أسماء محمد السبوعي | تونس
مقدّمة:
كانت السياسة أحد الشواغل البارزة لعددٍ مهمٍ من نصوص الرواية الليبية، نتيجة ما ينجر عن الممارسة السياسية من انعكاسات متنوعة تمس سائر مجالات الواقع في شتى أبعاده. وهو ما يجسد علامةً دالةً على حضور السياسة تيمة مهمة في المتن الروائي الليبي الحديث والمعاصر. وقد راوح الروائيون في تناولهم لهذه التيمة بين المباشرة والرمز، مما يعكس تباين وعيهم بالمسألة السياسية لمجتمعهم الليبي، ومن ثمة تفاوت درجة الأدبية فيما انشأؤوه من روايات، ذلك أنَّ بعضهم عمد إلى المباشرة أمثال أحمد نصر في رواية (وميضٌ في جدار الليل)، ومنهم من نجح في تحويل السياسي إلى قيم جمالية، تتوسل الرمز باستخدام تقنية القناع عبر توظيف حكاية الحيوان، مثلما جسدتها بعض نصوص التراث العربي القديم، كما “كليلة ودمنة” لعبد الله بن المقفع، وهو ما عكسته تجربة الكاتب الصادق النيهوم في روايتيه (القرود) و(الحيوانات).
لم يعمد النيهوم إلى التجسيد الواقعي لشخوصه الحيوانيّة، ولكنّه مال إلى الرمز، فعرض شخصيّات وأراد لشخصيّات أخرى أن تتوارى خلف هذه الشخصيّات، ليصل إليها القارئ بالبحث في التشابه بين الشخصيات المعروضة والشخصيات المقصودة، فليست الرّموز إلاّ وسائل للإثارة الفنّية، وأقنعة شفّافة للشّخصيّات الواقعيّة أيضاً.
لقد اختار الكاتب في روايته (الحيوانات) أن يجعل الحيوانات أقنعة تمكّنه من نقل أفكاره إلى المتقبّل ليجعله شريكاً له في مواقفه ورؤاه تجاه الواقع السّياسيّ الذي ران عليه الفساد، واستحال نقده نقداً مباشراً، باعتباره من الموضوعات المسكوت عنها.
ووزّع الصّادق النّيهوم رموزه الحيوانيّة توزيعاً لم يشذّ فيه عن عبد الله بن المقفّع، فجعل بعضها يدلّ على السلطة ويرمز إليها وبعضها الآخر يشير إلى الرعيّة. ومن أبرز الرموز الحيوانيّة الدّلة على السّلطة نجد الأسد، ملك الغابة، والكلب رئيس الوزراء، والنّمر وزير التّخطيط، والفهد وزير الدّفاع، والتمساح وزير العدل، والثّعلب وزير الكلام، والجرذ وزير الإعلام، والضبع وزير الدّاخليّة، والقنفذ وزير الإذاعة.
أما الرّموز الحيوانيّة الدّالة على الرّعية فقد وزّعها الكاتب بين مساند ومؤيد للحكومة ومعارض لها، يشكّك في شرعيتها لأنّها تشكّلت دون أن تنال موقفه. ومن الشّخصيّات المعارضة نجد الجمل والثّور والقطّ والفيل والسّنجاب. وقد لاقت هذه الشخصيّات عنتاً كبيراً من الحكومة، إذ مارست عليها كلَّ أشكال التّعذيب والقهر، ممّا عجّل أفول المعارضة وتحوّل عناصرها إلى مؤيدين لرجال السّلطة تحت وطأة التّعذيب والقهر، ولم يصمد أمام جبروتها إلاَّ الفيل، الذي جسّد صوت الحقّ ورجع صدى الوعي، ممّا جعله مختلفاً عن بقيّة الحيوانات الخانعة، كما جعله عدوّاً حقيقيّاً للسّلطة التي سعت إلى القبض عليه وتفنّنت في التنكيل به وتصفيته، رغبة في إلجام صوت الحقّ “يدهشنا أنّ أحداً لا يفسح الطّريق أمام الفيل، يدهشنا أنّ أحداً لا يسمعه، تقترب وتدقّق النّظر، فترى أن الاستخبارات قد قطعت لسانه، وأفرغت جلده من محتواه، وأنّ أحداً لم يعد يسمعه، لأنّ أحداً لم يعد يراه”(1).
