الإثنين, 21 أبريل 2025
دراسات

الإعمار بين أمانة المسؤولية ومنهجية التخطيط

قراءة لكارثة سبتمبر 2023 وتداعياتها السلبية في ليبيا

آثار فيضان وادي درنة في 10 سبتمبر 2023 (الصورة: عن الشبكة)
آثار فيضان وادي درنة في 10 سبتمبر 2023 (الصورة: عن الشبكة)

بسم الله الرحمن الرحيم

قد عرض الله الأمانة على الإنسان فحَمِلها، وصار مُكلَّفًا مسؤولًا، مُكَرَّمًا، وسخَّر الله له كل شيء في سبيل تأدية المهمات المنوط به إنجازها في هذه الدنيا؛ ومن سنن الله تعالى في الكون أن كل شيء يقوم على نظام ويسير وَفق قوانين تحكمه؛ فأمانة المسؤولية والاحتكام إلى المنهج هو أساس نجاح كل عمل، وضياع الأمانة وغياب المنهج هو خراب حتمي.

وقد عانت الأمة كثيرًا من فَقْد النظام وتلاشي المسؤولية وإلقاء اللوم على الآخرين، والركون إلى الذين ظلموا؛ فغرّتهم الأماني وأهلكتهم الوعود معتمة الملامح.

وما ينبغي للإنسان أن يتمادى في الخذلان، وليس من العيب الاعتراف بالخطأ، بل إنه الفضيلة، فيجب أن نعترف، ويجب أن نبدأ، كلٌّ بنفسه، حتى ينتظم الجميع في سلسلة متعاضدة ومتكاتفة تمثل مجتمعا مسلما مثاليا، ينهض بأمانة الله في هذا الكون.

والإنسان لا يعيش وحده في هذا الكون؛ بل في مجتمع، تربطه به علاقات كثيرة متشابكة لا تنفك بحال؛ فهناك العلاقات الإنسانية داخل المجتمع الإنساني، كما أن هناك روابط صلة بالحيوان والنبات والجماد، والأرض والسماء.. والإنسان الذي هو حامل الأمانة، ومناط التكليف، عليه أن يحسن إدارة تلك العلاقات ويُفيد ويستفيد مما آتاه الله، وذلك هو شكر النعمة.

وليست عملية اﻹﻋﻤﺎر([1]) ببعيدة عن ذلك؛ فإنها من روح الأمانة والمسؤولية ويضبطها النظام والمنهج. وكما أن الإنسان ليس منفردا ولا وحيدا، فكذلك معالجة الأشياء التي تتعلق به لا تكون كذلك؛ فإعادة الإعمار وبناء المجتمعات بعد الحروب أو بعد الكوارث الطبيعية، ليست منصرفة إلى التنمية العمرانية فقط، بل تتعداه إلى ما هو أعم من ذلك؛ حيث إنها ﻤجموﻋﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ اﻹﺟﺮاءات. تتمثل في أربعة ملامح رئيسية:

  1. تحقيق الاستقرار الأمني، والتأهيل النفسي، ونشر الوعي الثقافي، وتخصيص دورات تعليمية وتثقيفية لمعرفة السلبيات ونقاط الضعف؛ لتلافيها.
  2. إصلاح البنية التحتية بكافة أنواعها.
  3. معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية.
  4. تعزيز الجانب الديني. مما ينعكس على أسلوب الشخص وخدماته الفردية والمجتمعية، وكذلك مسؤولياته.

وتعزيز الجانب الديني وصحوة الضمير من أهم مقومات نجاح عملية الإعمار؛ لأن كثيرا من الظواهر السلبية نجد وراءها بُعدًا حقيقيا عن تعاليم الدين وغياب للضمير والإخلاص والأمانة، والركون إلى الكسل والتهاون في مقدرات الدولة والتفريط في ميزانياتها بغير رشد؛ مما يَصِم الفرد والمجتمع بالتأخر، ويكشف عن نقص حقيقي في فهم الإسلام…

كما نود أن نذكِّر أنفسنا بأن الإعمار فريضة ومطلب شرعي وواجب ديني؛ وذلك بالإشارة إلى الآية الكريمة: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحًا قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ}([2]).

