المقالة

بين المدنية والتدين 2\3

تتعدد أنواع الإستعباد ,منها ما هو مفروض على الإنسان من خارجه بفعل قوة قاهرة تمكنت من إخضاعه, ومنها ما هو دو مصدر ذاتي نابع من داخل الإنسان.

الإنسان الذي تم إستعباده بفعل قوة قاهرة يظل إنساناً حالماً بالحرية ,وتظل العبوديه بالنسبة له وضع مهين يتحين الفرصة للخلاص منه , وما أن تحين تلك الفرصة, ويمتلك القوة الكافيه لإسقاط تلك القوة القاهرة فإنه يستعيد حريته.

أما الإنسان المُستعبد بإرادته فإن حياة العبوديه تصير وضع طبيعي يرتضيه ,ويقبل العيش وفق قوانينه , بل قد يستحسن وضعه ذاك, ويقاتل لأجل البقاء في عبوديته.

عندما كان لينكولن بُقاتل أبناء جلدته لتخلص العبيد من عبوديتهم ,كانت جُموع من أولائك العبيد تقف في الصفوف الأماميه لمواجهته للدفاع عن السيد الذي يمتلك أعناقها, وللحفاظ على عبوديتها.

وهذا هو أسوأ ما يمكن أن يصل إليه الإنسان.

أن يفقد الإنسان كل مُقومات وجوده الذاتي ولايعود يرى لنفسه وجود إلا بوجود سيده,يصير ذاك الإنسان ظل لذاك السيد , ولذا يدافع عنه لأنه يظن بأن زوال سيده يعني زواله الشخصي.

تقادم عهود الإستعباد التي تعرض لها إنسان هذه المنطقة, وميراث السبي والإسترقاق والإخصاء, وأصوات النخاسين, وروائح أسواق النخاسة في مكة والمدينة, ودمشق وبغداد جعلت من إنسان هذه المنطقة إنسان مُسترق الروح لذلك السيد القرشي الذي أحتل وطنه ,وسرق لسانه, ودمر حضارته, وأجبره على الإيمان بـذلك الإله الذي يزعم السيد القرشي أنه فعل كل بشاعاته وجرائمه تنفيداً لأوامره.

صار هذا الإنسان يؤمن بذاك الإله الذي أمر بإستعباده, وإستباحة وطنه, وهتك حرماته ,وتحويل أبناءه إلى غلمان في قصور السيد القرشي, ونسائه إلى جواري وإماء وملك يمين لذلك المُحتل.

تحول القهر, والظلم ,وإستباحة كرامة الإنسان, إلى شريعة إلهية, وآمن ذاك الإنسان المُستباح رغم أنفه بتلك الشريعة, وأرتضاها لنفسه ومع الزمن صار يتشكل وعيه بنفسه وبالعالم من حوله وفقاً لتلك الشريعة, مماجعله يرسف في قيود عبوديته ,راضي النفس, لأن عبوديته صارت هي الإيمان ذاته.

ـ التأسيس للجاهلية الإسلاميه

الإيمان لايتم فرضه بالإرهاب, والدين إذا ما كان حقاً ذا مصدر سماوي فإن رسالته الأساسيه تكمن في الدعوى لتحرير العقل , والدعوة لتحرير العقل لايمكن أن تكون لغاية تخليصه من الأفكار السائدة في عصره والمتوارثه عن أسلافه, لغاية إخضاعه لأفكار أخرى جديدة ,بداعي أنها ذات مصدر سماوي.

أطلق محمد على الفترة السابقة لبعتثه مسمى الجاهلية ,وسبب التسميه ليس جهل أهلها بالكتابة والقراءة, فمحمد ذاته لم يكن يجيد القراءة ولا الكتابة, ولكن سبب تسميتها بالجاهليه يعود لرفض أهلها لحاكمية العقل وإحتكامهم للسائد من الأفكار في عصرهم والتي ورثوها عن أسلافهم.

