدام المعرفة وتشجيع النقد ،ونشر الوعي وقيم الديمقراطية والحريات وذلك مع وزارة الثقافة ووزارة التعليم، مع الأكاديميين والمثقفين ومطوري البرامج، ومع كل ما يتعلق بالاتجاه الجديد للإعلام ، بأن يتواصل التدريب ،وورش العمل المتنوعة عالية الجودة ودورات اللغة المتخصصة بصفة مستمرة، وخلق مساحات لطيفة للقاءات العاملين في المكان بما يسمح بالنقاشات ، والتبادل المريح للأفكار ،ما رأيكم في مقهى يشغل طابقا كاملا؟ لا، هذا وفاق خطير، مازال لا يُسمح به ،عمدا أو مجرد فقر في الخيال.

لطالما حلمت بالتغيير ، تغيير بنية التفكير ، لا الأشخاص وحسب، لأن ما يبنيه الشخص الكفؤ في هذه البيئة الطاردة، يذهب معه ،لذا ما يجب أن يتغير هو الأساس الذي بني عليه هذا النظام البائس للهيئة العامة للصحافة ،لأن الهيكل السليم، والمتطور، محدد ولابد بتقاليد هي دستور يسيّر الكيان بغض النظر عمن يديره،  لأنه وبالعودة إلى شهادة المرتب التي تصفنا بالموظف/ة ، إنما هي صورة مصغّرة لما يفعله سوء الإدارة ، وتضخمها، بكل واحد فينا وكيف أنها تحطم معنوياتنا وتمحو تاريخنا الشخصي، وتقتل بتواتر متعمد الشغف والحماسة ناهيك عن الابداع، و أنها بوصفها لنا بالموظفات والموظفين، إنما تحولنا إلى عمالا بلا ملامح، وتحول حقوقنا إلى منّة، وتحاول اقناعنا بأننا رهنا للجهة التي ترسل للإدارة  في فلوسنا ، وجميع هذه السلوكيات إنما تمنهج تجريدنا من صفاتنا وما يترتب عليها كسلطة رابعة، وهو ما عرقل أدائنا الرقابي، وتعطيلنا عن المساهمة في صناعة الرأي العام، ومن تناول قضايا حيوية تخص بناء الدولة، وتجذير ثقافة الحقوق، ورفع الوعي بأهمية الانتباه للتفاصيل الصغيرة التي تشي بما هو أعظم، مثل صفة موظفة/ موظف في شهادة مرتب يسلمونها للصحفيات والصحفيين من غير ما يحطوها في ظرف.

هل هذا يجاوب على سؤال الناس الساخر والمتواصل: هوّا فيه صحافة في ليبيا؟

ملحوظة : أعفيت نفسي بنفسي من مهمة الحبر على ورق، فأنا المستشارة التي لا يُشاورها أحد، والتي حتى مبادرتها لم يرد عليها أحد،

ملحوظة قبل الأخيرة: ال إيميل (البريد الإلكتروني) مازال شيئا أشبه بالخيال العلمي في إدارة ومعاملات الهيئة العامة للصحافة، إي نعم، في 2024.

ملحوظة أخيرة: أنضم بلا تردد لكل من يريد تغيير بُنية نظام صحافة زازية العام، والذي يرهقنا ويشتتنا ليراعي مزاج اصحاب الطوابق العليا في نظام الدولة، وعمّالها في الطوابق العليا لهيئات ومؤسسات لبلاد. 


* وصف سمعته من قارئ مفترض للصحافة الليبية!

صحية فسانيا | 4 يونيو 2024م.

مقالات ذات علاقة

التاسع من أغسطس! ذكرى تأسيس الجيش الليبي 

شكري السنكي

هل أنا علماني؟!!

المكي أحمد المستجير

رمتني بدائها وانسلت

أحمد معيوف

اترك تعليق