الثلاثاء, 22 أبريل 2025
شخصيات

أمين مازن.. مهندس القيمة (4-3)

أمين مازن.. مهندس القيمة
أمين مازن.. مهندس القيمة

3- أوْلِيس الوطن

لم يكن أمين مازن ليغدو، في واقعنا الثقافي، فارس الزمن الجميل، بل الأجمل، لو لم يكن مهندس الهوية الوطنية بلا منازع، طوال تجربته الفكرية منذ نهايات خمسينيات القرن الزائل، حتّى واقع اليوم، من خلال إدمان التحريض المحموم على حبّ الوطن، لا بقلمه وحده، ولكن بمواقفه السياسية أيضاً، ليستنزل في هذه العاطفة الإنسانية سلطاناً لا يُقهر، يكفي برهاناً أنها، في معجم التقوى، القرين الأكثر حميميّة لمفهوم الربوبية، ليزكّيها شفيعاً في العلاقة مع ما كان، في يقين كل الأمم، قدس أقداس، كما الحال مع أحجية كالوطن، الذي نجهل حقيقته، وبرغم ذلك لا نتردّد في أن نجود بأرواحنا، كي نفتديه كلّما حاق به بلاء، كما لقّننا أسلافنا، الذين حملوه في قلوبهم، وطافوا به متاهات الصحراء الكبرى، كي يُجيروه من دنَس الدخلاء، الذين لم يكفّوا عن غزو شريطه الساحلي عبر القرن، ليرث فرسان، أمثال مازن، معنى أن يموت سليل الوطن، دفاعاً عن حرمة الوطن، على النحو الذي عبّر عنه أمير الشعراء أحمد شوقي، في رثاء أمير الشهداء عمر المختار، كما أسلفنا.

هذا اللغز الغيبيّ، الذي كان هَمَّ الأجيال، هو الوصيّة في تجربة فارس الزمن الضائع، ليكون الترجمان المخوّل بالتحريض على إعادة الاعتبار لمنزلته، في واقعٍ آخر، يختلف عن واقع الفرار بالوطن عبر الصحاري، هو واقعٌ وليد، ولكنه واعدٌ بالخلاص، كما هو الحال مع واقع الإستقلال، الذي روّج له كبعثٍ من عدم، وتقديم فروض الولاء لهذا الملاذ، مسئولية كل فردٍ وجد في نفسه الكفاءة، كي يتباهى بخصال المواطن الصالح، في مرحلةٍ مزمومةٍ، بفعل تشوّش الواقع الاجتماعي البريء برياح الأيديولوجيات الشوفينية الدخيلة، المعادية لواقعٍ يتنفّس برئة الميثولوجيا، ويراهن على ميتافيزيقا الحبّ في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، في محيطٍ تتعدّد فيه الأعراق الثقافية، عبر تعايش ألوف الأعوام، لتستزرع هذه النزعات الشريرة (الأيديولوجيات) بذار الفتنة في نسيج الإنتماء للوطن الواحد، فتفلح في اقتلاع ركيزة المكوّن العبري من المجتمع في 1967، ولا تقنع بهذا النزيف، ولكنها لم تهنأ حتّى اقتلعت شقّاً آخر من لحمة الوطن، وهو المكوّن الإيطالي، في 1970، ولم تكتفِ، ولكنها استبسلت في اقتلاع ركيزة المكوّن الأصلي نفسه، الأمازيغي، طوال العقود التالية، وكادت أن تفلح، وتقضي على ما تبقّى من ثروة الوطن الروحية، لو لم تتدخّل الأقدار، فتقتلع هذا الوباء أخيراً، في زمنٍ ظَلّ فيه سادن في مقام أمين مازن يُنازل ببسالة، كأنه عنقاء مغرب، في سبيل إنقاذ روح هذا الملاذ المنيع، الوطن، الذي مورست في حقّه صنوف المحو، ولكنّه نجا من حكم الإعدام مراراً، بفضل حملات حَمَلة لواء الوفاء المجهولين، أمثال أمين مازن، رغم جراح القمع، ورغم جور الزجّ بهم في أقبية السجون، ليحيا مصيراً دراميّاً لا يختلف في المغزى عن مصير درويش الزمان الضائع المؤرّخ الفقيد مسعود فشيكة، الذي جَنَتْ عليه الحكمة، التي تعلّمها كمعلّم تاريخ، ليحقّق هوية الشهيد على قيد الحياة، يوم وقف في وجه جموع الغوغاء المسعورة بفعل التحريض الأيديولوجي، في هجومهم على تمثال سبتيموس سفيروس، الإمبراطور الليبي الروماني، ظنّاً من هؤلاء الهمج أنه غازٍ طلياني، ليعترضهم وهو ينازع بجرمه الهشّ، ويجاهر بالنداء «ليبي، ليبي، سبتيموس سفيروس ليبي!» فلا ينقذ رمزاً وطنيّاً مجسّداً في تمثال البرونز، ولكنه أنقذ، بهذا الموقف الملحميّ التراجيدي، أمّةً من جهلها بنفسها، وبماضيها، وبهويّتها، وبسرّ سطوتها، وبثراء عراقتها، ليلقّن الأجيال، مع مَن لقَّن أمثال مازن، درساً في حبّ ذلك المعبود، الذي كان حجر الزاوية في أعظم ملاحم الأدب العالمي وهي «الأوديسة»، حيث تتعمّد الآلهة أن تخضع البطل أوليس لامتحانٍ استغرق العمر كلّه، فقط كي تُعلّمه ماذا يعني أن يحيا الإنسان بلا «أيثاكا».. بلا وطن!

