هذا كان حجر زاوية في فصل بعنوان (العبثية في الأدب العربي) ضمن أطروحة دكتوراة، حول العبثية في أعمال سردية ليبية حديثة. الحجر الآخر كان عن (علي أحمد باكثير). الكاتب المصري (توفيق الحكيم) عاش في هذه المسرحية أوج اقتراب متقن، وعارف لأدب العبث. وقد عاصر وهو في باريس ظهور (ألبير كامو).
التحليل كله جرى اختصاره لاحقا. لكن هذه صورته الأصلية.
توفيق الحكيم – مسرحية شهرزاد
عرض للمسرحية
تقع المسرحية في سبعة (مناظر) مقسمة على النحو الآتي:
المنظر الأول: طريق قفر، وبه منزل منفرد، بينما هناك عليه مصباح، الوقت ليل، وهناك موسيقى يحملها ” نسيم عليل. المنظر الثاني: قصر، به قاعة للملكة وسطها حوض من المرمر به ماء. المنظر الثالث: بهو الملك، وهناك موسيقى خارجه، والوقت صباح، حيث الشمس تبدو غائصة تمل المكان. المنظر الرابع: بيداء والوقت غروب، وهناك شمس تبدو بعيدا غائصة في الرمال. المنظر الخامس: بهو الملك والوقت ليل. المنظر السادس: خان أبي ميسور. المنظر السابع: خدر شهرزاد. تار وبه ستار أسود.
تقوم المسرحية على وجود شخصيتين تسميان شهريار وشهرزاد. وتلوح الأهمية الكبرى معقودة لهما، تظهر شهرزاد طرفاً متحكماً وشهريار أسيراً لها، يريد أن يعرف منها ما يريحه، ويلخصه في سؤال: ” من هي؟ ” بينما تلجأ هي إلى التهرب من الإجابة عن سؤاله، بدعوته إلى ملاحظة جمالها. شهريار يقرر أن يرحل ويصحبه في رحلته قمر، برغم أنه كان يفضل أن يرحل وحده. وينزل في خان يملكه شخص اسمه (أبو ميسور) وينزل فيه الجلاد. ثم يعود شهريار، حيث يموت قمر، ويغادر شهريار خدر الملكة، أي شهرزاد، بينما تبقى هي والعبد، الذي يبدو أن شهرزاد كانت قد سمحت له بالاستمتاع بها. ولكن شهريار لا يبدو مهتما.
قصة المسرحية تستحضر (ألف ليلة وليلة) وتستقي الإطار الخارجي، الذي يشكل مبعث توالي حكايات ألف ليلة وليلة، أي: الملك الذي كان يقتل جارية كل ليلة، وشهرزاد، وهي ابنة وزيره، التي تجعله يبقي عليها، لكي تكمل حكايتها. وبامتداد الزمن تصير أثيرة عنده.
لذا، فهما أساساً شخصيتا ملك، وجارية. إلا أن المسرحية تقدم شهرزاد بوصفها ملكة. ومكان وجود شهريار هو المتغير بين الأماكن، بينما لا تظهر شهرزاد في هذه المسرحية إلا في القصر. وذلك على النحو الآتي:
مرة في قاعة الملكة: وفي هذه القاعة حوض رخامي به ماء. وفيها يجري حوار مطول بينها وبين الوزير. ثم بينها وبين شهريار. في الحالين، لا يقطع حوارها مع الوزير واقعة ولا قدوم أحد، والأمر نفسه يسري على حوارها مع شهريار، برغم أنها تقول للوزير: ” اذهب وجئني به ” وتقصد شهريار، فإنه لا يحدث ظهور آخر للوزير مترتب على ذلك. ولا يعدو وجود غير الشخصين المتحاورين ما يذكر عن جوار يعزفن.
مرتين في بهو الملك:
وفي الأولى منهما وهي التي يضمها (المنظر الثالث)، يكون الحضور موزعا بين منظر رحيل شهريار، وحواره مع أحد العبيد حول تهيئة الإبل، وتحاور الساحر وقمر مع الملك. الملك يستشيط استياء من رؤية الساحر، فيخرج هذا، ويبقى قمر، وبعد حوار طويل معه تأتي شهرزاد، وتودعه بقبلة حارة. وتختم المنظر بقولها إنها ترثي له.
المرة الأخيرة في خدرها: شهرزاد هنا وحدها مع العبد تحاوره. ثم تأمره، عندما يقترب شهريار، بالاختباء وراء ستارة سوداء. ويجري حوار بينها وبين شهريار، ويظهر قمر بطلب من هريار، فيشترك في الحوار، ويخرج، ويعود الحوار بين شهرزاد وشهريار ممتدا، إلى أن يكتشف العبد مختبئا، والعبد يكشف أن الجلاد أطاح برأس قمر، وبعد استئناف الحوار بين شهرزاد وشهريار، ينصرف شهريار، ويختتم المنظر بحوار بينها وبين العبد. تكون هي آخر من يتكلم فيه.
أما شهريار، فيظهر منذ المنظر الأول، ولكن ذلك لا يحدث إلا في نهايته، وعلى نحو خاطف. بينما يكون الظهور الأوفر للساحر وجارية والجلاد والعبد. ويكون الحوار الأخير دائرا بين العبد والجلاد، ويختمه الملك.
بترتيب المناظر لا يلوح المنظر الأول إلا مخصصاً للتقديم لعناصر الحالة السائدة، المتصارعة في المسرحية. وهي في الوقت الذي تفيد فيه عن وجود شخصية الملك، فإنها تفيد بوجود عيد تقيمه العذارى للملكة شهرزاد، يضم التضحية بإحدى الجواري، حيث يتولى شهريار بنفسه قتل الجارية.
يبدأ المنظر بالساحر يقود الجارية إلى منزل، ويحذرها من العبد، فيما تبدو أنها معجبة به. وبينما يختفيان في المنزل يبرز العبد ثم الجلاد. يلاحظ العبد أن الجلاد من دون سيفه، ويخبره هذا أنه باعه وشرب بثمنه أحلاما. وأنه لم يعد جلاد الملك. ويسر الجلاد للعبد، أن الملك يأتي سرا إلى المنزل لكي يختلي بالساحر. ويذكران أن الساحر هو والد العذراء.
العبد يستبقي الجلاد كي يحدثه عن شهرزاد، وهذا يفيد أنه قد علم فعلا ما يكفي بالأمس. ويرى العبد نورا متفجرا فيخبره الجلاد أن تلك حجرة الملك، بينما للملكة حجرة في الجهة الأخرى من القصر. وأن الملك مصاب بخبل حقيقي. ويريه إياه هيكلا بعيدا في يسار الشرفة يتأمل في النجوم. وأن الملك ” فاجأ امرأته الأولى بين ذراعي عبد خسيس فقتلها وقتله، ثم أقسم أن تكون له في كل ليلة عذراء، يستمتع بجسدها ما شاء، ثم يذبحها في الصباح “. وعندما يختفي مرأى الملك يجيب الجلاد العبد بأنه ربما قادم إلى الساحر. هنا يختفي العبد، ويخرج الساحر، وبينما يستغرب الجلاد من اختفاء العبد، يلعنه الساحر، ويطفئ المصباح. وينصرف الجلاد. بعد استغراب الساحر من بقائه. ويغلق الساحر باب داره.
يظهر العبد من ثم قائلا: ” واها لمن حكم عليه بالسير في الظلام ” ويحاوره صوت جارية من نافذة منزل، مبتدئة بآهة طويلة يستغرب لها. والجارية تحثه على أن يهرب، بينما هو يوالي الأسئلة لها حول أمر الملك الذي قد يقتل أي عبد حينها لو رآه. وأمر تخبر الجارية العبد بأمر غريب، وهو أنها وحدها إلا من دون به ” آدمي قد مكث أرعين يوما في دن مملوء بدهن السمسم لا يطعمه الساحر بغير التين والجوز حتى ذهب لحمه وما بقي إلا العروق وشؤون راسه ” وان الليلة يخرجه الساحر ويدعه يجف عليه الهواء. وأنه يفعل هذا لكي يجيب الملك عن كل ما يسأل. وبينما تصرف الجارية العبد محذرة بأنهم قادمون لإطفاء المصباح، تودعه وتزفر آهة طويلة ثم تقول: ” إن طاف بك في الظلام غمام أخضر فاذكر زاهدة المجنونة “.