وقد تميّزت شخوص الرّواية بكونها شخوصاً نمطيّة تغلب عليها خاصّية الانغلاق، غير قابلة للتّطور، مصيرها معلوم، رسمه لها الكاتب منذ البداية. فالفيل المعارض يلقى حتفه بعد ويلات التّعذيب، والذئب المستشار يختفي فجأة، والسّنجاب يتحوّل إلى طعام للصّقر، وتتخلّى الحيوانات المعارضة عن مواقفها الرّافضة وتتحوّل إلى مساندة تحت وطأة القهر والتّعسّف.
ومن هنا نخلص إلى أنّ الشّخوص الحيوانيّة في الرّواية ليست إلاّ رموزاً شفيفة، تكشف ولا تحجب، وتجعل مهمّة التّأويل قريبة المأخذ فتتّصل بالحياة السّياسّة، سائساً ورعيّةً. وقد تغلب عليها النّزعة المباشرة في طرح القضايا.
مدارات الأحداث ونظام السرد:
خضعت الرّواية إلى بنية مغلقة حيث تنغلق بمثل ما انفتحت به. ففي البداية يلتقي الذئب بالصّقر وفي النّهاية يستحضر الرّاوي نفس المشهد. وبين البداية والنّهاية يتسارع نسقُ الأحداث تصاعديّاً، فتتشكّل الحكومة، وبتشكّلها تنشأ أحداث الرّواية وتتسارع حتى تبلغ ذروتها، حين لاقى حدث تشكّل الحكومة معارضة، فتصدت الحكومة لهذه المعارضة بالقمع والتّعسّف، ممّا أدّى إلى إخمادها، وعندها تأخذ الأحداث شكل البناء الهرميّ:
– وضع البداية: تشكّل الحكومة
– سياق التّحوّل: المعارضة
– وضع الختام: إخماد المعارضة
وتدور أحداث المقطع الأوّل من الرّواية حول تشكيل الحكومة في الخفاء. وقد شغل هذا الحدث الفصل الأول من الرّواية، إذ هو الحدث المولّد لسائر الأحداث التالية. فعنه نشأت المعارضة بمختلف مراحلها، حيث التقى الذئب بصديقه الصّقر في رحلة بحثه عن الرّزق في الصّحراء، فنقل له الحلم الذي رءاه (صغار الدّجاج بين يديه) فيشعر الصّقر بالملل، ويعزم على البحث عن رزقه في غير هذا المكان.
ثمّ يلتقي الذئب بالأسد الذي كان يعاني الجوع رغم كونه ملك الغابة، فيطلب منه أن ينقذه من وضعه الرّاهن، فيعرض الذئب عليه تشكيل حكومة، فيستجيب لعرضه، رغم ما بينهما من عداوة، ويكلّفه باختيار أعضائها، فيختار الكلب رئيساً لها لكي يحرس ما يملك الأسد، فيذهل الكلبُ لهول المفاجأة ويسقط مغشيّاً عليه، عندها يعلّق الذّئب “هذه ميزة الكلاب علينا، نحن معشر أولاد الذّئاب، أنّهم يبدأون من الصّفر”(2). ثمّ يدعوه إلى طاعة الأسد، وإعلان ولائه له، بلهجة ساخرة، موغلة في المكر “أركع، إلعق”(3).
