المقالة

تصفية الحساب مع وعينا الفلسفي السابق


انتهى القرن العشرين قبل سنوات،و مع بداية القرن الجديد تسرب إلينا الشك في جدوى الثورة،هناك شعور بالوقوع في فخ السياسية الدنيئة،مع الوقت أصبح حجم معنوياتنا صفر تقريبا،و لا أحد لديه الرغبة في المراجعة،هناك حاجة للفلسفة في هذا الوقت بالذات،أين هي الفلسفة في بلادنا؟بكل تأكيد لا يمكن عبور هذا السؤال بأكمله،و لا يمكن الإطاحة بأهمية هذا السؤال في الوقت الحالي،الفلسفة التي يتحدث عنها الجميع وكأنها امتياز دون مساواة،أو المكان الذي لا يصل إليه إلا النخبة المختارة،توصل بعناد استنساخ الحاضر الأفلاطوني،دعونا نبدأ من البداية،ما هي فكرتنا عن الفلسفة؟سيقول العامل،الفلاح،المستخدم الذين ليسوا بفلاسفة:”في ما يتعلق بنا،نحن لا نفقه شيئا في الفلسفة.هي شيء لا يعنينا،إنها شأن مثقفين ذوي اختصاص.شيء في غاية الصعوبة،ولم يكلمنا عنها أحد على الإطلاق،تركنا المدرسة قبل أن ندرسها”*،أما بالنسبة للكادر،الموظف،الطبيب،إلخ”:بلى،أنهينا صف الفلسفة.لكن كان ذلك في غاية التجريد.كان الأستاذ متمكنا من مادته.لكنه كان مغرقا في الغموض.لم نحفظ منه شيئا.و إلى ذلك.ما جدوى الفلسفة أصلا؟”أحد الآخرين:”عفوا!لقد استحوذت الفلسفة على اهتمامي،ذلك أننا،والحق يقال،حظينا بأستاذ رائع،فمعه كنا نفهم الفلسفة.لكن كان عليَّ مذاك السعي لكسب العيش.إذا،ما العمل،واليوم لا يتجاوز 24 ساعة:لقد فقدت الاتصال.خسارة.”و إذا سألتهم،جميعا:”إذا،بما أنكم لا تعتبرون أنفسكم فلاسفة؟مَن مِن الناس،في رأيكم،يستحق التسمية بفيلسوف؟سيجيبون،و بالإجماع:أساتذة الفلسفة طبعا”*،التفكير في الفلسفة فقط لا يساعدنا في شيء،و لن تمنحنا شيء يمكن أن نفكر فيه،بل يجب التفكير في ما المقصد من تقسيم العمل إلى يدوي و ذهني،لماذا هذا الحفاظ الذي لا يخلو من رعب على غموض كلمة ذهني،الكلمة مألوفة لكن لا يمكن الإقتراب منها،من الذي ينسب للعمل الذهني سلطة و قوة فائقة،الذي يفعل ذلك هو في الحقيقة ينسب لنفسه السلطة و القوة،لدينا هنا مساحة مقسمة بشكل سيء.في الحياة اليومية عندما يقول شخص لشخص آخر:”أنت تتفلسف الآن،فهذا يعني:أنت تقول كلام فارغ”،إنها فكاهة،أو دعابة استفزازية،هذه هي نظرة المجتمع للعمل الذهني،و السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو علاقة النظرية بالتطبيق،كل نظرية تبني حولها نوع من الجدار العازل،وكل ممارسة هي هدم لهذا الجدار،لماذا يتم تعطيل أولوية الممارسة لصالح النظرية؟هناك سلطة وقوة في النظرية،وهناك سلطة تمنع معرفة الناس لهذه النظرية،يتصور البعض رفعة اختصاصهم بعيدا عن متناول الناس العاديين،هذا نوع من المنع،نوع من المراقبة،و دور المثقف هو محاربة هذه الأشكال من القوة،هناك واجب سياسي يجب القيام به،وهو كشف روح الحتمية المهيمنة،بدون القيام بهذا الواجب نحن أمام زيادة مفرطة في العبث،بسبب زيادة مفرطة في الدلالة،هل من باب المصادفة حقا أن تتعلق الفلسفة إلى هذا الحد بتدريسها،و بالذين يدرسونها؟”أفلاطون كان يدرس الفلسفة،وأرسطو كان يدرسها أيضا،و إذا لم يكن هذا الاقتران فلسفة/تدريس وليد الصدفة،فهو يعبر عن ضرورة خفية…لما كانت الفلسفة،في الظاهر،ليست ذات جدوى تُذكر في الحياة العملية،كونها لا تنتج معارف و لا تطبيقات،بات من الجائز التساؤل ما جدوى الفلسفة،وهل من المصادفة أن الفلسفة قد تكون مجدية في تدريس ذاتها ليس إلا،وليس في أي شيء آخر؟”*،قد تكون الإجابة الأكثر صعوبة :أن الفلسفة هي في الأساس سياسة،لهذا يتم قمع الفلسفة،لكن العلم تترك له الساحة،لهذا يتم السخرية من العلوم الإنسانية،أما العلم فهو مبجل و موقر،هذا هو مجال النضال الفلسفي،من خلال هذا النضال تتوقف الفلسفة عن محاولة تفسير العالم وتصبح أداة لتغييره،الفلاسفة في مجتمعنا جميعهم تقريبا أساتذة فلسفة،أساتذة الفلسفة لهم زوجة أو زوج مثلكم ومثلي،و أطفال إن رغبوا بالإنجاب،يأكلون و ينامون،يتألمون و يموتون،كما حال كل الناس،قد يكونون محبين للموسيقى والرياضة،ومتعاطين بالشأن السياسي أو نائين عنه.حسنا ليس هذا ما يجعل منهم فلاسفة.