باختفائهما يظهر الساحر والملك، وهما يتحاوران يظهر أن ما يخشاه الساحر هو أن يراهما قمر، بينما يقول له الملك: ” وأي بأس! ما ضرنا أن يعلم قمر ويخبرها. فليخبرها ما شاء! من هي؟ علمت أو لم تعلم؟! “.
باختفائهما يظهر العبد والجلاد من جديد. يخرج كل منهما من جهة غير جهة الآخر، وعندما يلتقيان، يخبر الجلاد العبد انه يريد أن يذهب إلى معه إلى خان أبي ميسور. يخبر الجلاد العبد عندما يقول له هذا أن الليلة سيطاح رأس، بأن الملك لن يقتل الوزير، وأنه ” ليس هناك رأس آمن من رأس قمر “. ويسمعان أنة غريبة خافتة. ثم يلفت العبد الجلاد إلى وجود غمام أخضر. ويختم الجلاد الحوار بقوله مرتجفا: ” فلنترك هذا المكان “.
بالحصول على هذا المنظر نكون قد حصلنا على كل تفسير لما سيعرض ومحفزات سلوك الشخصيات، خاصة شهريار.
يكون المنظر الثاني مقسوماً بين الوزير وشهرزاد، ومن ثم شهريار وشهرزاد. يبدأ بقول الوزير: ” مولاتي! أنت لا تصغين إلى حديثي “. وبينما تأخذه شهرزاد بعيدا بمحاولة التأثير عليه بأنوثتها، يحاول هو أن يذكرها بأنها غيرت الملك، بأن خلقته من جديد في ألف ليلة وليلة. ويقول: ” أليست قصص شهرزاد قد فعلت بهذا الهمجي ما فعلته كتب الأنبياء بالبشرية الأولى! “. ولكنها تقول له بأنها ما فعلت ذلك إلا من أجلها هي. وعندما يسمعان صرير مفتاح من باب سردابه، يخرج قمر على عجل، ويدخل شهريار. ويلوح أنه حضر بناء على طلب منها. وتقول: ” اعزفن أيتها الجواري! عيني شهريار أريد. فيهما أطالع الخيبة والاندحار. الليلة يعود إلي شهريار، عاجزا مكدودا يائسا، شاعرا بالفناء ككل قوة في نهايتها “. وعندما يدخل شهريار يصيح متذمرا من الأصوات قائلا: ” من أذن لكن الساعة بهذا الضجيج أيتها الساقطات…!” الحوار يتصل بين شهريار وشهرزاد وكأنه كر وفر، وتقول له: ” أرأيت كيف تضل السبيل بالتجائك إلى السحرة والكهان! ” بينما يرد: ” ماذا تريدين أن أصنع؟ لقد أيست منك … ” ويلح شهريار في حواره بقوله إنه يريد أن يعرف من هي. ويحدث أمر غريب، فهو يأخذ برأسها بين يديه، ويخرج خنجره لأنه رأى شعرة بيضاء، يهم بقطعها به. وتخلص نفسها منه وتمضي إلى صفحة الماء وتنزع الشعرة بنفسها، وتكشف له عن محاسن جسمها. وعندما يستطيل الحوار ويلوح تعبه ومدى ما يحسه، تأخذه وتمسح شعره قائلة إنه ليس هرما. وتسأله إن كان يريد أغنية، ثم يبدو أنه نام، وتقول هي: ” نم.. نم.. نم.. أيها الطفل الذي أتعبه اللعب!”
المنظر الذي يلي ذلك مخصص لرحيل الملك. أي إن هناك قبل هذا صحوة الملك بعد أن هدهدته شهرزاد، ولا نعلم كيف جرى ذلك وما تلاه، والمنظر الثالث يظهر أن هناك إبلاً للرحيل، من أول افتتاح له، بقول شهريار لأحد العبيد: ” أهيئت الإبل؟ “، ونلفي حينها تعقيب الساحر: ” الخبر إذن صحيح؟ “. ويكون من يرد عليه هو قمر الذي يستغرب قدومه قائلاً: ” ما الذي جاء بك أيها الساحر؟ ألا تعلم أن الملك لا يسر الآن لمرآك؟ “. ونعرف من الساحر وهو يخاطب قمر بقول ” يا مولاي “. أن الخبر شاع في المدينة.
من الواضح أن الملك لا يسر لمرأى الساحر ويخاطبه بقول: ” عد إلى أمثالك.. أيتها الديدان الكبيرة التي ما خلقت إلا لتأكل صغارها …!”. وبينما يكون الساحر خارجاً يهمس: ” وأنت كذلك أيها الملك.. ألن تأكلك صغارك!” ويموه قمر كلامه للملك.
وعندما يومئ الملك لإيقاف العزف، يجري حوار مطول بين قمر وبينه، وقمر يريد أن يثنيه عن السفر. بأن المعرفة يمكن أن تأتيه وهو في مكانه. وعندما يذكر له قمر أن جمال عيني امرأة هو أجمل شيء في الوجود، يغمز الملك من هذه القناة الوزير، ليشير من طرف خفي إلى عيني شهرزاد التي سيبقى قمر معها. ويقول له إنه ينبغي أن تكون له كل ليلة عذراء لكي يبصر. ويضيفهما بعد: ” أود أن أنسى هذا اللحم ذا الدود، وأنطلق.. أنطلق.. “. ثم يقول له إنه لا يأمن غيره على شهرزاد. وعندها تصل شهرزاد وتستأثر تقريبا بالحوار مع شهريار حتى نهاية المنظر. ولا يشاركهما قمر إلا بقوله بعد استغراق شهرزاد وشهريار في الحوار: ” ماذا ننتظر من رجل كانت له في كل ليلة عذراء!”. ويعقب قائلاً: ” رجل بلا قلب ” ولا يزيد شهريار عن قوله: قمر غاضب علي.. الويل لي!”. وتتبع شهرزاد ذلك بقولها: ” قمر رجل. “. بينا هو يقول: ” قمر ما زال طفلا “. وتفاجأه لاحقا بقولها: ” ابق أنت يا قمر ” وينسل قمر خارجا. وتقبل شهرزاد شهريار بقوة حتى أنه يرتجف. ويخرج.
يكون المنظر الرابع لمشهد سفر في بيداء ساعة الغروب، ونكتشف أن قمر في صحبة شهريار، وينصح قمر شهريار بالقفول. كل ما في مشهد السفر هو منظر غروب الشمس. والمنظر يختمه قمر بوله: ” تحسب أنك تفحم قلبك بلغو من الكلام “.
المنظر الخامس في بهو الملك الذي تكون فيه شهرزاد مع العبد، الذي يظهر متسلقا النافذة، وبعد أن يدخل يغازلها. شهرزاد تخاطبه بقولها ” يا حبيبي ” وتقول له إنها تخشى عليه. ولكنه يواجهها بشكه في إخلاصها له. وأنه مجرد شقي ستغدر به. يختم المنظر بسؤال العبد عن شهريار: ” أين هو الآن ” فترد شهرزاد: ” هجر الأرض، ولم يبلغ السماء فهو معلق بين الأرض والسماء “.
المنظر السادس والملك مع قمر في خان أبي ميسور. لكن المنظر نفسه يبدأ بأبي ميسور والجلاد، وأبو ميسور يصفه مقرعا بأنه مفلس، ويطلب منه النهوض من الفراش الوثير.
وينصرف أبو مي ور ليعود بتاجرين ليسا إلا شهريار وقمر. وأبو ميسور يقودهما على بساط يشبهه بالبحر، ويطلب منهما السير على شاطئه. وعندما يرى الملك الجلاد يسأل أبا ميسور عمن يكون، فيتظاهر هذا أنه لا يراه. ويخلع نعله ليتظاهر بأنه سيقتله به. ويهمس قمر للملك بأه جلاده القديم. وينصرف الجلاد، وكذلك أبو ميسور قائلاً: ” هيا اعتليا جناح هذا الطير “. ويستغرب قمر أي طير فيجيب شهريار: ” طير الرخ “.
يقول قمر: ” لا أستطيع المكث هنا لحظة واحدة. لن أتبعك هذه المرة في هذا الجنون “.
ويكاشفه شهريار باتهامه: ” بل قل إنك تتحرق شوقاً إليها “، ويلاحقه باتهامه فيما هو يتملص. ويخبره شهريار إنه يحبها أكثر مما يحبها هو، ويرتجف قمر، ويسميها إيزيس، ويذكره الملك بأنه من شبهها له بإيزيس. ويذكره أنه صاح من رؤية عيني بيدبا في الهند.