امتد هذا المقطع على ستّة فصول، فبدأ من الفصل الثّاني وانتهى في الفصل السّابع، ويضمّ الأحداث الأساسيّة في الرّواية ويعكس ذروة التّأزّم. ففي الفصل الثّاني تحدث مفاجأة إعلان خبر تشكيل الحكومة، ممّا يدفع الحيوانات إلى البحث في الأمر، لكنّها تصطدم بكثرة المخبرين الذين يجعلون منهم مدار بحث وترصّد، فتختار الاختفاء، إلاّ أنّ الفيل يتدخّل ويتحدّى الحصار المضروب على الحيوانات، ويختار المقهى ليخطب في أصدقائه، متحدّياً المخبرين من الذّئاب، ويشهّر بالحكومة “حكومة أنياب”، ويعاضده في ذلك الجمل، ويجرؤ على وصف الحكومة بحكومة لصوص، وقد تبنّى موقف الفيل الجمل وبقيّة الحيوانات كالخنزير والتّيس والقط والحصان والأرنب والعصفور والجرادة، وفي الاثناء يتدخّل الكلبُ مصرحاً ببيان الحكومة المتضمّن لاختياراتها المستقبليّة، والتي على رأسها فرض الأمن وضمان سيادة قانون الغاب بتأسيس شرطة الحراسة أولاً وبناء شركة الحراسة، بالإضافة إلى إيلاء الثّقافة مكانة متميّزة، لذلك قرّرت الحكومة ما يلي: “أوّلاً إصدار جريدة ناطقة، ثانياً إصدار جريدة لغير النّاطقين. إلاّ أنّ الفيل يتصدّى لهذه الخيارات المستقبليٍة ويحذّر الحيوانات من الانخداع بكلام الكلب، وينبّهها من المصير الفاجع الذي ينتظرها: “إنّي أحدّق في حُجُبِ الغيب، وأراكم، هذا يركب على ظهوركم، وهذا تجرّون له المحراث، وهذا يشرب حليب أطفالكم، وهذا يقدّم بناته للضّيوف، الويل لمن لم ينفذ بجلده”(4). وتظهر شخصيّة “الخرتيت” محاولةً التّشويش على خطاب الفيل، وتصفه بالدّرويش. أمّا العقرب فيحذّرها ويدعوها إلى الاحتياط من الفيل، فهو ينفث السّموم، لذلك وجب إيقافه باستدعاء المباحث العامّة، فتفرّ الحيوانات خوفاً وذعراً.
أمّا الفصل الثّالث، فيمثّل مرحلة التّحقيق، إذ تحاصر الحيوانات التي شاطرت المعارضة وأيّدتها وتخضع لشتّى أشكال التّعذيب والتّنكيل، فيُضرب الجمل بعصاتين من جريد النّخل حتى ينهار ويستعدّ للكلام، ويُضرب الثّور بعصاتين من فروع الزّيتون ويُعذّب بالسّياط، لكنّه يصمد، فيُجلد ويتعرّض إلى الصّدمات الكهربائية، ثمّ تُحرق أذناه لكنّه لا يبالي، ممّا يضطرٌهم إلى إرباكه، بإحضار زوجته البقرة، والاعتداء عليها أمامه، ممّا جرّه إلى الانهيار “دعوها وشأنها، لقد غيّرتُ رأيي وسوف أتكلّم وقروني في الأرض”(5). بينما يختلف الخنزير عن الجمل والثور إذ يبدي استعداداً للكلام، ولكنه يعجز عن ذلك، فيعوّضه بالحركة (هزّ رأسه دلالة على الولاء والطّاعة).
أمّا القطّ فقد اكتشف قرابته للملك، فضُرب بعود من النّعناع، ممّا جعله يتوعّدهم ويهدّدهم بقوله “سوف أخرِّبُ بيوتكم، وسوف أشكوكم لعمّي الملك، فينزع رتبكم، ثمّ أشكوكم لعمّي الفهد، وزير الدفاع فيرميكم في السّجن، وأشكوكم لصديقي وزير العدل، فيخطف أطفالكم، ثمّ لصديقي وزير الزّراعة فيحرقكم مع التّبن” (6).
ويعلن التّيس موالاته التّامّة للملك فيتوسّل للجلاّدين، حتّى يضربوه ليبرهن على موالاته التّامّة له، مولاةً تجعله يعبّر عن استعداده للتضحية بنفسه وبعائلته فداءً له “أضربوني من فضلكم، روحي فداءٌ الملك، اقتلوني، حطّموا ضلوعي التي تخفق بحبّه، اذبحوا له ولدي الجدي، اذبحوا الجدي وأخته، وخذوا لساني على مائدة الملك لكي أقول له هنيئا”(7).
