يتحدث اريك فروم في الفصل الخامس من كتابه (الخوف من الحرية) الذي ترجمه مجاهد عبدالمنعم مجاهد، عن ثلاثة أساليب للهروب من مواجهة تبعات الحرية وما ترتبه من مسؤوليات، هي – النزعة التسلطية – التدميرية – تطابق الانسان الآلي. وفق المنهج التحليلي الذي تميزت به كتاباته.
يعلن فروم في مستهل الفصل، اعتماد البحث مهج علم النفس الفردي والتحليل النفسي، حيث أن علم نفس يستخدم مفهوم القوى اللاشعورية لهو وحده القادر على أن ينفذ إلى التبريرات العقلية المشوشة التي نواجهها في تحليل الفرد والحضارة على السواء، ويمثل على ذلك بالمقارنة بين الانسان السوي والانسان العصابي من وجهتي النظر الفردية والجماعية، حيث يتم التركيز من الوجهة الأولى على نمو وسعادة الفرد، أما من الوجهة الثانية فيتم التركيز على مدى قدرة الفرد على تحقيق الدور المرسوم له، إن تقطع الروابط الأولية التي تعطي للإنسان الأمان، يضعه في مواجهة العالم خارجه كذاتية منفصلة، ويصير عليه ليتغلب على الحالة التي لا تطاق، حالة العجز والوحدة أن يتقدم إلى (الحرية الإيجابية) وأن يتعلق بالعالم على نحو تلقائي في الحب والعمل، وفي التعبير الأصيل عن القدرات العاطفية والحسية والعقلية، ليتمكن من استعادة توحده مع نفسه ومع الطبيعة ومع الآخرين دون التنازل عن استقلال وتكامل ذاته الفردية، أو أن يتقهقر ويكف عن الحرية، مركزاً على محاولة قهر وحدته عبر استئصال الهوة الناشئة بين نفسه والعالم، وذلك هروب لا يعيد له ما فقده من توحد مع العالم، وهو موقف ارغامي شأن كل هروب من الخطر، ويتميز إلى ذلك بالتنازل التام عن الفردية وتكامل النفس، ثم يناقش فروم أساليب الهروب التي يتمظهر عبرها ذلك الموقف الإرغامي.
1- النزعة التسلطية.
وتتجسد في الميل إلى التخلي عن استقلال النفس الفردية، ودمج النفس في شخص آخر للحصول على القوة والتغلب على مشاعر العجز، ونجد أكثر أشكاله المميزة في الخضوع والهيمنة، وبلغة التحليل النفسي في الرغبات المازوكية-السادية، ومساعر الدونية والعجز واللا جدوى الفردية، ويبين تحليل الأشخاص المحاصرين بهذه المشاعر إنهم، في حين يريدون التخلص منها فإن قوة ما في داخلهم تدفعهم لا شعورياً إلى الشعور بالدونية واللا جدوى، وهم يُظهرون ميلاً إلى التقليل من أنفسهم وإبداء الضعف والعجز عن السيطرة على الاشياء، كما يُظهرون تبعية ملحوظة للقوى خارج أنفسهم (لشخص أو لمؤسسة أو للطبيعة..) كما أنهم لا يميلون إلى تأكيد ذواتهم وفعل ما يريدون، بل هم ينحون إلى الخضوع إلى القوى الخارجية، ويعجزون عن معايشة شعور (أنا أريد) أو (أنا أكون)، ويلحظ في أشدّ الحالات إلى جانب التقليل من شأن النفس والخضوع لما هو خارجها، ميلاً إلى إيذاء النفس وجعلها تعاني، ويتخذ هذا الميل عدة أشكال، فنحن نجد اشخاصاً ينخرطون في توجيه الاتهام إلى الذات ونقدها مما لا يستطيع حتى أعداؤهم أن يوجهه، وهناك آخرون – مثل العصابيين الاضطراريين – يميلون إلى تعذيب أنفسهم بالطقوس والافكار القهرية، ونجد في نمط معين من الشخصية العصابية ميلاً إلى المرض جسمانياً وهو ينتظر – شعورياً أو لا شعورياً – المرض وكأنه هدية من السماء، وفي الغالب يتعرضون لحوادث ما كان يمكن أن تقع لو لم يكونوا يكونون ميلاً لا شعوريا للتعرض لها.