يظهر أبوميسور، ويتحاور معهم، ويرى قمر سيفا معلقا، يخبره أبو ميسور أنه سيف الجلاد باعه له بدين عليه. ويستري القمر منه السيف بينما شهريار يستغرب.
يصيح أبو ميسور من وجود الجلاد مدخنا في مجلس الموسرين وبأدواتهم، وهذا يخبره أنه حصل على المال من صديقه العبد، الذي سيأتي. وأنه كان في سؤيؤ الملكة. ويهيج قمر. ويشتم قائلا: ” أيتها الكلاب القذرة! أيتها البهائم!”. بينما شهريار يهدؤه. وقمر يقول له: ” أقسم بمن خلق الإنسان، أني ما أبغضتك وما أصغرتك بمثل ما أبغضك وأصغرك الآن “. يبدو قمر منفعلا ودموعه تسيل، وشهريار يقول له عن نفسه، إن جسمه هو ما يحبها. وبهذا القول يختتم المنظر.
المنظر السابع هو في خدر شهرزاد وهي مع العبد. التي تخبره أنها دعته لكي يراه شهريار بعد قليل. وعندما يأتي شهريار يظهر قمر أيضا، ويحاول أن يشهده على أنه ليس بالحجرة أحد.
هذه المرة تحاول شهرزاد أن تستنطق شهريار قائلة: ” إنك تكتمني أشياء في نفسك ” وتقول: ” إنك الآن مخيف “. يجري الحوار لاحقا بينهما عن الأسئلة الحائرة، وهي تخبره أنه لا جدوى من السفر، وهو يسألها عمن هي تكون، وتطلب منه أن ينظر إلى ما تصفه بظاهر الرداء. وبينما ينظر إلى الستارة تسأله عن السبب في نظره إليه، ثم تقول: ” ما الذي يمنعك من قتله؟ “. وهنا يخرج العبد صائحا بها: ” أيتها الخائنة! وقتلك معي “. ولكن شهريار يصرفه. ونسمع فجأة صيحة العبد راجعا ” النجدة! النجدة الوزير
وينصرف شهريار الذي يقول عن قمر – الوزير إنه لم يعد يستمد حياته من الشمس. وتظل لا: ” أستطيع أنا أن أعيده إليك “. وتختم شهرزاد المسرحية كلها بقولها: ” خيال! شهريار آخر الذي يعود. يولد غضا نديا من جديد. أما هذا فشعرة بيضاء قد نزعت “.
تحليل
شهرزاد – الجميع:
تتأسس قاعدة لوجود شهرزاد من خلال وجودين: وجودها في مخدع الملك. ومن ثم وجودها في وجدان الناس، إذ هي مبعث تدفق الحكايات. فهي ليست مجرد الشخصية التي برزت بسبب تفاقم اختناق واقع إنساني بحال وجود الملك القاسي، الذي يقتل جاريته عند الصباح، ولكن كونها الشخصية التي تحكي، بحيث لا يعود متلقي حكاياتها مجرد السامع – شهريار، وإنما هو متلق آخر يقرأ أو يسمع الحكايات فيما بعد.
على هذا النحو يتكرر حضور العلاقة الثنائية الراوي – المروي له في كل حكاية، عندما تشرع في سردها بقولها: ” بلغني أيها الملك السعيد “.
بالافتتاح في كل ليلة حكائية يتقرر مركزا الحاكية والسامع، كونهما شهرزاد وشهريار.
وتأسيسا على هذين المركزين، فإن الملك يكتسب حضور المستمتع بالإصغاء. بينما يضم الافتتاح تعبير المجاملة، التي يستحقها ملك في موضع استحواذ على دنياه. ويتقرر ظاهر العلاقة لمجرد حاكية مجاملة وملك مصغ مستحق للمجاملة، كونها علاقة الهيمنة على الصوت المفتتح، وعلى فعل التوالي بخلق الحكايات.
في التضمين الخفي للصيغة ” بلغني ” ثلاثة قوى: 1- معرفة زائدة. 2 – صلة ضمير المتكلم بحضور المعرفة في ذات المتحدثة. 3 – نية التحدث.
وهذه القوة تعمل مضافة إلى الفكرة الحاضرة عن الهيئة المقررة أصلاً من الراوي الأصلي، الذي أسس مركزي شهريار وشهرزاد. فهو سرد يقع في مخدع شهريار، وشهريار لا يزيد عن أن يصغي. ولا يتدخل إلا بمعرفة مسبقة من المتلقي الآخر، أن الملك سيبقي على حياة شهرزاد بتعبير خاص منه، لكي ينصت في ليلته التالية.
مع ذلك، فإن كلاً من إنصات الملك، وإبقاءه على حياة شهرزاد يضعانه في موضع غير قامع لشهرزاد، ولا يظهر أن له فيه حيلة.
عدد المسلين السطحي والمتواري-
الظاهر هو أن شهريار يفرض وضع المتسلي، بمسليته شهرزاد. وهكذا، فهي مجرد مرفهة بائسة، تمد حياتها يوما ويوماً آخر، بحذق ألاعيبها في فن الحكي. وهي في خلال اتباعها هذه البهلوانية السردية، تبذل كل ما في وسعها لكي تحذق حبك حكاياتها، على النحو المفضي إلى ليال أخرى.
وهي إذ تجلب له حكاياتها، بوصفها مسليته الظاهرة، التي تمارس رشاقة التنقل من حكاية إلى أخرى، وتتخير طرق التشويق، والإثارة، فإن عشرات المسلين الآخرين ينبثقون، من عالم قد يكونون فيه رعيته، أو رعايا ممالك شبيهة بمملكته. وهكذا، فإن هناك مأساة أخرى تحضرها الضحية الأولى، ليكون هناك هي: الممثلة التي تجيد تكييف نفسها بإحسان خلق حبكاتها. وهناك من ثم، من دون زعم ذلك، كل شخصيات الحاضرين، الذين هم من عالم خيال خصب، يؤكد كونهم من خلق الخيال دخول عالم الخرافة ليضيف الرخ والسندباد والمردة … إلخ. ومخدع شهريار يغدو بلاطا لظهورهم وغيابهم. بينما هو يرى ويصغي. ولا يزيد عن أن يجترح ذلك الانتباه، متحققا من أنه الملك الحقيقي.
شهرزاد العارفة – وشهريار الخالي الذهن:
ما وراء صيغة الكلام الأولى في ” بلغني “، تتأسس شهرزاد العارفة، المهيمنة على رأس شهريار الخالي من المعرفة. هذا الوضع يجعل من شهرزاد سيدة كبيرة عالمة، وشهريار طفلا كبير الجسم واللقب مكابراً، ومعترفاً بحاجته لأن يعرف. حتى أنه قد ينام بين يدي شهرزاد وتحت ملاحظتها. وهذا الوضع يهرع إليه شهريار بنفسه مسلوب الإرادة، مكابراً باستعراض هيمنته التي تحتم على جاريته أن تفتح فمها وتنطق. عارفاً أنها ستنطق أنباء لم يكن يعرف عنها خبرا، فيها خفايا غريبة.
هكذا، أحالت هذه الجارية شهريار إلى متداو بحكاياتها بدلا من تداو بالجسد. الحكاية تتلو الأخرى مقطوعة بحذق، بدلا من جسد يتلو جسدا مقطوع الرأس بشفرة جلاد حاذق.
شهرزاد المتحكمة – شهريار الخانع
لشهريار مسبقاً موقع تحكم خاص به، مستمد من عالمه المبني من تكوينات القصر: السياف، الخزانة، الولاء، الولاء العام. وبدخول شهرزاد على هذا التركيب، وتمكنها من النفاذ عبر ليالي الحكي، تكون قد جمدت أولا عمل السياف. ولن يكون للخزانة معنى بعد، ما دامت لم تنه حكاياتها، ولكن الولاء العام الذي تندرج شهرزاد فيه بقولها: ” أيها الملك السعيد ” تطوي ما يخلخل ولاءها بالختام: ” وأدرك شهرزاد الصباح.. فسكتت عن الكلام المباح “. وكلمة ” المباح ” تضع شهرزاد في مواجهة مع قوة كونية أوسع تأثيرا منه، لن يمكنه أن يعارضها، لأنه هو نفسه سيذعن لها.