فكما نرى، في الآية الكريمة توجيهٌ بإخلاص العبادة لله وحده، ويستلزم من ذلك إقامة الدين وعدم التفرق فيه([3])، ثم تذكيرٌ بأصل النشأة من الأرض، ويستوجب ذلك تعظيمها وعدم الإفساد فيها([4])؛ فمَن لا خير فيه للأرض لا خير فيه لشيء، ثم تكليفٌ باستعمار الأرض واستصلاحها وإحيائها بالزرع والبناء، ومقتضى ذلك ختام الآية وهو: الاستغفار والتوبة([5])، فأول الآية حثٌّ على العبادة وختامها تأكيد على أن النجاح في أي شيء لا يكون إلا بالرجوع إلى مستحق العبادة، وهو الله ، الرب القريب المجيب، سبحانه وتعالى.

فمعنى «الاستعمار»([6]) هو طلب العمار. أي: استخلفكم في الأرض، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكّنكم في الأرض؛ وأمركم بعمارتها، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها([7]).

ومن هنا يكون المنطلق الحقيقي لعملية الإعمار؛ بأن نغرس في أذهاننا أن ذلك فرض ديني قبل أن يكون مسؤولية مجتمعية أو واجب وطني مؤسَّسي؛ وأن نحاسب أنفسنا ونراقب أعمالنا ونراجعها من حين لآخر، ولا عيب إطلاقا في المراجعة والاعتراف بالخطأ ثم تقويمه وتصويبه، فإن ذلك يُفضي إلى تجدُّد حركة التغيير والتنمية في مفاصل كل عمل؛ حيث تبدأ المسؤولية الفردية قبل المؤسسية في انتظام السلوك العام والحفاظ على الروح الإيجابية في المشاركة الوطنية في إنجاز كل عمل.

وإن غياب المسؤولية الفردية يُضيّع التعاون المجتمعي، فتتهاوى البدايات، وتضل الخطوات، وتندثر الأهداف، ثم يفتح أبواب الفتنة، فيسقط المنهج والتخطيط، وتحل العشوائية والتردِّي؛ ولذلك ذكرت أن من مقومات إعادة الإعمار: تعزيز الجانب الديني؛ وتأصيل فكرة المسؤولية الفردية ودورها في بناء الأمة المسلمة وتحديد مسؤولياتها على نهج قويم وتخطيط سديد، يبني وينمّي، ونظام إداري راشد يقرر الصلاحيات والمسؤوليات والحقوق، والإشراف والمراقبة والتوجيه والمتابعة([8]).

عن أَبِي ذَرٍّ رضِيَ اللهُ عنه قال: قلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي: قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنَّهَا رَأْسُ الْأَمْر كُلِّهِ». قلتُ: يا رسولَ اللهِ زِدْنِي. قَالَ: «عَلَيْكَ بِتِلَاوَة الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ، وَذُخْرٌ لَّكَ فِي السَّمَاءِ»([9]). فمِلاك النجاح هو تقوى الله، واتباع منهج الله في القرآن والسُّنة، وانتهاج الإخلاص سلوكًا وتطبيقا وضبطا للنفس؛ الإخلاص بكل أنواعه: الديني، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والعلمي… فهو أساس نجاح الأمم وسر كل تطور يعيشه البشر؛ وهو معيار النجاح في جميع المجالات، ويتحقق بتفعيل الرقابة الذاتية ومراجعة النفس ومحاسبتها([10]).

ولقد قرن القرآن الكريم بين الإيمان والعمل، وأوضح أن الأعمال ستُعرَض يوم القيامة، ويراها الله ورسوله والمؤمنون: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ  وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}([11]). فيتطلب من الإنسان تفعيل الرقابة الذاتية بصفة مستمرة والاستعداد ليوم تبلى فيه السرائر([12])، ويُحصَّل ما في الصدور([13]).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». ولفظ أحمد: «إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ، فَلْيَغْرِسْهَا»([14]). ففي هذا الحديث تشجيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمل الخير ولو في أضيق الأحوال وأصعب الظروف.