كتاب تأهيل إلى الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة
كتاب تأهيل إلى الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة


“ما يجعل منهم فلاسفة هو أنهم يعيشون في عالم على حدة،في عالم مغلق:متشكل من المؤلفات البارزة في تاريخ الفلسفة.هذا العالم في الظاهر ليس له خارج.إنهم يعيشون مع أفلاطون،مع ديكارت،مع كانت،مع هيغل،مع هوسرل،مع هيدجر،إلخ.ماذا يعملون؟لا داعي للقول إنني أتكلم عن أفضلهم:إنهم يقرأون و يعيدون القراءة في أعمال كبار المؤلفين،ولا يكفون عن قراءتها،يقارنون في ما بينها،ويميزون بعضها عن بعض على مدى التاريخ،لتحسين فهمهم لها”*وهذا يعني استنساخ المشاكل و استنساخ الواقع الذي ظهرت فيه،في الظروف المتناقضة التي نعيشها،في هذا الموقف التاريخي المعين،في التشكل الاجتماعي الجديد بطريقة معينة،في هذه المجموعة المعقدة من الايديولوجيات،لا تكفي قراءة أفلاطون و أرسطو لإلقاء نظرة عليها و البحث عن حل للخروج منها،لا تكفي هذه القراءات للكفاح من أجل إقامة علاقة جديدة مع مفاهيم جديدة للوطن و المجتمع و السياسة و المواطنة و الحرية و العدالة و المساواة،ما فعلته الثورة الفرنسية و أنجزته الفلسفة في فرنسا هو جعل المجتمع مؤسسة ذاتية صريحة،قبل الثورة الفرنسية كانت هناك أعمال الشغب بسبب الخبز،ثورات العبيد،حروب الفلاحين،و الفلسفة كانت مواكبة لكل ذلك و في اللحظة الفاصلة ابتعدت بالمجتمع عن أن يكون مجرد مكمل للسياسة،المسألة الاجتماعية مسألة سياسية و هذا هو إنجاز الثورة الفرنسية،في أثينا كانت هناك ديمقراطية،لكن العبيد و المرأة مسألة اجتماعية ليس لها علاقة بالسياسة،أما الثورة الفرنسية فقد جعلت المجتمع هو السياسة،لهذا تم استبدال الثورة في ليبيا بايديولوجيا متطرفة تريد ديمقراطية يستبعد منها على طريقة الإغريق العبيد وهم نصف الشعب و المرأة و هي باقي الشعب،أين هي الفلسفة من كل ذلك؟”أين هم الفلاسفة الذين ما عادوا يريدون البقاء محبوسين في عالم على حدة،وفي عالم مغلق على دواخله،إنهم يهجرونه ليسكنوا العالم الخارجي:يريدون أن تقوم تبادلات مثمرة بين عالم الفلسفة و العالم الحقيقي،هؤلاء يعتبرون الفلسفة ممارسة في المقام الأول،وأنها تنشأ من العالم الحقيقي،وتنتج،دون إدراك منها عواقب ملموسة في العالم الحقيقي”*،هؤلاء هم العلامة الفارقة في المجتمعات،هؤلاء يعلمون أن الفلسفة موجودة في اللغة نفسها،لأن اللغة مجموعة من المفاهيم،و بتغيير المفاهيم تتغير المجتمعات،وهم من يستطيع بث الوعي بأن الشعب السلبي لن يكون إلا ضحية للسلطة كموضوع تاريخي،الفلسفة لا يمكن أن تقدم نفسها كمعرفة إلا إذا كانت قابلة للمشاركة مع كل الناس،لن يستفيد المجتمع من تأويل أستاذ مقطع لكانت و يستحضر أفلاطون و هوسرل،دون أي أعتبار للـ 23 قرنا بين الأول و الثاني،و قرن و نصف القرن بين الأول و الأخير،كما لو أن ما من أهمية تذكر للماقبل،و للمابعد فكل الفلسفات معاصرة بالنسبة لهذا الفليسوف،كما أن الفلسفة أبدية بالنسبة له،نحن في حاجة إلى فلاسفة عفويين،يشاركون الناس وعيهم ومفاهيمهم و بهذه الطريقة يتم إضفاء الشرعية على دورهم كفلاسفة،لقد وقعنا في فخ اللغة،الفلسفة نفسها وقعت في هذا الفخ،الثورة تبدأ من الإنقلاب على المفاهيم العامة،الحياة،العدم،الظلم،العدل،إلخ،وهذا الإنقلاب الذي يغير المجتمع لم يواكب التغيير السياسي،لأن الفلسفة كانت متاخرة بخطوات عن الناس،بسبب هذا التأخر نعاني اليوم من هذه الفوضى،نحن في أشد الحاجة إلى الفيلسوف العفوي الذي ترك الحديث عن فلسفة ميتة منذ القرن التاسع عشر،الفيلسوف الذي يرتب هذه الفوضى بترتيب مفاهيم حياتنا اليومية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تأهيل إلى الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة-لويس إلتوسر- ترجمة الياس شاكر-دار الفارابي-الطبعة الأولى 2017

مقالات ذات علاقة

إلى إيما

شكري الميدي أجي

الملحمة الليبية

المشرف العام

20 هرماً في الحطية الليبية … «تحف» يجهلها العالم

منصور أبوشناف

اترك تعليق