وبذا، فإن شهريار سيأتي في اليوم التالي باختلاف في شخصيته، إذ صار سيف نقمته معتاداً الاختفاء، وهو اعتاد موقع الملك المنفصم: ملكاً بقية ما في اليوم من عادات البلاط، وطفلاً عندما تظهر شهرزاد.
شهرزاد – الرعية:
ليس في إمكان أي فرد من الرعية – المتلقي الأخير، أن يطال شهرزاد بأذى. وذلك لا لغياب الملك وحده، وإنما لغياب السياف. وكل واحد من هذه الرعية في هذه الحال يتمنى أن يطول صبر شهرزاد، وتجود بالإفراج عن صرار حكاياها. وهذا الموقع يضع مخزون فعالية في خفاء شخصية شهريار.
على هذا النحو فإن شهرزاد تجمع بين موقعي الجارية الأسيرة، والساردة المتحكمة. تستمد من معرفتها سطوة تخلدها مثلما تخلد شهريار. بينما شهريار يضحي بكونه أسير تحكمه الخالد الذي لا تفسير ظاهرياً لاستطالة تحكمه وقسوته، مقابل أن يكون شهريار المحتاج إلى شهرزاد والمذعن لحكمها وهي تتحدث.
شهرزاد الحكيم
مسرحية شهرزاد لتوفيق الحكيم تقع خارج المنطقة الزمنية لحكاية شهرزاد الأصلية. وهي تحديداً تقع بعد أن انتهت الليالي، ويبدو شهريار وقد تغير في ظاهره، في علاقته بشهرزاد، ويظهر معه شخصيات: الوزير قمر، الساحر، الجلاد، عبد وجارية، أبو ميسور صاحب الخان.
ولا يظهر شهريار في حال الملك صاحب السطوة المطلقة، ولا القاسية، بل يظهر مجرد إنسان حائر، يطلب إجابة من شهرزاد، وقد صيرتها المسرحية ملكة بدورها. وهذه الحيرة تصنع أزمة شهريار لا أزمة شهرزاد، وهو يبدو رهنا لإجابة يحصل عليها من شهرزاد، التي تسيدت على مشاعره وشخصيته على نحو محير، وغير مفصح عن أسراره.
وفي الوقت الذي يظهر فيه شهريار في هذه الحال: يظهر أولاً وهو يتطلع إلى النجوم بحيرة، ويظهر ثانياً في حوار طويل مع شهرزاد يلح فيه على أن تجيبه عن سؤال حول من تكون. ثم يظهر وهو قد قرر الرحيل، ثم وقد رحل، وعاد لكي يصير مثله مثل جلاده والعبد نزيلا مع الوزير في خان أبي ميسور، ويعود ظهوره اخيراً في القصر نفسه، وقد أسفر عن شخص مختلف تماما، إذ يكشف وجود العبد في مخدع شهرزاد، ولا يمسه بأذى، ولا يمسها هي أيضاً، بل إنه يفجع في موقفه نفسه بموت وزيره قمر. ولا يعلن في المسرحية عن القاتل، ولا سبب القتل، وإنما علينا تخمين ذلك.
..
وهكذا، فإن مقاربة المسرحية يمكن أن تتحقق من خلال تسمية محاور العلاقة داخلها. ولعل ذلك يمكن أن يحدث بمستويين، هما: 1 – مستوى ترتيب الظهور. 2 – مستوى العلاقة بفكرة العمل.
أولاً: مستوى ترتيب الظهور:
الساحر – الجارية، العبد – الجلاد، الساحر – الجلاد، العبد – الجارية، الساحر – الملك، الجلاد – العبد/ الوزير – شهرزاد، شهرزاد – شهريار، / قمر – الساحر، قمر – شهريار، شهريار – شهرزاد، شهرزاد – قمر، شهريار – شهرزاد/ قمر – شهريار/ شهرزاد – العبد/ أبو ميسور – الجلاد، قمر – شهريار – أبو ميسور، الجلاد – قمر – شهريار – أبو ميسور، قمر – شهريار – أبو ميسور – الجلاد/ شهرزاد – العبد – شهريار – قمر.
إن ثماني شخصيات تلج العمل، ليس فيها من إناث سوى الجارية وشهرزاد، ولكنهما تمارسان قوة تأثير مغناطيسية، تمثلان فيها قطبي تأثير. بينما تدور الشخصيات الأخرى في فلك هذا التأثير، فيما عدا شخصية واحدة، تبدو أبعد قليلا، وهي شخصية صاحب الخان أبو ميسور.
وسنلاحظ أنه فيما يبدأ المنظر الأول بذكر وأنثى، هما: الساحر والجارية، فإنه ينتهي بحضور الأنثى الأبرز، مع الذكور: شهريار، العبد، قمر، ولا يعود في الختام من حضورين إلا لشهرزاد والعبد. أي أنثى لتختتم العمل، هي شهرزاد، وذكر معها، هو العبد. هذا البدء والانتهاء يجلب إلى الشعور أن هاجس المؤلف هو الأنثى، وقد قدمها في هيأتين:
1 – جارية: ولم يقل كونها جارية إن كانت مملوكة جارية من تكون.
صغيرة: إذ إنه من تداعيات كونها جارية، كونها فتاة، وهذا في الوقت الذي يقر فيه بأنوثتها، فإنه يجعل منها صغيرة وفي صحبة أب، وهذا ما يمكن أن يستصحبه كون الساحر يدخل معها المنزل، في الوقت الذي لا تخفي هي فيه تأثرها بالعبد.
2 – سيدة: وقد جعل منها اسمها سيدة في قصر، لا تنزل فيه عن موقع ملكة. وتسيدها على قلب شهريار الملك جلب لها هذه المكانة. وقد طرحت المسرحية على الصفحات وضعها مهيمنة على شخصية شهريار، بعد أن قام بحذف مرحلة مفترضة تطوي في خفاياها هيمنة اكتسبتها على شخصيات أخرى، أهمها: الوزير قمر، والجلاد، وربما الساحر. الأمر الذي يفسر بعض الشيء تداعي شخصية شهريار السابقة، المخشي جانبها.
ثانيا: مستوى الحضور الأوسع:
يختزل المنظر الأول حضورا تأسيسيا، للشخصيات الأخرى، ما عدا شهريار، وشهرزاد، والوزير قمر.
وإذ يبدأ بالساحر، فإنه ينتهي بالجلاد. وإذ يكون الحضور التالي لصوت الساحر لجارية، فإن الحضور السبق على صوت الجلاد هو للعبد. أما الجارية، فإنها تتلبس اسما آخر هو (العذراء) الأمر الذي يحدث أثري: التخفيف من ثقل كون الجارية شخصية ذات شأن في تحريك الأحداث، وكون التمويه يربط كلا الاسمين بأنوثة تثيرا انشغالا.
أما المنظر الثاني فإنه يخصص لحضور طويل وممتد لكل من الوزير وشهرزاد، يليه حضور طويل وممتد لشهرزاد وشهريار.
وفي الوقت الذي يظهر فيه قمر مع الساحر في المنظر الثالث على نحو يرمي إلى التخفيف من ثقل قمر، وإذ يخفق ها المسعى، ويظل قمر مع شهريار في ظهور ممتد، فإن حضور قمر يتخلخل تالياً بحضور شهرزاد نفسها، حتى نهاية المنظر، ولا يقصيها إلا تصميم شهريار على ألا يرضخ لرغبتها.
المنظر الرابع المخصص للرحيل، في الوقت الذي يقتصر فيه على شهريار وقمر أثناء الرحيل، فإنه يكون بالغ القصر.
ويلي هذا المنظر منظر خامس، يقصر حضوره على حضور شهرزاد والعبد. يبدأ بصوتها وينتهي به. وهو بدوره منظر بالغ القصر.
يكون السادس مزدحما بشخصيات: أبو ميسور، الجلاد، قمر، شهريار. وإذ يبدأ بصوت أبي ميسور، فإنه ينتهي بصوت شهريار، وفي هذا الختام يكون الحوار قد امتد بين قمر وشهريار، متخلصاً من حضور الجلاد وأبي ميسور.
يخلص المنظر السابع لثلاث شخصيات هي: شهرزاد، العبد، شهريار.