قيل لأحدهم ما حملك على إحياء الأرض والتعمير والغرس وأنت في آخر عمرك؟ فقال: ما حملني على ذلك طمعا في إدراكها، ولكن تذكرت قول الشاعر:

لَيْسَ الفَتَى بِفَتىً لَا يُسْتَضَاءُ بِهِ          وَلَا تَكُونُ لَهُ فِى الأَرْضِ آثَارُ([15])

وفي القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ}([16]). والمقصود بالإمام هو الكتاب([17]) الذي تُسجَّل فيه أعمال الإنسان، كتابًا يلقاه منشورًا([18])، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة([19]). وفي الحديث النبوي: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ.. انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ؛ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له»([20]). وهذه بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هناك أعمالا صالحة لا ينقطع ثوابها، وهي: الصدقات الجارية، أي المستمرة والدائمة التي لا تنقطع تشبيهًا لها بالماء الجاري؛ وإن العمران والمشاركة فيه من الصدقات الجارية التي تخلّد مجهودات القائمين على تنفيذه بإخلاص وسببا لمضاعفة حسناتهم في الدنيا وفي الآخرة. كما أن من العلم الذي ينتفع به كل مشاركة أو كلمة أو مقالة أو دراسة تساهم في منهجية الأعمال وتدل الناس على الطريق. ولا نستبعد أن الولد الصالح ليس شرطا أو وقفًا على الابن بالنسب؛ فقد يكون ما تتركه من تأثير صالح في الأشخاص مما ينعكس إيجابيا على تصرفاتهم وإنتاجهم وتقويم سلوكهم وكذلك تأثيرهم في الجيل الذي يليهم. كما فَهِمْنا من القرآن أن نسب العقيدة والصلاح أقوى من نسب الأرحام([21])، وبالتالي فإن أي تأثير صالح إيجابي لا ينقطع ثوابه، إن شاء الله. كما أنه قد يُتَوَقَّع من الأنساب والأصهار عداوة([22])، وفي الآخرة يتعادى الأخلاء إلا المتقين([23])؛ إذن جوهر الأمر هو التقوى ورباط الصلة هو العمل الصالح، وجريان الحسنات بالتأثير الإيجابي الفعَّال([24]).

ثم يأتي دور الالتزام المؤسسي وأصحاب النشاطات التجارية بالمساهمة في التنمية، والعمل على تحسين الوضع الاقتصادي، مع التحلي بروح المواطنة الصالحة، وامتثال القيم والمبادئ المتفق عليها في ممارسات المؤسسات المتسمة بالجدية والشفافية، وتحقيق تكريم الإنسان بإتاحة ظروف العمل المناسبة والراتب المجزئ، وكذلك  الالتزام بالمحافظة على الطبيعة وعدم استنزاف الموارد بصورة غير راشدة، مما يفضي إلى تحقيق التنمية المستدامة([25]) التي تهدف إلى توفير الاحتياجات الإنسانية الأساسية([26])، وتحقيق العدل والمساواة، وترشيد الاستهلاك؛ ويتطلب ذلك تعاونًا وطنيا وإقليما ودوليا، لأنه مسؤولية مشتركة نحو تحقيق المزيد من المنفعة المتبادلة لجميع الأطراف المعنية بالاستقرار والحياة الكريمة([27]).

ويستلزم ذلك أن تُخَوَّل الأمور إلى الأكْفاء من أصحاب القرارات الحكيمة، المشهود لهم بحب الوطن والسعي في تحقيق مصالح المجتمع دون مطامع شخصية، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، مسؤول يتصف بالإيجابية والقدرة على التغيير وأخذ القرار([28]).

وكل شخص منا مسؤول في موقعه، مهما تكن وظيفته ومهما تتفاوت أهمية الأعمال المنوط به إنجازها؛ نشير بهذا إلى الحديث الشريف الذي رواه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلا، كُلُّكُمْ رَاعٍ؛ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ. أَلا، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ؛ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»([29]).