وينجح الفيل من الافلات من قبضة زبانية الحاكم بعد أن تعرّض إلى كلّ أشكال العنف والتّعذيب، وتتباين ردود الأفعال من هذا الهروب، فالجرذ يتوقّع أنّ الفيل محميٌّ بفضل قوى غيبيّة، والفهد يتوهّم طيرانه، أمّا النّمر فيدّعي أنّه دفع الرّشوة إلى الصراصير كي تساعده على النّجاة. أمّا الضّفدع (المتنفّسون تحت الماء) فترفض طيران الفيل وتنعته بالمشعوذ. أما البومة (الذين يبصرون في اللّيل والنّهار)، فتتّهمه بالتّخلّف وتجعله سبباً في إرباك أمن الغابة. أما زعيم حزب الصّامتين، الزّاحفين على الشّوك كالثّعبان فيعقد مؤتمراً صحفيّاً يتحسّر فيه على إفلات الفيل من العدالة. إلاَّ أنّ السّنجاب يخرج عن المجموعة ويبرّئ الفيل ويعتبره نموذجاً للاستقامة، ويحتجّ على مواقف بقية الحيوانات “كيف لا تعرفون الفيل صديقنا القديم، الذي أطفأ النّار بخرطومه عندما شبّت في الغابة وحملكم على ظهره كي تعبروا النهر، وعلّمكم أن تقشّروا الطّين الشّوكي وتأكلوا الأشياء من داخلها”(8)، وإثر ذلك يتمّ القبض على الفيل من جديد ويخضعونه إلى المحاكمة.
وفي الفصل الخامس يتمّ عرض المحاكمة على التّلفزيون، وتتباين مواقف الشّخصيّات الحيوانيّة منها، بين مؤيد ومعارض. ويظلّ السنجاب يسعى إلى انصاف الفيل وتبرئته بجمع المواقف المؤيدة له، لكن دون جدوى، فيصرخ “تهمسون في مآتم الميّت وتصرخون في عرين المميت”(9).
أمّا في الفصل السّادس فيصلب الفيل ليكون عبرةً لكلّ متمرّد أو ثائر. ولم يجد الدعم إلّا من السنجاب الذي سعى إلى تخليص الفيل بتهريبه من نفق السّرداب الذي حُفر من أجل هذه المهمّة. ويوهم الجميع باختفاء الفيل بطريقة عجائبيّة “شهدتُ ذلك بنفسي، كنت جائعاً، وكنتُ أقضمُ قطعة من حاشيته موقناً أنّ عصر المعجزات قد ولّى، فجأة أرفع رأسي، فجأة أرى نجماً لامعاً يشقّ السّماء، بعد قليل يصبح النّجمُ عربة، بعد قليل تقترب العربة وينزل منها جدّك الأسد. وجدّك أنت- يا حضرة الذئب- وحتّى جدّك أنت- يا حضرة الكلب-، كلّهم نزلوا من العربة، وجاؤوا إلى الفيل. إثنان منهم أخذا يلعقان حذاءه، أمّا جدّ الملك، فقد أخذ يدقّ على طبلته ويدور حوله سبع مرّات ويرقص”(10).
