محمد مفتاح الزروق
أنهى الضوء سباقه المتناغم المتكرر إلى جفني وصدمهما برفق ليرتفعا مستقبلين صباحا جديدا.. كان التعب والسهر قد أجهزا تماما على جسدي الصغير.. لكن شدة الحر وإغراء الرحلة دقا ناقوس اليقظة في رأسي.. قفزت من سريري وأنا أفرك عيني بحثا عن شبشب الحمام..
أثناء سيري المترنح إلى دورة المياه كنت أجمع بسرعة ما بدا لي مناسبا.. كيس نايلون.. بنطلون جينز مقصوص فوق الركبة.. منشقة جافة.. خيط سنارة سمك.. وبعد خروجي وقفت أمام أمي الواقفة في المطبخ منذ دهر.. لا أعلم متى استيقظت ومتى شرعت في إعداد طعام الرحلة لي.. كل ما أعرفه أن النعاس امتلكني البارحة وأنا أسمع صوت قرع الأواني في المطبخ..
وفي الصباح كان سخان الشاي فوق النار وبجانبه طنجرة بها بعض البيض يصدران زفيرا متصلا.. وكانت أمي واقفة تحيل بعض ما تخرجه لنا من الثلاجة إلى أعاجيب..
ألقيت نظرة على دراجتي الهوائية.. رفعت مؤخرتها وأدرت العجلة بيدي.. ثم خفضتها وصرخت:
– هيا يا أمي لقد تأخرنا..
سمعتها تقول: حالا.. كل شيء جاهز..
رن جرس الباب.. كان ناصر وشقيقه الصغير أحمد يسندان دراجتيهما برجل على الأرض ورجل على البدال.. وقال لي ناصر: هل أصلحت عجلة دراجتك؟
– تحتاج إلى مسمار جديد.. لابد من عرضها على التكتور..
والتكتور هو عادل السكليستي.. وسمي بالتكتور لأنه الوحيد من ضمن مصلحي الدراجات ممن نعرفهم يضع نظارات طبية..
– ليس هناك وقت..
– أعرف.. سأحمل معي المفك.. وكلما (طارت) العجلة سأربطها به..
جاء عمر وعادل على دراجة واحدة.. توقفا أمام البيت وقال عمر في لوم وهو ينظر إلى ساعة افتراضية في معصم يده اليسري:
– هيا يا جماعة.. تأخرنا كثيرا.. هل كلمتما خالد؟
– لا.. كلمه أنت..
تقدم أحمد بضع خطوات وطفق ينادي: خالد!! يا خالد!!
خرجت سيدة أربعينية من الشرفة المقابلة فقال أحمد:
– خير يا عمتي فوزية.. كلمي خالد..
– منذ ساعة وأنا أحاول إيقاظه.. اصعد وشده من أذنيه..
سارع أحمد يطوي درجات السلم.. وقال ناصر فجأة:
– هل أحضر أحدكم سكينا؟
نظر كل واحد إلى الآخر ثم قال عادل:
– لا سكين لاسوء.. هل تريد أن يقبض الشرطي علينا؟! في المرة السابقة قال لنا إن عقوبة حمل السكين السجن لستة أشهر..
– فليحضر أحدكم سكين الخضار..
– وهل يفتح سكين الخضار علبة التونة؟ نحتاج إلى سكين قوي..
– سأحضر سكينا من البيت.. لكنني لن أضعه في جيبي..
– احضر سكينا (بوخوصة) وسأطويه وأضعه في جوربي..
بعد برهة كانت الشوارع تستقبل دراجاتنا وتودعها حتى أشرفنا على الشاطئ.. هنالك ألقيت نظرة على كشك الصحف فأدرت مقودي نحوه.. أخذ الصبية ينادونني:
– تعال.. ألا تكف عن هذه الحشيشة؟!
– في الواقع أريد أن أرى المجلات الجديدة.. لم أقرأها كلها..
كان الكشك مغلقا.. فاليوم جمعة.. بدأت أتأمل الأغلفة المعروضة على الواجهة الزجاجية.. ثم دسست عيني بين الفراغات أنظر إلى الداخل عساي أرى كتبا أخرى.. شعرت بظل طويل خلفي.. استدرت وإذا بي أرى رجلا في سن أبي يرتدي زي الشرطة وينظر إلي بريبة ويسألني:
– ماذا تفعل هنا؟
– أشاهد المجلات الجديدة.. لم أشترها كلها.. هذه عندي.. وهذه لا.. وهذه…
قاطعني وهو يمسك بالمفك الذي ثبته على الكرسي الخلفي:
– وهل يحتاج من يشتري المجلات إلى هذا؟
– إنه مفك.. عجلة دراجتي غير ثابتة.. وكلما طارت أعيدها به..
قلتها وأنا أحاول أن أكون ثابتا وأنظر إلى ساق عمر الواقف على بعد عشرة أمتار مع الصبية.. كان سكين (البوخوصة) يبدو بارزا من تحت الجورب.. لو التفت الشرطي إليه لرآه واضحا.. مر دهر وأنا أتخيل نفسي محشورا مع أصدقائي في زنزانة وقد وضع السكين والمفك في كيس احتفظ به رئيس مركز الشرطة في خزانة الأدلة.. كما قرأت في الروايات البوليسية..
مد الشرطي يده إلي بالمفك وهو يقول:
– إذا رأيتك هنا مرة أخرى سأقص رجليك..
أخذت المفك.. وداست رجلي على البدال وانطلقت بالدراجة بسرعة ليحتويني طريق البحر.. ولحسن الحظ أيضا لم تطر العجلة…