نخلص مما سبق إلى أن التجارب الناجحة تقتضي بأن يكون مشروع الإعمار متكامل الأركان مصحوبًا بتأهيل أفراد المجتمع للنهوض بالمسؤولية.

ويتجلى ذلك في معالم رئيسية، وهي:

البنية التحتية الضرورية للمجتمعات الإنسانية: الأمن والاستقرار، توفير الطاقة، توفير المياه، دعم الزراعة، النقل والمواصلات، التنمية العمرانية… إلخ.

وكذلك البنية التحتية للخدمات الأساسية: التعليمية، الصحية، الثقافية، الرياضية، الترفيهية.

وكذلك البنية التحتية الرقمية: شبكة الاتصالات، الإنترنت، رقمنة الإجراءات الحكومية([30]).

إضافة إلى تعزيز الجانب الديني والوعي الثقافي.

وفي هذا الصدد نلمِّح بإعادة النظر في تجارب الآخرين، والاستشهاد بالنماذج الناجحة لتكامل منظومة الإعمار؛ سواء بالإشارة إلى مدن ليبية حققت المعادلة الناجحة، أو الإشارة إلى بلدان عربية أو غير عربية، ونستفيد من نهضتها وأسس تحسُّن اقتصادها وملامح الإعمار الحقيقي المتجلي في البنية التحتية فيها؛ سواء أكان ذلك بعد حروب أو كوارث طبيعية([31]).

في ختام هذه الكلمة أود أن ننتبه إلى مرض عضال نعاني منه جميعا، وهو أننا نعاين حدوث المشكلة، في أنفسنا أو في مجتمعنا؛ فنتركها تظل تنمو وتتضخم، ثم لا يكون منا إلا أن نألفها ونعايشها؛ وتسودنا في نهاية الأمر حالة مستتبة من العجز والكسل.

«اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ، والكَسَلِ، والجُبْنِ، والبُخْلِ، والهَرَمِ، والقَسْوَةِ، والغَفْلَةِ، والعَيْلَةِ، والذِّلَّةِ، والمَسْكَنَةِ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الفَقْرِ، والكُفْرِ، والشِّرْك، والفُسُوقِ، والشِّقاقِ، والنِّفاقِ، والسُّمْعَةِ، والرِّياءِ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الصَّمَمِ، والبَكَمِ، والجُنُونِ، والجُذامِ، والبَرَصِ، وَسَيِّىءِ الأَسْقامِ»([32]).

فيجب أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب؛ وتكون محاسبة النفس بمراجعة ما نعمل؛ ننظر فيه، ونختبره، ونعدّله، أو نعدِل عنه. وما ينبغي لنا أن نغض الطَّرْف عن المشكلات الماثلة والصارخة بما تكابده من منغِّصات، أو أن نرجئها إلى أجل مجهول، أو نوكل أمرها إلى غير أهلها؛ فليس من العدل ولا من الأمانة أن نتغافل عن مجابهة الخطر، بل الواجب أن نتكاتف جميعا على مواجهته بالعلم والرشاد والحكمة، ولا عيب إن لم نكن نملك مقومات ذلك، فلنتعلم كيف نعمل، ونستعين بالأكْفاء الخبراء الحُصَفاء؛ فإن احتكاك العقول المؤمنة يتولد عنه الضوء الذي ينير الطريق.

وبعدُ،

فإننا نتفاءل خيرًا ببرنامج إعادة الإعمار في المدن الليبية، ونترقب أن يؤتي ثماره على النحو المنشود، كما نتطلع إلى مزيد من البحوث والدراسات العلمية حول منهجية الإعمار،  فلا طريق إلا طريق العلم.