أماّ في الفصلين الثّامن والتّاسع، فتبلغ الحكاية ذروتها ونصل إلى المقطع الثّالث والأخير من النّظام السرديّ في الرّواية. وتتلخّص أحداثه في القبض على الفيل وحبسه في بئر، والتّفنّن في التّنكيل به وتعذيبه، ومشاركة السّنجاب نفس المصير. فقد أمسك به الصّقر وأكله، واختفى الذئب، ونزل الصقر إلى الأرض لينصح الملك ويعظه ويعلّمه. “أريدك أن تعرف… وأريدك أن تحفظ عن ظهر قلب، أنّ الفيل يتكلّم، لكنّ الذئب يفعل، وأنّه من الخير لنا، أن يسمع الخروف من أن يرى، فلا الحكمة تفسد طعم رأسه، ولا كثرة الملام مثل كثرة الملح”(11). ثمّ أردف قائلا: “أريدك أن تحفظ، ويحفظ عيالك عن ظهر قلب أنّ الفيل صوت ضائع في البريّة، لكنّ الذئب صوت يتردّد في كلّ صدر، إيّاك أن تولد ذئباً، مادام الأمر في يد الأسد …. لا أوصيك بعشر وصايا، ولا أُضيّع وقت ملك مثلك في أكل الكلام، لكن يكفي أن تعرف -يا صاحب الغابة- أنّ الفيل حقّ، لكنّ الذئب واقع وأنّ الواحد مستحيل … لكنّ كلّهم ممكن.” (12)
يختم الكاتب روايته بنفس المشهد الذي انفتحت عليه ممّا يمنحها بنية دائريّة مغلقة، إذ يلتقي الذئبٌ الصّقرَ، فيدعوه إلى الحلم من جديد، ولكنّ الذئب يرفض “لا تغرّني بمزيد من أحلامك، فأنا الذي مضيت وراءها وعدت إلى حيث بدأت مع خفوت الصّوت”(13).
ويسدل الرّاوي السّتار على حكاية “الصّقر والفيل والسّنجاب وما جرى من وقائع الذئب” معلناً عن العبرة التي يمكن أن ننتهي إليها في هذه الحكاية الحيوانيّة” دعونا الآن نفترق على خير، قبل أن نجتمع على غيره، ما جرى لأهل الغابة عبرة لنا…، فلا أحد منّا يقول ما يجعله يفقد رأسه، ولا أحد منّا يسمع ما يجعل رأسه يفقده”(14).
موقع الراوي من الأحداث التي يرويها (أنماط الرؤيا):
يمثّل الرّاوي الخيط النّاظم لأحداث الرّواية، فهو الذي يمسك بأطرافها من أوّلها إلى أخرها، يتوجّه بالحكاية إلى الجمهور ويجعله طرفاً فيها، مستخدماً ضمير المتكلّمين الجموع “يجلس معنا وكلّ واحد منّا معه أذناه”(15).
ولقد حاول الرّاوي أن يفصل بين السّرد والحوار في مستوى الشّكل، فكتب المقاطع الحواريّة بخطّ سميك، وجعل المقاطع السرديّة تضطلع بوظائف متعدّدة ومتنوّعة تضبط المكان والزّمان، أو تنقل أفعالاً وأحوالاً” في تلك اللّيلة المشؤومة، قال الفيل لضيوفه”(16). كما نلاحظ أن الرّؤية من الخلف قد هيمنت على الرّواية، فالسّارد هو الذي يدير السرد، ويُنطق الشّخصيّات بما يريد أن يوصله إلى جمهوره، وهو الذي يحدّد مصائر الشّخصيّات، وينقل الحوار على ألسنة الحيوانات بأسلوب غير مباشر “دعني من أحلامك، قال الذئب”(17).
تقنيات الخطاب السرديّ:
1 – الحلم:
عمد الكاتب في الرّواية إلى توظيف تقنيات الخطاب السرديّ الحديث، منها الحلم الذي يشدّ أطراف الحكاية في الرّواية من أوّلها إلى آخرها، فتبدأ الرّواية بقول الصّقر: “تشجّع، رأيتك في المنام”، وكذلك تنغلق بحلم “رأيتُ أنّنا في صحبة الملك”، ويتواتر حضور الحلم في أكثر من موضع في الرّواية.
2 – التضمين:
لم يشذّ الكاتب الصّادق النّيهوم عن عبد الله بن المقفّع في كتابه “كليلة ودمنة”. فالحكاية الرّئيسيّة تحوي حكاية فرعيّة، وقد تنفتح الحكايات الفرعيّة عن حكايات فرعيّة أخرى، فتدخل شخصيات جديدة. فحكاية الصّقر والذئب تتضمّن حكاية الأسد والذئب، وعنها تتولّد حكايات أخرى، منها حكاية الفيل وحكاية السّنجاب والصّقر. وقد ادّى التضمين إلى تعدّد الفضاءات وتوالد الأحداث التي تراوحت بين الحقيقة والخيال، والرّمز والواقع.