وإذ يقطع حضور شهريار حضور العبد مع شهرزاد، فإن العبد يكون غائباً صوتاً فقط، ولكنه يكون حاضراً جسداً وراء ستار. [هذا ينبغي أن ينعكس في وعي شخصيتين، هما شهرزاد والعبد، والثاني ينبغي أن يكون وعيه بالغ التوتر، ولا يفصح شهريار عما في حقيقة ذهنه، وما آلت إليه التطورات يصنع انطباعا محيرا، فيما إذا كان شهريار نفسه قد أدرك على نحو ما وجود العبد، أم أنه كان غير مبال على كل حل. وينبغي وضع وعي المتلقي في الاعتبار] ويتصل حوار شهرزاد وشهريار. وعندما يظهر صوت العبد، فإنه يشكل حدثاً انفجارياً كان ينبغي أن يكون له أثر دراماتيكي، بأن يقتله الملك. ولكن هذا لا يحدث، ويكون هناك انصراف آمن للعبد بكلمة من شهريار، إلا أن العبد نفسه يعلن انفجار الحدث الدراماتيكي بموت الوزير قمر. وينصرف شهريار حزيناً، بينما يخلص المنظر لشهرزاد والعبد. هذا الانتهاء ينهي حضور شهريار صوتاً، ولكنه يظل موضوعاً للحوار بين العبد وشهرزاد، والعبد يتحرك فجأة عارضاً على شهرزاد أن يعيد شهريار، بينما هي تتكلم لتقول إن شهريار آخر سيعود غضا.
..
يمكن من خلال التلمس السابق لمدى اتساع الحضور، الخلوص إلى أن كلاً من شهريار وشهرزاد قد نالا الثقل الأرجح، سواء موضوعياً في اهتمام النص، أم في المساحة الفعلية للظهور النصي. بحيث يبدو أن غيرهما كان مجرد شخصيات مساعدة لهما على احتلال هذا الثقل. وهذا يمكن استنتاجه من نظرة سريعة على مساحات الحوار، إذ يظهر التبادل الصوتي بين شهريار وشهرزاد، من دون قطع من شخصيات أخرى، ولا وقائع كبيرة. فهناك واقعتان قاطعتان فحسب: رحيل شهريار وانفراده مع قمر. وموت قمر.
إن هناك أربع شخصيات تنسحب ذيول ظلالها من المسرحية، هي: الساحر، الجارية، الجلاد، أبو ميسور.
وتبقى هناك شخصيتان غير شهريار وشهرزاد، هما: قمر، والعبد.
ولهاتين الشخصيتين قاسمان مشتركان، هما التأثير على شهريار من جهة، وشهرزاد من جهة أخرى.
وإذا انتبهنا إلى قمر، فإن الملاحظ هو أن له التقاطع الآتي:
• أن مكانته في قلب شهريار عميقة. ولا ندري إن كانت له المكانة العميقة ذاتها في قلب شهرزاد.
• ولكننا نشك في أنه يغالب ميلاً إليها، وذلك من خلال تهربه من إغرائها، ومن تلميح شهريار إلى ذلك.
بينما للعبد تقاطع آخر:
• أنه يثق في مكانته عند شهرزاد، وأنه بدوره يهواها، وقد أثبت ذلك بصعوده إلى خدرها على سلم.
• أن علاقته بشهريار علاقة تهيب، إذ قد يكون شهريار قاتله، إذا قرر.
ومن المهم ملاحظة أن لكل من قمر والعبد امتدادا: فقمر هو ابن لوزير سابق لشهريار. والعبد سبقه عبد وجده شهريار في حضن زوجته، فقتلهما.
وهذا يفضي إلى أن شهرزاد نفسها امتداد لامرأة سابقة خانت شهريار.
يبقى في الختام شهريار وحده، كان في الماضي، فيما حدثت عنه القصة تكثيفاً وعبر استرجاع ما بين الجلاد والعبد. وهو ما يزال حاضراً حتى ختام المسرحية.
ويستلزم قتل العبد السابق وجود جلاد، لعله هو نفسه، وقد انسحب من مسرح الأحداث مبكرا.
ولعل الساحر أب آخر، لأن هناك أباً سبقه لزوجة شهريار.
وهكذا، فإننا نلفي أنفسنا أولاً:
أمام شخصية ممتدة وحيدة، وملحوظة، باسمها، هي شهريار. وقد انصرفت أمام أعيننا لوحدتها، مبارحة أحب الأشخاص: شهرزاد الخائنة. وقمر المحبب إلى قلب شهريار.
مات قمر جسدأ وانتهى الأمل في أن يعزي انفراد الملك.
ومات حب شهرزاد في قلب شهريار.
وثانياً:
تكون شهرزاد مجرد جسد عابث، توحي بالصحبة، وتزعم الحب. ولا نرى حباً صلداً وإنسانياً مجسماً في وجود آخر، إذ لا تعنى المسرحية بظهور ابن لها، ولا أب، ليكون أي منهما مجال ذكورة ذات قيمة قرابية، تجلي تطهراً لروحها.
وثالثاً:
لن يكون العبد إلا الجسد العابث بجسد الملكة، إذا رغب. فهو لن يكون قادراً على أن يلعب دور الملك. ما دام اسمه العبد. إلا أن هذا الوضع يرسم لوحة معكوسة من أصل المأساة. وذلك أن شهرزاد التي كانت في الأصل هي الجارية، التي يحكم جسدها الملك، يبقي عليها، ويستمتع بها، أو يرفع سيف الجلاد على عنقها، صارت الآن هي شهريار، والعبد طوع يدها، وهو مجرد جسد لمتعتها تستنزفه إلى حين.
رابعاً:
بينما يغيب ظل الساحر مبكراً، وقد يكون ذلك لأن ابنته كانت هي الضحية التي قتلت فداء لعيد شهرزاد، فإن الجلاد بدوره ينسحب معلقاً سيفه في خان أبي ميسور، ليغرق في تدخين القنب. فسيفه لم يعد يجلب له مكانة. وجلاد بلا سيف لن يعود اسمه جلادا. وهذا يقذف به إلى وحدة واغتراب، إلى أن يجد لنفسه هوية أخرى.
تناظر الأماكن في المسرحية
تؤدي الأماكن أدوارا خاصة في المساعدة على تأويل العمل، وذلك لما ترتبط به من تحولات الشخصية، أو ما تحويه من شخصيات. وبالنظر إلى المسرحية نجد أن الأماكن مقسومة إلى:
أماكن مغلقة وأماكن مفتوحة.
وأماكن دنيا وأماكن عليا
أولاً: الأماكن المغلقة والأماكن المفتوحة:
تبدأ الأماكن المغلقة، مفتتحة المسرحية، بمنزل منفرد على بابه مصباح مضيء. المنزل في طريق مقفر. والخصائص الأولى للمنزل هي أنه: منفرد. وعلى بابه مصباح. والمصباح مضيء.
يضاف إلى هذا عنصر زمن، وهو الليل، والليل يوصف من خلال استعارة بأنه له جوف، وأنه بهيم.
هكذا، فإننا نحصل على صيغة فضاء: زمكان. فالبيت منفرد ومضيء. والليل بهيم، وبه صوت موسيقى. وهكذا، فالمصباح بضوئه قد يعادل الموسيقى. بينما يصير المنزل مغرياً بمعادلته بالليل. بينما يظل الطريق، وهو مفتوح، مقفرا، ولكن هذا الإقفار مشغول بمرور الساحر والجارية. ولذا، فإن الساحر والجارية يغريان بمعادلتهما بكل من الضوء والموسيقى، في الوقت الذي هما فيه، بدلالة إنسانيتهما، ضائعين في خلاء الحياة، إلى أن يحاولا الاحتماء بمنزلهما.
الساحر يقود الجارية إلى المنزل، يحاول أن يحذرها من العبد. ولأننا استعرنا لكل من الساحر والجارية خاصيتي الضوء والموسيقى، وبينما تنفي الجارية عن العبد صفتي الهرم والقبح، فإن ما يقوله الساحر قد يكون معادلاً لما يمكن أن يفعله ضوء المصباح، بينما ما تقوله الجارية يكون معادلاً للموسيقى، والموسيقى مجرد معبر عن الرغبة.
..
بعد أن تغيب الجارية في المنزل، يظهر العبد والجلاد، أي في الطريق المقفر. [مفسرين بصفتيهما وحشة الطريق] والعبد يتبع بعينيه الجارية، كما لو كان يتبع الضوء، ويتحدث برغبته، ويرد عليه الجلاد. وبينما يظل الحوار في الطريق القفر، نحس أن صوت الرغبة، وكشف حال الجلاد الذي باع سيفه بقنب، يشابه صوت الموسيقى التي تمر من الطريق القفر. يقابل هذه الموسيقى غناء غرد يسمعه العبد والجلاد قادما من المنزل. تليها آهة.