وفيما يلي تسجيل لأهم النقاط المتعلقة بكارثة سبتمبر مع توصيات ومقترحات:

  • إعصار دانيال بدأ في 4 من سبتمبر في اليونان، وانتهى في ليبيا 12 من الشهر نفسه لعام 2023.
  • امتد إلى بعض المناطق المصرية بعد أن فقد 80% من قدرته في الأراضي الليبية.
  • وصل إلى ليبيا ليلة العاشر من سبتمبر 2023.
  • خلّفت الكارثة خسائر فادحة وتسببت في كثير من التلفيات والأضرار بكل أنواعها على الإنسان وعلى الممتلكات العامة والخاصة، وانمحت بعض الآثار التاريخية، كما اندرست بعض القرى؛ لا سيما المنازل التي في المنخفضات ومرمى السيول. وانسدّت المرافق العامة للتصريف، مما أدى إلى غرق بعض المساجد ودور الرعاية الصحية، كما تضررت شبكة الكهرباء بشكل كبير.
  • ازداد الأمر سوءًا في درنة، من جراء انفجار السَّدين لعدم قدرتهما على الامتلاء وتحمُّل الضغط، وأيضا لحاجتهما إلى الصيانة؛ وكان أسوأ ما لاقته درنة هو الخسائر البشرية، وفقدان عشرات الآلاف وغرق عائلات بأكملها.
  • لا بد أن نعترف أن الأهالي وكذلك المسؤولين لم يكن في حسبانهم أن تكون خطورة الأمر بهذا الشكل.
  • وأيضا لا بد أن نعترف أن غياب الوعي والتخطيط المسبق للتعامل مع مثل هذه الكوارث أدى إلى تفاقم الكارثة، وشكّل عشوائية في التصرُّف.
  • عدم تعاون المسؤولين وأولي الأمر في تنمية البنية التحتية للدولة والعمل على النهوض بها أدى إلى إهمال كثيرٍ من المرافق والخدمات، مما كان سببا في تفاقم المشكلة وتزايد عواقبها الوخيمة على الجميع.
  • غياب التخطيط العمراني والرقابة الهندسية، وانتهاز الفرص، أدى إلى لجوء بعض الناس إلى البناء المخالف للمعاير الهندسية، أو البناء في المنخفضات غير مراعين في ذلك مجاري المياه الطبيعية أوالسيول في فصل الشتاء.
  • توصيات للأهالي:
  • أخذ الحذر والاحتياط بعدم البناء في المنخفضات، لا سيما التي تتمركز فيها السيول.
  • من الإيمان الاهتمام بمرافق الوطن، وعدم إلقاء القمامة والمخلفات في مجاري المياه.
  • التعاون المخلص مع المسؤولين على مجابهة الأخطار، والخوف من الله في التحايل على المال العام، بطلب تعويضات في غير محلها، أو لأسباب واهية، وقد يكون لا أصل لها من الأساس. والمواطن الذي يحتال على الدولة في الحصول على تعويضات ليست من حقه إنما يأكل في بطنه نارًا، وقد نهى الله عن أكل السُّحْت، ولن يعود هذا عليه إلا بمزيد من التعاسة والخسران([33]).
  • توصيات ومقترحات للمسؤولين:
  • توعية الطلاب في المدارس من خلال المقررات المنهجية أو النشاطات المدرسية وكذلك الأهالي من خلال البرامج المتاحة الإذاعية أو المرئية؛ بتوعيتهم تجاه التعامل مع الكوارث؛ حتى لا تتفاقم الأمور.
  • ترتيب دورات تدريبية تثقيفية لهذا الغرض من حين لآخر؛ للعمل على إعادة التأهيل المبكرة([34]).
  • توسيع مجاري مياه الأمطار، بحيث تستوعب الكميات الهائلة من المياه، وتحسبا من تكرار مثل هذه السيول، لا قدر الله، كما يسمح بمرور سيارات التنظيف وجرافات التطهير.
  • تكليف البلدية بتطهير المصارف ومجاري المياه بصفة دورية.
  • توفير مساكن جاهزة مسبقة الصنع، مستوردة من بعض الدول المصنعة، والتي لها خبرة في هذا المجال.

تُسَلَّم لكل شخص انهدم منزله أوتضرر ضررا كبيرًا؛ لأجل تخفيف المعاناة، بشرط أن يُرَكَّب المسكن الجاهز في أرض مرتفعة بعيدة عن مجرى السيول، بموافقة قطاع الزراعة، فيما يخص سكان الريف، وَفق الإجراءات المعمول بها، أو يمنح إفادة من قطاع الإسكان والتخطيط العمراني بعدم المنع من تركيب المسكن مسبوق الصنع في مكان مناسب، بحيث لا يتعارض مع التخطيط العمراني.