كان محمد يدعو قومه لعرض ما يدعوهم إليه على عقولهم, والإحتكام إليها في معرفة صدق ما يدعوهم إليه من زيفه,لكن قومه إختاروا الإحتكام لوصايا أباءهم وجعلوها هي المعيار للتعاطي مع ما جاءهم به محمد ومع كل جديد يَعرض لهم في حياتهم.

في القرآن دعى محمد قومه إلى نبذ وصايا أسلافهم, والإحتكام إلى عقولهم في سبعمائه وخمسون موضعا , ولايتصور عاقل بأن محمد قد دعى قومه لإعمال عقولهم ليتبينوا صدق ما جاءهم به وما أن يتبين لهم ذلك حتى يأمرهم بإعادة إغلاقها من جديد على ما جاءهم به. ليكون محمد بذلك وكأنه إنما دعى لإستخدام العقل ولمرة واحدة فقط., ثم العودة لنبذه من جديد وعدم القبول بحاكميته فيما يَعرض للإنسان.

كانت دعوة محمد تقوم على رفض الإحتكام للقديم فقط لقدمه, وللتأسيس لنهج جديد يقوم على حاكمية العقل على القديم والجديد .لكن ذلك الجاهلي الذي قَبل بإستعمال عقله ,وعرف بطلان وصايا أسلافه, وآمن بما جاء به محمد لم يستطع المضي في هذا النهج الجديد من التفكير الذي لم يعتده, فعاد إلى نهجه القديم ,وكل ما فعله هو إحلال وصايا محمد محل وصايا أسلافه, وأغلق عقله عليها لتتحول مع مرور الزمن وصايا محمد ذاتها إلى قديم يتم الإحتكام إليه فقط لقدمه, وليؤسس بذلك لعهود من الجاهلية الإسلاميه, التي بدأت بوفاة محمد ولاتزال قائمة إلى يوم الناس هذا .

إخراج الجاهلي من جاهليته الوثنيه كان أسهل بكثير من إخراجه من جاهليته الإسلاميه,لأن الجاهلي في جاهليته الأولى كان يحتكم إلى وصايا أسلافه بداعي تعظيمه لأولائك الأسلاف ,وثقته في رجاحة عقولهم, ولكنه لم يكن ينسب وصاياهم تلك إلى مصدر سماوي .

أما الجاهلي في جاهليته الإسلامية الجديدة فهو يُقدس أولائك الأسلاف ,ويعظم شُخوصهم, بل ويجعلهم جزاءً لا يتجزأ من منظومته الإيمانيه, وينسب التعاليم التي توراثها عنهم إلى مصدر سماوي.

مما أغلق كل الأبواب على العقل للنظر في تلك الوصايا ومعرفة صوابها من خطأها.

ـ دائرة الجهل المُغلقة

تعرض إنسان هذه المنطقة الذي أُخضع لسطوة الخلافات القرشيه المتتاليه لعملية تجهيل مُبرمجة ومُقعدة ,مما جعله يقبع داخل دائرة من الجهالة غير قابلة للإختراق ,لأنها مؤطرة بإطار من القداسة بنسبة الجهلات التي تحتويها إلى السماء ,مماجعل الجهل يختلط بالإيمان , بل صار الجهل هو الإيمان ذاته.

الإنسان القابع في تلك الدائرة إنسان أُجبر على تعطيل عقله, فإذا ما قرر أن يُعمل عقله وخرج عن دائرة الجهل تلك يكون بخروجه ذاك قد خرج عن الإيمان. وخروجه عن الإيمان سيوقعه تحت طائلة أحكام الردة مما سيجعله يفقد رأسه وفق شريعة تلك الخلافات القرشيه .

ظلت تلك الخلافات تمارس إرهابها على إنسان هذه المنطقة لعصور متطاولة, وتوارث هذا الإنسان هذا الإيمان القسري, وخضع له ,ومع تقادم الزمن صار جزء من تركيبته وتكوينه ,مما جعله حتى وبعد إنهيار تلك الخلافات القرشيه وذهابها إلى غير رجعة لايزال غير قادر على تحرير نفسه من وصاياها التي أقامت عليها خلافاتها الطغيانيه المستبدة.

