أحب الظلال التي لم تزل نائمة / لأوقفها وأحركها / كي ترف.
كأنه الباحث في صفاء الشعرية بعيدا عن الحذلقات والنظريات والترجمات الحرفية اوانه التجديف ضد التيار والخروج على القانون، خروج الفطرة للفطرة، او انه الموهبة في صفائها الاول، موهبة الطفل الذي يشعل الحرائق ويعيد اكتشاف النار ويلسع المرة تلو المرة، او انه شغف بالظلال التي يفتقدها شاعرا لصحراء الليبية الكبرى فالظل والماء ليسا مفردتين في قاموس الشاعر ولكنهما ردفان للحياة، وهما تعبير عن حسية لاذعة لا يحسها الا من تلدغه الشمس في النهار والليل، شمس الصحاري التي غيابها قارس اوانه الطفولة تتسع لمشاغبات الظل.
فلينتظر الموت وراء الباب
ماذا لو ظل ملايين الاعوام
خارج بابي
يتثاءب
لينفض عن عينيه غبار الدهر
ويقلم أظافره
يتلهى بمطاردة الذباب
كأنه العودة بالشعر الى حالته الاولى، الحالة السحرية، التعاويذ، سجع الكهان، فالنص تميمة وتراتيل في مواجهة الموت الذي هو نبض القلب وحركة الشمس. انه شاعر أرضي، انسان يلتصق بأرض تقذف من نبعها كل مخلوق، علي صدقي عبدالقادر الذي مهنته ان يمقت الادعاء والدجل، وهو لا يصنع بهذا تيارا وان كان ينجرف مع التيار حتى يبدو انه مقدمته. يكتب نصا متلعثما ومرتبكا وعفويا حد الصمت، وعفويا لان النص يكتب هذه المرة فيبدو النص المفعول به. ولهذا فان تجربة علي صدقي عبدالقادر أفقية والنصوص لهاث المفردات، المفردات المتجاورة أما الجمل فتبدو جملا برقية، كل جملة بمعزل عن الاخرى كما ان كل مرحلة منعزلة عن الاخرى لهذا فاننا أمام هذه النصوص نبدو وكأننا أمام شعراء عدة وليس شاعر واحد نرصده من خلال خيط الطفولة الكامن في الكتابة والذي يكشف عن الطفولة الأولى الممتدة فى مجمل التجربة.
الطفولة ليست الادهاش والبراءة ولا الطفولة بالمعنى الرومانسي: البئر الأولى، لا، انها الطفولة الفيزيقية التي يعيشها الشاعر في عقده الثامن بكل تجلياتها وخفاياها، وهي التي وراء هذا التبعثر في النص، في النصوص. ومنها وبها يمكن قراءة هذه التجربة التي هي كم كبير وصدف كثير ومن يبحث عن مبتغاه في بحر هذا الشعرية فانه سيضطر الى الكثير من العناء، فقد تحول علي صدقي عبدالقادر من شاعر طفل الى (آخر سريالي) (والاسم الحركي للوردة و(المطر المفاجىء) و(السيرة الليبية) وقد كتب الكثير حول علي صدقي عبدالقادر لكن شعره بقي مخبأ عن هذه الكتابة وبمعزل عن الاهتمام النقدي، وقد تلقيت شعريته باندهاش واستغراب ولذلك بقي علي صدقي عبدالقادر يذود عن المملكة الجميلة / الطفولة في كل شعره.
تميمة الشعرية الليبية – الشعر مقابل لفظي للحياة:
بدا أن علي صدقي عبدالقادر هو التدفق دون توقف في الشعرية الليبية والتي عنت مما عنت أنها القرب من النبع وأنها حالة التشكل الأولى، وانه الحرية كلها او لا. فكأنه شاعر الالهام والفطرة والموهبة البكر والانقياد لذوق الفطري، هذا الفطري المفارق الذي يمكن أن يستقي مرجعيته من الجديد الذي هو فطرة أولى لم تمس بكدرتها بعد بالتقنين النظري. ولهذا فانه شاعر يركض في غابة أحلام. الحلم الذي لم ير فرويد انه لفة، بالمعنى الدال للفة، بل قارنه بنظام الكتابة، وهو أقرب الى الكتابة الهيروغليفية، وبهذا المعنى فالشعرية عند علي صدقي عبدالقادر حالة كتابة، استكانة للحياة بحيث ان اللفة لم تعد وسيلة بل غدت كائنا، الكائن الذي هو علامة على وجودنا وعلى وجوده فينا.