ويضيف فروم (غالباً ما تُستَشعَر الميول المازوكية على أنها مرضية أو لا عقلانية بشكل واضح، والأكثر تكراراً أن هذه الميول تُفَسَرَ عقلانياً بمبررات، ويجري تصور التبعية المازوكية على أنها الحب أو الاخلاص، والمشاعر الدونية على أنها تعبير دقيق عن القصور الفعلي ومعاناة الانسان على أنها ترجع تماماً إلى ظروف لا تتغير …) وإلى جانب الميول المازوكية نجد أن الميول التي هي عكسها تماماً توجد عادة في نفس الاشخاص، وتتباين هذه الميول من حيث القوة، وهي مدركة على نحو أو آخر، وليست مفتقدة تماماً.
2- التدميرية.
رغم امتزاج التدميرية بالنزوعات المازوكية- السادية، فإنه يجب التميبز بين النوعين، إذ في الوقت الذي تهدف فيه النزوعات المازوكية-السادية إلى تحقيق تكامل إيجابي أو سلبي، تهدف التدميرية إلى استئصال موضوعها، كما إنها كامنة في عدم القدرة على تحمل العزلة والعجز الفرديين ” إنني أستطيع أن أهرب من الشعور بعجزي إزاء العالم الذي هو خارجي بتدميره… وإذا نجحت في إزالته فإنني أظل وحيداً معزولاً، لكنها عزلة محببة لا تسحقني فيها الأشياء المهيمنة الموجودة في الخارج، تدمير العالم هو آخر المحاولات وأشدها يأساً لإنقاذ نفسي من كوني مسحوقاً منه “.
ويمكن لأي ملاحظ للعلاقات الشخصية في الواقع الاجتماعي ألّا يخفي تأثره بقدر التدميرية الموجودة في كل مكان، و هي لا تُدرك شعورياً بقدر ما تبرز بعدة طرق، ولا يوجد شئ لا يُستخدم في التبرير العقلي للتدميرية، فالحب والواجب والوطنية تُستخدم كأقنعة لتدمير الآخرين أو تدمير الذات.
يميز فروم بين نوعين من التدميرية 1/ تلك الناشئة عن موقف ما كرد فعل على هجمات موَقَّعةٍ على حياة الفرد وتكامله أو على الأفكار التي يعتنقها، وهذه ملازم طبيعي وضروري لتأكيد الإنسان والحياة 2 / ثم تلك التدميرية المجسدة في السعي الحثيث والدائم داخل الشخص، ولتي تنتظر فرصة للتنفيس، وإذا لم يتوفر التبرير الموضوعي للتعبير عن التدميرية فإننا نسمي الشخص مريضاً ذهنياً أو عاطفياً (بالرغم من أنه يقيم عادة نوعاً من التبرير العقلي)، وفي معظم الحالات نجد أن الدوافع التدميرية يجري تبريرها بطريقة تجعل عدداً من الناس، إو الجماعة الاجتماعية كلها تشترك في التبرير العقلي، وتجعله من ثَمَّ يبدو (حقيقياً) لعضو من هذه الجماعة، كما انه ليس لموضوعات التدميرية اللاعقلانية ولدواعي اختيارها إلا إهمية ثانوية، فالدوافع التدميرية هي (هوىً) في داخل الشخص وهي تنجح دائماً في أن تجد موضوعاً، فإذا امتنع أن يكون الآخرون موضوعاً لتدميرية الشخص، فإن ذاته تصبح هي الموضوع.
3- تطابق الإنسان الآلي.
هو بإيجاز، أن يكف الانسان عن أن يكون نفسه، بل يعتنق نوع الشخصية المقدَم إليه من جانب النماذج الحضارية، وبهذا يصبح تماماً ” شأن الآخرين ” وكما يتوقعون منه أن يكون.
هنا تختفي الهوة بين الذات والعالم ويختفي معها الخوف الشعوري بالوحدة والعجز، ويمكن مقارنة هذا الأسلوب بالطريقة التي تلون بها بعض الحيوانات أجسامها طلباً للحماية، حيث تبدو مماثلة تماماً لمحيطها حتى أنه يصعب تمييزها، والشخص الذي يتنازل عن نفسه الفردية ويصبح آلة، متطابقاً مع ملايين الآخرين من الآلات المحيطة به لا يحتاج إلى أن يشعر بأنه قلِق ووحيد بعد هذا، وعلى أية حال، فإن الثمن الذي يدفعه ” كما يؤكد اريك فروم ” ثمن غالٍ، إنه يفقد نفسه.