في الطريق ذاته، يرى العبد على بعد ” ضوءًا متفجراً ” في شرفة بعيدة، يخبره الجلاد أن تلك شرفة الملك، وهو جالس في ركنها الأيسر.
على هذا النحو نحصل على مكانين: المنزل وغرفة الملك. وبينما يضيء مصباح أعلى المنزل، ويصل غناء الجارية. فإن الضوء يتفجر من شرفة الملك. وإذا جعلنا كلاً من ضوء المصباح وغناء الجارية مناظرين لضوء غرفة الملك، فإننا قد نحق بوضع الجارية – ساكنة المنزل، معادلاً للملك، ساكن الغرفة، بجامع الوحدة. وعندما يخرج الساحر ويعنف الجلاد، ويخلو المكان، ويدور حوار بين العبد والجارية، التي تخبره أنهم قادمون لإطفاء المصباح، فإن العبد يغيب في فجوة.
وهكذا، نحصل على الأماكن: المنزل (مغلق) ولعل له نافذة يأتي منها صوت غناء الجارية. القصر مغلق، وفيه حجرة لها شرفة. والليل بهيم له جوف – وهذا يعادل الإغلاق – وهناك فجوة في الطريق. يلقي كل من المنزل وحجرة الملك والفجوة في علاقة ثلاثية، سنرى مقابلاً لها لاحقا.
ثانياً: القصر، قاعة الملكة. وبها حوض ماء، ترى فيه ظلها. [يذكرنا ظل وجه الملكة الذي يصنعه ماء الحوض، وانعكاس شفافية الماء وصفاؤه بحيث يماثل صفاء عيني شهرزاد، بغناء الجارية، وضوء المصباح، وضوء شرفة الملك] ويدور حوار مطول بين شهرزاد والوزير، يفضي فيه الوزير أنه ذاهب إلى مضجعه. وعندما يأتي شهريار تكون هناك موسيقى خارج القاعة.
ثالثاً: القصر، بهو الملك. وتكون هناك موسيقى خارج المكان. والشمس تغمر الخارج.
وبعد أن تأتي شهرزاد، يخرج شهريار على عجل. [يذكرنا هذا الخروج، وهو إلى الخارج حيث الشمس، باختفاء العبد في فجوة في الظلام.]
رابعاً: القصر، بهو الملك. ويكون الوقت ليلا داجيا ساجيا. وهناك نافذة يتسلقها العبد ليدخل إلى الملكة. [تذكرنا النافذة الآن في الليل، بفجوة الطريق المظلم، وهذا يستحضر وجود الجارية في المنزل، لتناظر شهرزاد في بهو الملك]
خامسا: خان أبي ميسور، وبينما يحاول أبو ميسور وصف تفاصيل مكانه بأوصاف موهمة، مثل أن يكون البساط بحرا، وذلك ملائم لخيالات متعاطي القنب، فإن الجلاد الذي كان هناك يفر. [على هذا النحو، يذكر الخان بفجوة الطريق، والنافذة، ويذكر الجلاد بالعبد].
سادساً: القصر، خدر شهرزاد. وبينما يكون العبد في صحبة شهرزاد، ويأتي شهريار، يختفي العبد وراء ستارة سوداء. [تتكامل أماكن: فجوة الطريق، نافذة بهو الملك في الظلام، خان أبي ميسور حيث قاعة يتخفى فيها الجلاد، الستارة السوداء في خدر الملكة، وظل وجه الملكة في ماء الحوض].
الأماكن المفتوحة:
بينما تبدأ الأماكن المفتوحة بطريق مقفر، والوقت ليل. تكون قاعة الملكة مكانا مفتوحا بالنسبة لحالين: حوض الماء، وظل الملكة يسكنه، وزمن خفي يختفي فيه الملك، إذ ينام غائبا عن عالم اليقظة. وهكذا، يصير عالم يقظة الملك عالما مفتوحا، وبانتقال إلى خان أبي ميسور، ناقلين نوم الملك الذي يشابه فيه الملك الطفل، يكون عالم الوهم بفعل القنب، مشابها لنوم الملك، ويصير الوعي اليقظ خارجاً مفتوحا.
هذا الخارج المفتوح يضيف إليه بيداء يرحل فيها شهريار وقمر. وفي البيداء تغوص الشمس بعيداً في الرمال. صيغة الوصف تجعل الرمال مذكرة بفجوة الطريق والستارة والنافذة، حوض الماء، وتصير الشمس معادلة للعبد، ولظل شهرزاد. وهكذا، فإن الرحيل والعالم المفتوح، وهو يرتبط بالزمن: ليل بهيم، وشمس صباح، يعزز التعامل مع المكان كونه فضاء، باتحاد المكان بدلالة، ويغري هذا بأن يطلق على المكان المغلق، مكان الحقيقة. والمكان المفتوح مكان الوهم والمجهول المتصل.
لذا، فإن منزل الجارية، وفجوة الطريق، والنافذة، والستارة السوداء، والرمال البعيدة، هي أماكن حقيقة. وبذا يتساوى الخروج غلى البيداء، بكشف ما وراء الستارة، أو الوصول إلى شخص الجارية الحزينة.
إن الشمس تظهر وتختفي، وظل شهرزاد يلوح في حوض الماء ويختفي، والعبد يختفي في الفجوة، ووراء الستارة، ويظهر. وهذا يكون حالة تموج الوهم، التي يشبهها تموج الفكر في خان أبي ميسور. فلا شيء هنا يمكن احتواؤه. وشهرزاد نفسها تهرب من كونها ملكة عالية مثل علو الشمس، إلى كونها جارية حزينة، هاربة في أسلافها الجواري، وظلاً عابراً في حوض ماء. ولا حقيقة إلا التي يرحل إليها شهريار – معادل كل من العبد وقمر والجلاد.. ليلاحقها وربما وجدها في وعيه، خارج كل الفضاءات الموهمة. أو لا يجدها.
شهرزاد أم، أم زوجة
وشهريار أوديب أم ملك
حكاية شهريار وشهرزاد، بوصفها الإطار الخارجي لحكايات ألف ليلة وليلة، يمكن أن تكون ذات حضور خارجي، بوصفها الإطار (الميتا قصي) الذي ما ظهر إلا ليسمح برواية مئات من حكايات تتوالد، ويظهر من خلالها رواة آخرون ليحكوا قصصا.
إلا أن انتزاع هذا الإطار للتأمل فيه يمكنه أن يعطي فسحة تفحص أعمق. ويمكن لمن يريد، أن يقترب من الإطار الخارجي، كما هو في الشكل الموروث، ويقاربه برؤية خاصة. وفي سياق هذه الأطروحة نحن أمام عمل خاص من أديب عربي في اللغة العربية، وقد قام بوضع صيغة مبتكرة منه لحكاية شهرزاد وشهريار نفسها.
ولم يترك الحكيم عمله عرضة لافتراض أن شهرزاد وشهريار مجرد اسمين مستعارين، وإنما ترك قرائن أنه يعني شهرزاد الأصلية، وذلك على النحو الآتي:
• في المنظر الثاني، وبينما يجري الحوار بين قمر وشهرزاد، وقمر الوزير يقول لشهرزاد أنها خلقت شهريار من جديد، فإنه يقابل ردها الهازئ: ” في سبعة أيام؟ ” بقوله: ” في ألف ليلة وليلة “. ثم يضيف: ” أليست قصص شهرزاد قد فعلت بهذا الهمجي ما فعلته كتب الأنبياء بالبشرية الأولى! ” . هذه الإضافة تتضمن رداً على تعبير شهرزاد المستقى من العهد القديم (التوراة) ومن القرآن الكريم. وحين يرد فإنه يجعل من حال شهريار حال شبيها بالخلق الأول، هو الآن لتركيب الشخصية، وقد يكون الحكيم، من خلال إيماء قمر، يريد أن يرمي إلى أن شهريار هو نموذج الرجل – الإنسان، لا شهريار الملك.
