وفاء بونيف | العراق
تعيش البشرية دورتها الطبيعية، باحثة عن الاستقرار المكاني والامتداد الزماني، لكن الأطماع الإنسانية جزء لا يتجزأ من كينونة البشر؛ لذا فهم يسعون جاهدين لتحويل الاستقرار إلى منّاوشات ومنها لحروب دامية، ولا يقبلون الامتداد كفكرة سلمية أبدا، فإن لم تخضّب الأرض بدماء الأبرياء، فلن يتحقق بنظرهم الخلود البشري أبدا.
صندوق الرمل رواية تاريخية تسرد وقائع الاحتلال الإيطالي لليبيا، على إثر تراجع الحكم العثماني ٱنذاك، وتُحيلنا لحوادث مهمة قلبت موازين القوى العالمية، وجعلت أعزّة أهلها أذلة. تقوم الرواية على أسس فنية ممتازة؛ فقد سخرت عائشة إبراهيم كل قدراتها الفكرية والتاريخية والأدبية لنحت نص لا يمكن فصل قيمته التاريخية عن قيمته الأدبية؛ فمن ناحية التأريخ قدمت صاحبة “حرب الغزالة”، حقائق عن حقبة تاريخية مهمة _دخول إيطاليا، وواقع الليبيين في العهد العثماني، وحالة المساجين الليبيين في مستوطنات العقاب الإيطالية _ومن الناحية الأدبية لم تثقل الكاتبة العمل بالزخرفات الأدبية، الّتي توحي براحة صاحبها الفكرية؛ لكنّها أوقعتنا في شباك لغة مثالية تشّي بمدى براعة صاحبتها في السّرد ومدى عمقها في الوصف، ومدى صلابتها في البيان؛ فالنص هنا هو ابن بيئته الصحرواية؛ كأنّما هو في شساعته الأدبية صحراء ليبية تعكس بريق رمالها الذهبي عندما تسّلط عليه شمس التاريخ.
1911 يتوجه الصحفي ساندرو كومباريتي كجندي إلى ليبيا ليحقق نصر إيطاليا الحضاري فيضمن بذلك زهوه الوطني؛ لكنّه اكتشف بعد مجزرة المنشّية_ الّتي تيتّمت على إثرها بائعة الحليب “حليمة” و سُجِّنت مع الكثيرات من دون تهمة ولا محاكمة_ أنّ البلد الذي كان ضحية في يوم ما لن يعرف للإنسانية طريقا إذا ما تحول إلى جلاد.
خسر “ساندرو “جزءا من ذراعه ولكنّه سيُشفى وترّمم جراحه ولكن الجراح الّتي لا ترّمم هي تلك الّتي مسّت إنسانيه. فقصد الصحفي “فاليرا” حاملا حقيبة أوزاره الإنسانية، وألقى بها بين يديه طالبا منه البحث عن فتاة القدر؛ تلك الّتي خلّدت في ذاكرته معاني الأنوثة الممزوجة بالشموخ العربي الأصيل، لكنه وما إن بلغها حتّى ارتقت رافضة أن تمنحه سلاما داخليا عاشت محرومة منه لسنوات طوال .
رواية تسير على خط زماني مرتب؛ ماضي ثم حاضر فمستقبل. حوادث الماضي نعيشها اليوم، ولن نحتاج لمن يتنبأ بالمستقبل؛ فمستقبل البشرية واضح جدا؛ دول تحكم بمنطق الغاب، قوة عالمية هادرة تسلط عنفها ضد الأبرياء، فينتج عن ذلك قتلى ومشردين، مساجين لا يعودون، وثوار في ٱخر المطاف ينتفضون فيحررون الأرض وتبقى عملية تحرير البشرية مستمرا على مدى الأزمان.
رواية قوية، أسلوبها بسيط، جملها متراصة تؤدي بشكل مباشرة معانيها الاجتماعية والسياسية دون مواربة.
رواية بحوارات داخلية تكشف الضعف البشري الّذي ينعكس تارّة على القوي بسلبية مَقيتة يفقده إنسانيته؛ فيحوله إلى وحش كاسر لا يهاب الدماء لكنّه يخاف من مواجهة نفسه. ويكسّب الضعيف قوة إنسانية تحرّره من المكائد البشرية ويصبح الجميع بالنسبة له أشباحا تصغر وتتلاشى في العدم المظلم بينما هو يرتقي في النور.
صحيفة الحقيقة العراقية