  • مجابهة عشوائية البناء، والتعامل مع التعديات الزراعية وفق القانون.
  • توقيف عمليات البناء بدون تصريح وإذن كتابي بالموافقة من الجهات الرسمية.
  • إقامة جسور بين المرتفعات، وإنشاء الأنفاق  لكل حي من الأحياء السكنية لتصريف مياه الأمطار، لا سيما المدن المتضررة. وذلك بوضع خطة آجلة.
  • الخوف من الله بعدم إهدار ميزانية الدولة والتصرُّف في المال العام على حسب المصالح الشخصية، أو التودُّد إلى البعض بغية أغراض خاصة، أو للتباهي وبناء مجد باطل على حساب مال الله الذي هو أمانة في عنق كل مسؤول ومتصرف. فإن الحساب على المال العام أشد من الحساب على المال الخاص؛ فإن كان الإسراف والتبذير في المال الخاص يُعَدُّ فاعله سفيهًا بوصف القرآن ومن إخوان الشيطان؛ فإن فِعْل ذلك في المال العام والتحايل على الدولة يعد كبيرة من الكبائر، وجريمة يحاسب عليها الله في الآخرة إن فلت فاعلها من العقاب بقانون الدنيا([35]).

وفي الختام، لا بد من كلمة شكر للقائمين على تقديم المساعدات([36])، من أفراد أومؤسسات أو دُول، وتوفير المواد الغذائية والأدوية وغير ذلك من الحاجات الإنسانية الأساسية، وأخص بالذكر صندوق التضامن الاجتماعي بفروعه، والجمعيات الأهلية، والمفوضات الوطنية، التي ما زالت في الميادين، تساعد وتعين، وتخفف من أعباء الفجيعة، وتنصح وتوجّه، وتثقِّف وتوعِّي، وتقدِّم ما يتوفر لديها من إمكانيات.

وإننا ندعو الله ونأمل من أمتنا أن نتعلم من هذا الدرس.

الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين
وعلينا وعلى عباد الله الصالحين
اللهم آمين


[1] –  إعادة الإعمار –  دراسة في طبيعة المفهوم. د. طليس ابتسام. و د. فريدة حموم.

[2] – سورة هود، الآية: 61.

[3] – سورة الشورى، الآية: 13.

[4] – سورة الأعراف، الآية: 56.

[5] – سورة نوح، الآية: 10 – 12.

[6] – مصطلح «الاستعمار» في الأصل مصطلح قرآني إسلامي ذو دلالة إيجابية؛ لكن الغرب المعاصر وأتباعهم من المقلدين المفتونين اعتمدوه مصطلحا سياسيا لتغطية أطماعهم السوداء وما مارسوه من احتلال الأراضي ونهب الثروات ومقدرات الشعوب وإذلال المجتمعات والتدخل الغاشم في حياتهم. والكلمة في الأصل مشتقة من التركيب عمر الدال على العمران. والاستعمار يعني طلب العمار. [ينظر المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم:  عمر].

  فتشير الكلمة لغويا إلى معنى الإعمار، كما أنها تفترض وجود خراب أو فراغ أو تأخر في منطقة أو بقعةٍ ما من العالم، فيجد المستعمر من هذه الحجج ذرائع للقدوم إلى هذه المواقع الجغرافية واحتلالها بدعوى إعمارها، وبحجة تحويل حالة التأخر التي يقبع فيها أهل هذه المنطقة إلى وضع أفضل من خلال مشاريع البناء والإعمار والتحديث. أما المعنى السياسي لهذه الكلمة فإنه يعني استعباد الشعوب من قِبل المستعمرين. ذلك أن واقع الاستعمار يتميز بأنماط معينة، منها: الاستعباد، السيطرة، ثم الاستغلال. وإذا كان المستعمرون يعتقدون بأنهم يقدّمون مشاريع الإعمار والبناء من أجل مصلحة البلاد، وأن الاستعمار عندهم له مدلول إيجابي، فإن واقع الحال ليس كذلك، فالشعوب التي تعرضت للاستعمار قد عانت منه كثيرا وطويلا وتُعدّه مدلولا سلبيا؛ فأينما حل الاستعمار كان الخراب الاقتصادي والاستغلال والاستعباد. [ينظر كتاب: الاستعمار. المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر].