واذا كنا نلملم وجودنا من الحياة فان نصوص علي صدقي عبدالقادر تعبير نشأ عن الشتات والتشظي الذي يعيشه الشاعر، الشاعر الذي يكتب وينشر بغزارة ودون امعان او تمحيص ودون تردد، فالنصوص تبدو وكأنها خيط يمسك به الشاعر- او يمسك بالشاعر- وينساب من بين أصابعه ويتلون هذا الخيط بمرأيا المحيط: قصيدة كلاسيكية حديثة، قصيدة تفعيلة، قصيدة نثر، حداثة شعرية، شعرية حداثية، واذا كان “للساهرين عالم واحد مشترك والذين ينامون، يستغرق كل منهم في عالم خاص” فان هذا الشاعر نائم، وهو لا يتكلم ولا يكتم شيئا، واذا كان هذا كذلك، فان النصوص تشير الى شعرية عفوية تتخبل وتنزاح حتى عما يمكن ان تراكمه من ذاتها ولذاتها، فكأن النص يخرج عن نطاق نفس الشاعر، كأنه نص بالقوى وليس نصا بالفعل، انه نص لا يؤول نفسه والنصوص جملة واحدة بدون وقفات، تستعصي على الفهم.
وفي هذه النصوص / الجملة الواحدة، لحل الركام والسمات المميزة للشعرية العربية التي تجتاحها موجة تطوي موجة. وهذه الجملة / النصوص، تبدو انها هذيان يتتبع الشاعر من مقطع الى مقطع ومن نص الى نص… الخ، ولهذا فان علي صدقي عبدالقادر هو الشاعر العربي الذي تكتبه القصيدة وتجعله الكتابة شاعرا او كما قال قداسة بن جعفر: (ان الشاعر انما سمي شاعرا لانه يشعر من معاني القول واصابة الوصف بما لا يشعر به غيره، واذا كان انما يستحق اسم الشاعر بما ذكرنا، فكل من كان خارجا عن هذا الوصف فليس شاعرا وان اتى بكلام موزون مقفى). وقد يكون علي صدقي عبدالقادر شاعرا لانه ليس كذلك أيضا فهو يتماس مع الاشياء ولا يدخلها وهو كما تنبىء النصوص يشعر بما يشعر به الآخرون ولكن في حالة أولى من الشعور التي قد تكون مرحلة ما قبل الشعور عند فرويد. فهو طفولة مركزة ودائمة الحضور، طفولة فيزيقية وهو ايضا الرومانسي الذي يرى ان لفة الشعر يجب الا تختلف عن لغة الكلام اليومي وعن الثأثأة فالشعر (يدعونا الى الصيرورة اكثر مما يدعونا الى الفهم – بول فاليري).
الطفولة الفطرة والتدفق اللاشعوري:
لي أشعار بخدود وشفاه
لا يفهمها احد غيري
لذلك فان قصائدي وهي في
موكبها
تتقدم في صف واحد
حتى لا يتخلف الاعرج منها
ان أهم ما ميز هذه الشعرية انها مثلت البكارة الأولى دون إدعاء او حذلقة، انها شعرية عارية مما يميز الآخرين. فالنص – نص علي صدقي عبدالقادر- احتجاج على (عالم الكبار) الذي يقصي ويخص هذه البكارة، وهو حالة كتابة الوهلة الأولى،اندهاش اللحظة والانسياب الذي يغمر الشاعر بعيدا عن أي ملمح لمشروطة ما وحتى أحيانا مشروطية الشعر ذاته. بهذا فقد يكون النص نسخة بالمعنى الحرفي للحالة الشعورية او لهذيانات دون تمحيص وكثير امعان او عناء. وهكذا كتابة تبدو أنها عود الثقاب الذي يسرقه الطفل ليشعل الحرائق في الحقول. وان نبع علي صدقي عبدالقادر هو هذه الطفولة التي لم يغادرها ولم تغادره فانه يتشبث بها في روح طفولية عنيدة واذا ما حدث وغادرها فان الكتابة تتحول الى مشكلة (الكبار) ورغبة في المرافعة عن قضايا الآخرين تستقل عنه وتظهر في شكل (صكوك غفران) يقدمها الشاعر للمرحلة الشعرية السائدة.