• في المنظر الثالث، وبينما يجيب شهريار شهرزاد عن وجهته، يقول لها: ” إلى بلاد واق الواق ” وهي بلاد خرافية ورد في حكايات شهرزاد، ووشهريار يؤكد لشهرزاد أنها الراوية المقصودة بذاتها، إذ يضيف: ” أتحسبين أن لا وجود لهذه البلاد إلا في مخيلتك أنتِ؛ أيتها المبدعة الجميلة”.
• عندما تسأل شهرزاد شهريار، خلال المنظر نفسه عن موعد عودته، يجيبها سائلا: ” من السفرة الأولى؟ ” ثم يعقب راداً: ” أنسيت السندباد يا شهرزاد؟ ألم يكن لسندبادك سبع سفرات متلاحقات؟ “.
• وفي مكان آخر من المنظر نفسه تقول شهرزاد: ” لو كنت أعلم أن ستنطلق يوما كالفكر الشارد لما قصصت عليك تلك القصص”.
وهكذا، فإننا من خلال المناظر الثلاثة الأولى نحصل على: تقديم لمشكلة المسرحية، وربط للشخصيتين الرئيستين فيها بالشخصيتين الأصل، في الحكايات القديمة.
وهذا التأكيد على أصل الحكاية ضمن المسرحية يؤدي إلى:
• ربط لحاضر المسرحية، بما لم يحكَ من ماضي الشخصيات.
• تأسيس للمسرحية على أرض متماسكة، فهي مستقاة من معطى تراثي تبنى نماذج إنسانية. وهذا بهدف تكوينه من زاوية خاصة، لاحتواء تكرار الشخصيات، التي لا تتلبس الأسماء نفسها في أحيان أخرى، وإنما هي تتحقق، خلال التماثل، من أنها وجودٌ جرى من قبل.
• بذا، يصير الكاتب من وراء مسرحيته باثاً لرسالة أن ما نراه هو ظاهرة وجود بشري، مؤسس على علاقة بين رجل وامرأة.
ولكي ينفذ الحكيم خارج إطار ألف ليلة وليلة، محملاً نموذجه المستقى منه بأبعاد عميقة، فإنه أضاف إلى المسرحية ما يمكن عده تناصاً مع قصة أخرى. وهي قصة (أوديب).
وقد وردت قرائن نصية تشجع على تفحص آخر للمسرحية، لتذكيرها بأصل خارجي على النحو الآتي:
• حوار بين العبد وصوت الجارية، وهو مذكور على أنه (صوت)، الأمر الذي يشعر أن الكاتب لم يرد أن يعلق الانتباه بوجود شخصية بعينها تحاور، وإنما يكتفي بعهد القارئ أن هناك أنثى فحسب، وهي تجيب العبد عن أسئلته، فكأنها مصدر حقيقة هادية. وهي تقول إذ يسألها عن (ضوء الشمس)، وما إذا كان قد آن له أن يراها: ” إن كنت تريد الحياة فاهرب في الظلام … “. والظلام يستلزم عدم القدرة على الرؤية بالعينين، وهو قاسم مشترك مع حياة أوديب اللاحقة على معرفته الصادمة له. فقد صار أعمى، يرحل في ظلام مستمر.
• واستمراراً للحوار نفسه، وحين يسألها العبد: ” لماذا أيتها العذراء ” تجيبه: ” ما زال الرجل طفلا … “. وهذا قد يعني مباشرة أنها تذكره بسذاجته، بينما هي تذكره بأنه، وهو الكبير، طفل. وارتباطاً بفكرة العمى، فإن أوديب مذكر دائما، وهو كبير، بأوديب الطفل، ضحية معرفة قاصرة جدا. لا يرى سراً وراء التفاصيل، والظاهر عنده هو الظاهر، ولكن هذا ينطوي على تعلق العبد بالجارية والحوار معها، تعلق الطفل بأمه، وهو يخاطبها لا بوصفها امرأة فحسب، وإنما بوصفها (عذراء).
• حمل الوزير، وهو شاب، اسم (قمر). ولأن القمر يستلزم وجود الليل، أي الظلام، وقد رحل قمر مع الملك، فإن قمر يذكر بدور (أنتغونا) المصاحبة لأبيها أوديب، في باقي حياته، هي التي تقوده. مثلما قد يكون قمر، وقد اكتملت رحلة شهريار مع شهرزاد، الصاحب الدال، وهو ما فعله خاصة في الخان، فهو يجيب عن أسئلة شهريار.
• متحدثة عن عيني شهريار، تقول شهرزاد: ” فيهما أرى الخيبة والاندحار ” وهذا يعني أنها ترى شهريار وهو ما زال غائبا عن الحقيقة، إن أم أوديب ليست كذلك تماما، ولكن أوديب المعذب يواجه شهرزاد الشابة … وعندما يواجهها شهريار بأسئلته، فإنها لا تجيبه، وهي تقرر أنه يريد أن يعرف من تكون بقولها: ” تريد ان تعرف من أنا؟ “. وفي مكان آخر من الحوار يقول شهريار: ” أنا الآن إنسان شقي “. وعندما يقول شهريار: ” ما عدت أحفل بك ولا بشيء” تقول له: ” تشيح بوجهك أيها الأعمى! لو كنت تبصر قليلا “. ثم تقول بعد مسافة أخرى: ” وهل تحسبك لو زال هذا الحجاب تطيق عشرتي لحظة؟ “.
• اتصالاً للحوار نفسه يقول شهريار: ” دعيني أتوسد حجرك. كأني طفلك أو زوجك “.
وتتآزر عناصر: طفولة الرجل، الظلام معادلاً للعمى واستحضار العينين في ذلك، وطلب الإجابة عن هوية شهرزاد، وهي الزوجة، وتحسس الأم داخل الزوجة، للتذكير بمأساة أوديب. وهذا يشجع على النظر إلى النص على أنه حيلة حلم يجري فيه توظيف (الإحلال والإبدال) للتمكين من إقامته، حلماً، من دون الإفصاح عن مدلولاته. ومهمة التحليل هي كشف المواقع لتسميتها بأسمائها المفترض أنها حقيقية.
التحليل المفترض:
أساس التحليل، هو عدم الانخداع بأقنعة الحلم، وعدها مجرد تمويه لحقائق أو شخصيات، ولذا، فإن تعدد الأسماء لا يدعو إلى التسليم باختلافها، وإنما يدفع إلى افتراض أنها تحايلُ لتسمية شخصية واحدة باسم واسم غيره. وحيث إن القاعدة المفترضة هي أن مأساة أوديب التي تبنتها مدرسة التحليل النفسي التي انشأها سيغموند فرويد، وجلب ما يسمى (الأوديبية) أو (عقدة أوديب) مفتاحاً لتحليل المسرحية، فإن البحث يكون عن: أم، وابن، وأب، وابنة. ومتعلقات تعزز الاستدلال عليهم.
وإذ نشرع في قراءة المسرحية، فإننا نقابل ساحراً وجارية. والساحر يقود الجارية إلى منزل. وهذا يوحي بأن الساحر قد يكون أباها.
واعتماداً على التفكير الديني الإغريقي، فإن تسمية (الساحر) المستعملة من الكاتب، قد تكون عدولاً عن (الكاهن)، وربما منع المحيط الإسلامي لخلفيات الحكاية الكاتب من استحضار الكاهن اسما، بينما ظلت تسمية (الساحر) ممكنة. لقد كان الكاهن هو من باح لأوديب بحقيقته، ولكن المعروف أن من يقبع في موحى دلفي هو كاهنة، وهي التي كانت تتحدث باسم معرفة الآلهة. وفي حوار الجارية مع الساحر تصحح الجارية للساحر ما يتفوه به بشأن العبد، ربما لأنها اشتهته، أو لأنها أبصرت من حقيقته ما لم يبصره.
إن الساحر – الأب، هو من يسعى إلى الحيلولة بين الجارية والعبد. ولكن الجارية قد تشتهي العبد، ويمكن افتراض أن مثلث: الساحر، الجارية، العبد، يلعب الآن دوراً رمزياً لاستحضار أزمة العلاقة البشرية.
وحيث يفكر الساحر في بث نفور من العبد في نفس الجارية، فإن العبد يحتل مركز أب رمزي، يخشاه الساحر، ويغار على الجارية منه. وهكذا، يودع الساحر أمه – الجارية في المنزل، ليواري حقيقتها المغرية. وعند هذا الحد يتوقف الحلم عن تمثيل دوره، ويعرض الحقيقة من جانب آخر:
تظهر الجارية مجرد صوت، في حين يسمعه العبد في الطريق القفر المظلم. والصوت يشبه حقيقة خارجية يريد العبد أن يعرفها، أو يرى منها، إذ هو في الظلام معادل لرجل عمي عن الرؤية. ويكون الظلام رحم الأم، أو العلاقة الغامضة التي قد تخفي ما لم يطلع عليه بعد، والجارية التي هي مجرد صوت أنثوي متوارية صاحبته، مجرد تمثيل رمزي لما ينتظره.