3 – لغة السرد:
لغة منعتقة من القوالب القديمة، متحرّرة وموجّهة لكشف فساد الواقع السياسيّ، والحفر في القضايا المسكوت عنها، بأسلوب تغلب عليه السّخرية اللاّذعة التي تهدف إلى إثارة القضايا بأسلوب فنّي يشد القارىء ولا ينفّره.
حكايةُ الحيوان: الدّلالة الرمزيّة والإحالة الواقعيّة:
لم يكن الأدبُ منعزلاً عن الواقع، ولم يكن الأديب متعالياً عن واقعه الاجتماعيّ والسياسيّ والأخلاقيّ، بل كان ينهل من واقعه وينقل قضاياه اليوميّة، ويعيد صياغتها صياغةً فنّية، تتّخذ من حكاية الحيوان شكلاً جماليّاً، منح الرّاوي قدرة على طرح أفكاره طرحاً جريئاً مستثمراً الرّمز الحيوانيّ، وهو ما تؤكده صيغة العنوان “الحيوانات” التي ترمز إلى أفراد المجتمع من ظالم ومظلوم، وسلطة ورعيّة، ومؤيد ومعارض. وهنا يزجّ الكاتب بالقارئ معه ليحسم في طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين أفراد المجتمع عامّةً، والرّاعي والرّعيّة خاصّةً.
ولئن لاذ الكاتب بعالم الحيوان رمزاً، فإنّ ذلك لم يحجب المقصد الأساسيّ من كتابة هذه الرّواية التي تكشف عن تهافت الواقع السيّاسيّ، وفي المقابل البحث عن بدائل لتجاوز الأوضاع الرّاهنة، لذلك تواترت عباراتٌ متّصلة بالواقع السّياسيّ في طابعه المطلق ونزعته الاستبداديّة المتمثّلة في ممارسات العنف والقهر والتّعسّف التي تهدف إلى إسكات صوت الحقّ، وفرض النّظام المستبدّ “وحكومته حكومة أنياب…حكومة لصوص، كلّ واحد منهم لصّ”(18).
ولم يقف السّارد عند النّقد والإدانة فحسب، بل كان يحمل نزعة تعليميّة إصلاحيّة تهدف إلى تقويم سياسة الحاكم وإصلاح أحوال الرّعيّة. ويتحامل الكاتب على الأحزاب المعارضة التي أفرغت من دورها الرئيسيّ وغدت معارضة كرتونيّة، وتحوّلت إلى آليّة بيدي الحاكم، يستثمرها لفرض هيمنته وبسط نفوذه، إنّهم لا يثبتون على مبدأ، بل يتحوّلون ويتغيّرون وفق ما تمليه عليهم مصالحهم، وهو ما جعل دورهم هامشيّاً في الواقع، ومهمّشاً، فهم لا يعكسون الإرادة الحقيقيّة للرّعيّة.
يتجاوز الكاتب فكرة التّنديد والنّقد للمعارضة الصّوريّة إلى الدّعوة لتأسيس معارضة قادرة على الحضور الفعّال والبنّاء، تقف في وجه الظلم وتتصدّى للظّلم. ولم يغفل النّيهوم عن فضح تخاذل الرّعيّة وخنوعها لمنطق السلبيّة، الذي جعل منها خاضعة مستكينة، تبحث عن النّجاة دون سعي إليه “يعذبني معشر الخرفان أنّكم مثل هذا الجبل لا يلد لكنّ ينقسم، كلّ حجارة فيه تشبه حجارة أخرى، واحدة في يدك، وواحدة في يدي عدوّك، هذه تضرب بها وهذه تضربك”.
يثور الرّاوي على الرّعيّة الضعيفة، لكنّه يتجاوز النّقد للتّأسيس، فتمتزج النّزعة النّقديّة بالنّزعة التّعليميّة الإصلاحيّة “دعونا نقول كلمة حقّ، تعالوا، نكسّروا طوق الخوف ونتركه يكسر طوقنا، لا تقفوا هكذا مقرورين في اللّيل، لكي لا يقف اللّيل مقروراً فوقكم، إنّي أحذّركم أيّتها الحيوانات، فالشّمس لن تطلع على أرض خائفة إلى هذا الحدّ …. واحد منكم لابدّ أن يغضب لكي تطلع الشمّس”(19). كما نجده يؤجّج نار الصّحوة ويدعو إلى الثّورة على السلبيّين والوقوف في وجه الظلم، وهو ما يعبّر عنه على لسان الفيل “إنّي جئتُ لألقي ناراً على الأرض وما أريد إلاِّ إضرامها.”