لهذا تراوحت نصوصه بين الكتابة والرغبة في الكلام، بين نص للعب المراوغة ونص رطانة. غير ذلك فان شعريته تظهر ان كل شيء فينا يبحث عن أوله. واذا كان (الشعر أنانيا، يقود الكاتب الى فصام شخصية في لعبته) فان شعرية علي صدقي عبدالقادر تمثل شهادة هذا الفصام وشاهدا على هذا القلق من التصنيف، فهو يركض كالاعمى في متاهة الحياة. وكل ما يتحسسه وما لا يتحسسه يمر من خلال طفولته لعبا بالكلمات نسميه الشعر. فالكتابة تأخذه عن نفسه ليكتب سيرة طفولته، الطفولة الازل، هذا الطفولة التي عاشها ويعايشها في الكثير من النصوص التي تكشف عن سيميا0 سردية حيث كثيرا ما تأخذه صيغة الحكي الى نثرية وصفية وبنية سردية والى مباشرة الراوي وانطباعيته، انه يذهب في النص الى تخوم ان:
الأصابع تبحر في الظلام
ولا تحتاج الى مصباح
مصباح الضرورة الشعرية الذي كثيرا ما تفتقده النصوص، فتظهر عارية من غاياتها، مجردة من الشعرية فقد…
ذهبت الظلمة وبقيت الزرقة
التي هي وثائق لحالة الكتابة، وثائق مكتوبة لحالة ما قبل الشعر، ولطفولة طاغية يذوذ عنها بالكتابة.
تلاقت على الافق حبة ليل، وحبة
ضوء أول مرة
وحاول أن يجعل الضوء لليل
وجها وعينا
وحاول غسل السواد ثلاثين مرة
وفر الظلام
ومن يومها صار جبن الظلام
حكاية جداتنا
فعود ثقاب يمزق اكبر ليل بلحظة
ويبدأ يوم جديد
الآم الحنين والانشائية العاطفية:
ان الأم قد تكون في شعرية علي صدقي عبدالقادر وجها آخر لديمومة الطفولة، الأم في السيرة الذاتية للشاعر ماتت وهو صفير، وقد تكون وجها آخر للحوت الذي يبرر هذا الخوف الفطري ومقت الليل والظلام الذي قد يبرر هذا النكوص النصي بحيث إن النصوص تكون نصا واحدا يؤول نفسه بالحنين الى الأم في انشاء عاطفي مشوب بالحنين. والاحتفاء بالحياة رغم شفافيته فانه في النص (مجرد سرد وصفي يرحل عبر الذاكرة ليرسم تفاصيل جزئية للطفولة في مرتع الأم. وحنانها، ولم يتح النص أية امكانية أخرى للتأويل – وهذه الوصفية لا تقدم شيئا بالمعنى الذي يمكننا ان نعتبره يمثل ارتقاء بالتجربة والخروج عن أسار الحالة الطفولية بدلائلها السيكولوجية الضيقة – مفتاح العماري).