  فيجب أن ننتبه إلى قلب المصطلحات وإطلاقها على غير مرادها بفِعل المغرضين أعداء الوطن واللغة والدين.

[7] –  ينظر: تفسير السعدي: للآية  61 من سورة هود.

[8] –  المسؤولية الفردية في الإٍسلام. د. عدنان رضا علي.

[9] –  الترغيب والترهيب: 2 / 298.

[10] –  الإخلاص في العمل وأثره في بناء المجتمع. د. عبد هادي فريح القيسي.

[11] –  سورة التوبة، الآية: 105.

[12] – سورة الطارق، الآية: 9.

[13] – سورة الزلزلة.

[14] –  رواه أحمد 12902، والبخاري في الأدب المفرد 479، وعبد بن حميد 1216، والبزار 7408.

[15] –  ربيع الأنوار ونصوص الأخيار، للزمخشري. ج. 1. ص. 211.

[16] – سورة يس، الآية: 12.

[17] – مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني. ص. 87.

[18] – سورة الإسراء، الآية: 17.

[19] – سورة الكهف، الآية 49.

[20] – صحيح مسلم: 1631.

[21] – سورة هود، الآية 46.

[22] – سورة التغابن، الآية 14.

[23] – سورة الزخرف، الآية 67.

[24] – سورة الكهف، الآية 46.

[25] –  المسؤولية المجتمعة للمؤسسات. د. صالح الحموري. أ. رولا المعايطة.

[26] – حاجات الإنسان الأساسية في الوطن العربي. برنامج الأمم المتحدة للبيئة.

[27] –  التنمية المستدامة سياق وآفاق. د. سامي العدواني.

[28] –  الأسس النفسية لتنمية الشخصية الإيجابية للمسلم المعاصر. مجموعة من المؤلفين.

[29] –  رواه البخاري 7138،  ومسلم 1829.

[30] –  الفصل الثالث من كتاب «إعادة الإعمار». أ.د. علي محمد الخوري.

[31] –  دراسة بعض تجارب إعادة الإعمار وتلاؤمها مع الاحتياجات الإنسانية. نور مطانيوس عبود.

[32] –  دعاء نبوي شريف. صحيح ابن حبان 3 / 300. وصحيح موارد الظمآن 2 / 456، برقم 2072. والنسائي 5493. والحاكم 1 / 530.  والبيهقي 1 / 459. والطبراني في الصغير 1 / 199.  والضياء المقدسي في المختارة 3 / 41. وصححه الألباني في صحيح الجامع 1 / 406.

[33] – حرمة المال العام في ضوء الشريعة الإسلامية. د. حسين حسن شحاتة.

[34] – إعادة التأهيل المبكرة أثناء الصراعات والكوارث. منظمة الإنسانية والاندماج، المملكة المتحدة.

[35] – استغلال الوظيفة في الاعتداء على المال العام في الفقه الإسلامي. د. أيمن فاروق صالح زعب.

     – الضوابط الشرعية لتصرف الإمام في المال العام. د. ماهر نضال جمعة رطروط.

[36] – عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ» رواه أحمد      وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان. وورد في رواية الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لمْ يشْكُر النَّاسَ لَمْ يشْكُر الله» رواه الترمذي في كتاب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك. وورد في رواية الإمام أحمد عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أشكرَ الناس لله عز وجل أشكرُهم للناس».

مقالات ذات علاقة

المواقع الثقافية الليبية على شبكة الإنترنت

رامز رمضان النويصري

شريفة القيادي… سنديانةُ الكتابةِ النسائيةِ

يونس شعبان الفنادي

قراءة في الرواية الليبية.. من كتاب أكسفورد «تقاليد الرواية العربية» (4/7)

المشرف العام

اترك تعليق