لقد أسهم الصّادق النّيهوم من خلال روايته (الحيوانات) في تشخيص الواقع السّياسيّ في ليبيا خلال تلك الفترة مراوحاً بين النّقد والتّعليم، بين الواقع والخيال والرّمز، ممّا أضفى جماليّة على عمله الروائي، إلى جانب جدّية طرحه للقضايا السّياسيّة والاجتماعيّة قصد بناء دولة المؤسّسات ممّا أسبغ طابع المعاصرة على شكل حكاية الحيوان الذي جلبه النّيهوم من التّراث، واستحضره ووظّفه في كتاباته الرّوائيّة مع المحافظة على مكوّناته الأساسيّة في البنية الحكائيّة.
خاتمة:
وهكذا فإن رواية “الحيوانات” للأديب الصادق النيهوم كانت تكتب ضمن خصوصية المنطقة التاريخية، والثقافية والحضارية. وكانت تعبر عن هموم كاتبها وعن راهن مجتمعه. وتنخرط هذه الرواية في إطار الرواية العربية ككل، إذ هي جزء منها ورافد أساسي، يسهم بفاعليّة في إثرائها فكرياً وجماليّاً، وهو ما من شأنه أن يضفي عليها تمايزاً وتفرداً وتنوعاً.
أ. أسماء محمد السبوعي، أستاذة الأدب والنقد، القيروان، تونس
من هو الصّادق النّيهوم؟
ولد الصّادق النّيهوم عام 1937 بمدينة بنغازي في ليبيا، تلقّى تعليمه الإبتدائي والثّانوي والعالي بالجامعة الليبية ببنغازي. تخرّج من قسم اللغة والآداب العربيّة عام 1961م، وبعد أن تحصّل على الإجازة الجامعية الأولى انتقل إلى القاهرة للدراسات العليا وإعداد أطروحة الماجستير في الأديان المقارنة، إلا أنّ الجامعة ردّت الأطروحة بحجّة أنها معادية للإسلام، فتحوّل بعدها إلى ألمانيا حيث أتمّ الدكتوراه في جامعة ميونيخ بإشراف مجموعة من المستشرقين الألمان، ونالها بدرجة امتياز. شارك في العديد من النّدوات والمؤتمرات الأدبية في ليبيا والوطن العربي والعالم، وشغل عدّة وظاىف في ليبيا من بينها مسؤول الإعلام بالاتحاد الاشتراكي العربي في ليبيا. توفي بمدينة جينيف في سويسرا بتاريخ 15/11/1994 ودفن بمسقط رأسة بمدينة بنغازي .
المراجع:
– الحيوانات، الدّار الجماهريّة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط1، 1984
الهوامش:
1 – الحيوانات، مرجع سابق، ص 88
2 – المرجع السابق نفسه، ص11-12
3 – المرجع السابق نفسه، ص 12
4 – المرجع السابق نفسه، ص 26-27
5 – المرجع السابق نفسه، ص 32
6 – المرجع السابق نفسه، ص 33-34
7 – المرجع السابق نفسه، ص 34-35
8 – المرجع السابق نفسه، ص 43
9 – المرجع السابق نفسه، ص 79 – 81
10 – المرجع السابق نفسه، ص 79-89
11 – المرجع السابق نفسه، ص 96-97
12 – المرجع السابق نفسه، ص 99
13 – المرجع السابق نفسه، ص 50
14 – المرجع السابق نفسه، ص 50
15 – المرجع السابق نفسه، ص 50
16 – المرجع السابق نفسه، ص 93
17 – المرجع السابق نفسه، ص 20
18 – المرجع السابق نفسه، ص 60
19 – المرجع السابق نفسه، ص 42