فتحت صندوق أمي، وجدت
رائحتها واغنية
أتيت بالقاموس لأعرف المعنى
فعمت
وأتيت بالملح فتحته لم أجد المعنى
قال الصندوق جئني بالبحر
وافتحه يخبرك البحر
افتحه تجد مدينة في الصندوق
إن شعرية هذا الشاعر تكمن في هذا الصندوق، صندوق الف ليلة وليلة وهو السذاجة الأولى التي فيها علائق وثيقة بين القاموس والملح حيث الترادف لا يكمن في المعنى الواحد بل يكمن في التضاد ولا يكمن في المعنى بالمرة بل يكمن في اللامعني، وفي المفارقة، وان مدينة السندباد التي يحتويها هذا الصندوق ليست بغداد ولا أية مدينة ضمتها الاساطير المعروفة ولكنها مدينة اسطورة علي صدقي عبدالقادر الكامنة في (الأم)، هذه الأم التي تحولت الى نشيج ونشيد يستغرق الشاعر في انشائية عاطفية هي كتابة نثرية صارخة في أحيان والتباسية في حيث النص يكون هذا الصندوق الذي يضم كل ألاعيب الساحر: الخاتم المتكلم وغياب المعنى، البحر المفتاح مغارة علي صدقي عبدالقادر الذي ولد فوجد ذاته في (بلد اشبه ما يكون بمحطة صغيرة، على طريق صحراوي، يمر بها المسافرون متعجلين، لا يتركون خلفهم الا الظلال – عمر الكدي).
ان الأم قد تكون وجها آخر لبساطة مستعصية، بساطة التكوين الاول واستعصاء المعرفة التي هي فقد الامان ودخول في جحيم التجربة. انها بساطة عصية على الشاعر الذي يتكىء على صندوق حكاية الجدات وألاعيب الأم لتنويم طفلها، بحيث ان الكتابة تتداخل وتتخارج في كتابة علي صدقي عبدالقادر بين النثرية الصافية والشعرية المرتبكة التي تستهدف الادهاش، وبالتالي الحركة الدؤوبة في اتجاه الجديد والموضة. فقد يلبس الشاعر الكتابة / كتابة أخرى ليست من أغراضها حين انتاجها ونشرها، وذلك بان يقوم بتحويل (مقالة نثرية) نشرت في بدايات الشاعر في الخمسينات الى نص شعري في الثمانينات حين يكون قد تبين للشاعر ان الشعر يكمن كثيرا فيما هو (منثور) وأن تصوراتنا عن الشعر متغيرة، متحولة بالقابلية للشعرية التي تنزاح كلما انزاحت تصوراتنا المكتسبة، فالشعرية تصورات اللاشعور، من هنا فالسريالية عند علي صدقي عبدالقادر ليست تصورا اوسطيا قياسيا او مفهوما فلسفيا وضعته تجربة السرياليين الفرنسيين عقب الحرب العالمية الأولى وان كانت أزاحت عنه الستار ووضعت تصورها عنه، وقد يكون ذلك قد تشكل ضمن رؤية علي صدقي عبدالقادر للشعرية بالضرورة، ضرورة الاطلاع والانتماء للعصر، لكن السريالية في نصوصه تكمن في انكشاف الغطاء: انعدام الاسس والمرجعية وانفتاح مغارة النفس، تكمن في خبل الطفولة في انزياح الام الذي يظهر في التلعثم والتكرار والسذاجة البليغة ولغة الثأثأة، ففي الكثير من النصوص ثمة عته عجيب وتراكيب تعويذية خارج السياق ليست مقصودة في ذاتها فقط استدعتها الحالة الشعرية التي وكأنها تنبع من نبع صاف عميق الغور لا يمكن استكناهه لكن يمكن تحسسه في مجمل هذه النصوص.
ان التكرار وهذا التشتت وهذه العفوية هي شعرية الفقدان وانعدام اليقين وعبث بالعبث نفسه، وبالتالي بأي مفهوم للشعرية لا عن قصد الخروج عن قاعدة او لتأسيس مفهوم جديد بل تبدو شعرية علي صدقي عبدالقادر انزياحا خالصا، انزياح الأم..!
ـــــــــــ
عندما يكون الطفل بعيدا عن والده يرغب في تقليده وكبر وميتوس صغير يسرق عود ثقاب ويركض في الحقول
جاستون باشلار..