«إيثاكا» هنا أمثولة في حقّ أيّ وطن، لأنها مفهوم الوطن، وأوليس هنا تجسيدٌ لمفهوم مريد الوطن، الذي اقتصّت منه الأقدار، بحرمانه من أسطورة، هي الحضور في فردوسٍ باسم الوطن، ليتحوّل الاغتراب عن الوطن اللعنة التي تُحيل الوجود جحيماً، بالتزامن مع اكتشاف القيمة، في تلك الأحجية، التي اقترفنا في حقّها الآثام، عندما عاملناها كغنيمة!

فالموقف من الوطن هو موقفٌ من هذه القيمة. لماذا؟ لأن الوطن هو مستودع هذه القيمة، والقيمة فيه هي الوديعة. الوديعة التي تخاصم بطبيعتها وجود الصفقة: الصفقة في صيغتها كغنيمة، تستدرج ضعاف النفوس إلى واقعها، حيث يهيمن المحفل المهووس بالنفع، كمكافأة على عملٍ منزّهٍ عن دنَس الباطل وهو: الحبّ، المدفوع في حقّ وطنٍ، يتعاطى عملة الباطن، ويسفّه عملة الباطل، لأن القيمة فيه ببساطة تنزيلٌ، مما يهبها حصانةً بوصفها حرمة. ولهذا السبب صار الوطن مستودع القيمة، لا في صيغة المفرد، الدالّ على سموٍّ يُعجز العبارة، ولكن في صيغة الجمع، ليغدو «مفهوم القيم»، المستودع، ليس المستودع في صيغته كحاضن لهذه الثروة النفيسة، ولكنه منذ الآن يستعير هوية الوصيّ على الذخيرة، فلا يضمن مريد الوطن ألّا يتحوّل ضحيّةً، لأن الفدية قدر النزاهة دوماً، فيجني ثمن حبّه إغتراباً!

ولكنه، إذا حكّمنا منطق عرّاب العقل البشري عمانويل كانط، الإغتراب السعيد، مادام القياس لهذه العنقاء «السعادة» رهين أداء الواجب!

أئمّة الجيل أمثال أمين مازن يلقّنوننا الدرس الذي يقول: حبّ الوطن ليس ترفاً، ولكنه، في رقابنا، دَيْنٌ، بل هو، في أعناقنا، دِينٌ، (لاهوتٌ).

مقالات ذات علاقة

‘‘أوندينا باراديل’’ الشخصية التي أجادت ممارسة الدبلوماسية الثقافية في ليبيا

المشرف العام

الدلنسي.. في ذكراه الأربعين.. رسائل إليه

سالم الكبتي

5 معلومات لا تعرفها عن الشاعر الراحل حسن السوسي

المشرف العام

اترك تعليق