لو ظهر الملك في اللحظة نفسها فسيقتل العبد، وربما سيقتل الجارية. ويلوح العبد رمزا لأب يخون الملك مع أمه – زوجته الجارية. وربما، والعبد لم يقرب الجارية بعد، سيبقى على الجارية وحدها.
تالياً: الحوار بين الساحر والجارية، يظهر الجلاد محاوراً للعبد.
إن العبد مجرد اسم آخر لما يمكن أن يكون أباً سابقاً، أقصي، عن أبوته. والعبد يسأله عن سيفه، فيقول إنه شرى بثمنه أحلاما. وقد يصح، انسياقا مع استحضار أسطورة أوديب افتراض أن السيف رمز لعضو ذكورة عطل عن الفعالية. ويصير الجلاد بذلك أباً خصيا، حل محله شهريار الابن. وقد قتله رمزياً لأنه تزوج من شهرزاد. فصار أبا منفياً يعيش حياته مغترباً في خان أبي ميسور.
وبذا، يصير الجلاد مجسماً رمزياً مستديماً لكل من الأب والابن، يعيش عالم انعدام الفعالية، يحاول توهم حقيقة بديلة من خلال القنب.
الجلاد – الأب السابق، والذكر الذي كان يقتل بسيفه الجواري، أو هو كان يستعمل عضو ذكورته، يصير في صحبة العبد، المجسم الرمزي للابن اللاحق، دالاً على حال الابن الحالي الحائر، جالساً في شرفته. كل من العبد والجلاد والملك في هذه الحال ظلال لتكرار ولادة ونمو الرجل نفسه، الجلاد قتيل وابن ضائع، والملك ابن حائر قتل أباه العبد، والخيانة وأزمة النفس، والأم – الزوجة قاسم مشترك لعذابهم. إلا أن العبد المعروض لم يصل إلى مرحلة العذاب بعد. إنه مجرد صيغة وصم لشهرزاد بالخيانة، وهو مجرد صيغة وجود قبيحة مكبرة للعضو الذكري، الذي انتهك حرمة الأم.
يختفي العبد في فجوة، ويظهر الملك مع الساحر. واختفاء العبد في فجوة مجرد مداراة لتواريه عن نظر الملك والساحر معا. العذراء – الابنة وحدها تعلم بوجوده، ولكنه مغيب عن إدراك الملك أساساً، الذي لو ظفر به لقتله. أي إن العبد هو في الواقع في فجوة رامزة للاوعي الابن الداخل الآن إلى مخدع زوجة لا يطيق ظن أنها أمه، تخونه مع أبيه العبد – أو الأب الذي هو عضو ذكورة ممزق لانفراده بالمرأة – أمه وحبيبته.
هذا التبادل ممكن بواسطة حلم حقيقي، هدفه التعبير عن مؤرق غامض للاوعي حالم ذكر. وافتراض أن العمل الفني حلم نصي، قصد مؤلفه تفعيله على هذا النحو أم لم يقصد، يمكن تصوره صحيحاً بواسطة وجود الدليل المسبق، الكامن في أسطورة أوديب.
الشخصية – المسخ
تعج المسرحية بصوت الإنسان، ورمزية روحه العالية، منذ البداية، من خلال: أصوات الموسيقى، والمصباح المضيء، والغناء، والأنين، وحوض الماء الصافي في بهو شهرزاد، وتسمية الوزير بقمر، ومنظر الشمس البعيدة، وقدرة العبد على تسلق سلم إلى خدر الملكة، والقدرة على الرحيل.
هذا الوضع يفعم شخصيات المسرحية بالقدرة على الإفلات، ولو جزئياً من اليأس الكامل.
لكن هناك بؤرة يأس تختلسهم نحوها، لينفث فيها شعور الضياع، والخروج عن الفعالية، وهي (خان أبي ميسور).
في خان أبي ميسور لا يكون أبو ميسور مجرد صاحب خان، وإنما الشخصية التي تهيمن في الجزء غير الظاهر، كما لو كان الخان قصراً حقيقياً للمملكة. ملك مصير هذا القصر هو أبو ميسور، الواعي الوحيد، والمتحكم في وهم من يقع في قبضة النزول عنده، مقصى من حياته. إنه تاجر القنب، ومعزز إحساس من يلجأ إليه بأنه مسخ لا إنسان.
وقد ظهر لشهريار وقمر سيف الجلاد معلقا في الخان، أيقونة لارتباط حال شخصية مرعبة وكبيرة في اعين الرعية، مثل الجلاد، بانتفاء الفعالية، بحيث صار وعي الشخصية بحالها تصورا بأنها مجرد مسخ لحشرة.
هذا ما يحاول أبو ميسور إيصاله إلى كل من قمر وشهريار. وأبو ميسور تنزلق من فمه عبارة وهو يرد على شهريار، الذي يشير إلى أن هناك رجلاً على فراشهما، أي شهريار وقمر، بقوله: ” كيف يصل إلى فراشنا رجل؟! وفراشنا أنظف فراش! “
في الوقت الذي يصوغ أبو ميسور رده، ليدغدغ لا وعي شهريار، كأنما هو يدرك حقيقة أزمات من يحل عنده ابتغاء الاستراحة، أو النسيان، فإن شهريار يرد بما يصلح أن يكون رمزية مؤرقة مثبتة لحس ابي ميسور بقوله: ” لعله جاء مع الريح من هذه النافذة “. [هذا التصور يرسخ تحققه بولوج العبد إلى بهو الملك من النافذة، ويرسخ كون العمل كله ينسج حال اللاوعي لدى شخصية شهريار].
إن أبا ميسور يخلع نعله زاعماً لشهريار أنه يريد أن يقتل هذا الذي دخل من النافذة، وربما عنى أنه مجرد صرصار، وشهريار يصحح بأن التصرف الصحيح هو أن يلتقطه بأصبعين ويلقي به خارجا. وبذا، تجري تمثيلية تأكيد هذا التصور: من الخارج يتعامل شهريار وصاحب الخان مع الزائر الغريب، من منطلق العادة، بجواز أن يكون صرصارا. إذ لا يحق لغير رجل في مكانة شهريار، يقابله رجل ىخر في مكانة أبي ميسور، أن يكونا إنسانين، في مواجهة غريب طارئ، حدث أنه الجلاد، وقد يكون رجلاً آخر …
الجلاد من جهته يجاريهما، مؤكداً على تفسير ظهور رجله، بقوله لأبي ميسور: ” لا تلمسها وصاحبها غائب “. الجلاد يراهن على أن الملك غائب عن الوعي ربما بسبب القنب، ويحاول إدخاله حالة لا معقول، فهو مجرد كائن ما، قد يعامل على أنه حشرة زاحفة، وقد يكون مجرد رجل تمشي لا وجوداً لإنسان.
يحاول الجلاد، في الوقت الذي لم يحتج فيه بكونه إنساناً، أن ينقذ نفسه بأخذ شهريار إلى عالم الاقتناع باللا معقول، ويهرب إلى القاعة الأخرى، مؤكداً على أن عليه أن يهرب، فعلاً مثلما يفعل صرصار حقيقي، من مواجهة خطر.
الجلاد على هذا النحو في تصوير خاص مجسم للخروج من الفعالية، والانحدار إلى التفاهة، يقاسمه الإحساس بهذه الكينونة بطل مسرحية (المسخ) لكافكا، يختلف عنه في أنه يستطيع أن يتحرك سريعاً، معتمداً على مرور شهريار بمدخل هذا النفق، إذ قد يؤول حاله إلى حال نظير، فهو يجري إقناعه بتصويرات من عالم يحققه المخدر، أداة الهروب وتزييف الحقيقة الصلدة، بأن يدعوه أبو ميسور أن يمشي على شاطئ وهمي، هو البساط، ثم، يدعوه لاحقاً إلى أن يعتلي مع قمر طير الرخ، الذي نعرف، ونحن نقرأ أو نشاهد المسرحية، أنه غير موجود.