وهو إلى اليوم لايسمح لنفسه بإعمال عقله في تلك الوصايا الجاهليه المتوراثه, لأنها صارت هي الأساس الذي يُقيم عليه إيمانه الزائف , مما جعله يُحاصر نفسه داخل دائرة جهالاته المُقدسة وينعزل عن كل الدنيا , فكل ما هو خارج دائرته كافر وجب إخضاعه وجره بالسلاسل من عنقه إلى الإسلام, فإن رفض تقرب إلى الله بضرب عنقه.

هو وحده من يمتلك الحقيقة المُطلقة التي إختصته بها السماء ,ومنحته الأفضليه والخيريه على باقي الأمم وفقاً لها. إقتضاه ذلك أن يعادي الكون كله لأن كل ما هو خارج دائرته الجاهلية هو عدو لله ولرسوله وجب البراء منه ,فتبرأ من كل الدنيا ,وظل يدور على نفسه داخل دائرته, ويلعن الكون من حوله مفتخرأ بأفضليته وخيريته التي منحه أيها جهله السماوي المقدس.

تحولت الوصايا الجاهلية التي ورثها إلى علم, وقامت عليه الشُروحات والتفاسير , وتشكلت عنده أكبر مكتبة للجهل عرفها الإنسان, صار هذا العلم هو العلم الشريف الذي يؤجر صاحبه, وصار الوسيلة لكل الفاشلين والجهلة لإمتطاء أعناق الناس, وكل ما يحتاجه هذا الفاشل هو أن يتقمص صورة سيده الإعرابي, ويظهر على الناس بذات جلابيبه ولحيته, ويحفظ عن ظهر قلب وصاياه ليصير بذلك عالماً من علماء هذه الأمة, يقف الناس عند رأيه ,ويمكنونه من عقولهم وعقول أبناءهم, ليزرع فيها تخاريفه الجاهلية التي أكل الدهر عليها وشرب . والنتيجة هي ما نحصده اليوم. فبعد ألف وأربعمائة عام من ظهور محمد الذي دعى إلى تحكيم العقل وبدأ وصاياه في قرآنه بكلمة إقرأ , نحصل على أمة ثلاثة أرباع سكانها لايجيدون فك الحروف , و الأغلب الأعم من الربع المتبقي يفكونها على طريقة “ابن تيميه وابن القيم” مما جعلهم في وضع من الجهالة أسوأ بكثير ممن لايجيدون فك الحرف.

سقطت خلافات الطغيان التي أسست لهذا النهج ومنهجة الجهل, لكن منهجها ذاك لم يسقط بسقوطها, بل لايزال يتوارث ويُنتج ويُفرخ أجيال من الجهلة, الذين لايزالون يحلمون بإعادة إقامة تلك الخلافات,و التي صورها لهم علماء الجهل الذين يأمونهم, بأنها كانت عهود زاهرة ومشرقة, وهاهم اليوم وهم يتمردون على طواغيتهم يعودون ككل مرة للمطالبة بالعودة إلى الأسس التي بنت عليها خلافات الطغيان المنقرضة دولها, دون أن يدركوا أن طواغيتهم الذين يتساقطون اليوم إن هم إلا نتاج طبيعي لتلك الأسس الفاسدة .

يسمي بعض المتفائلين ما يحدث في المنطقة بالربيع العربي, لكنهم لايدركون أن ربيع صحراء العرب ليس له منتجات الربيع التي يعرفها الإنسان. منتجات ربيع صحراء العرب هي الصبار والعوسج وكل أنواع الأشواك التي تقتات عليها إبلهم, وهذا ما نراه اليوم ,فهذه اللحى المُشعته التي تغطي وجوه هذه الجثث المنتفخة بالجهل والتي تطفو على سطح هذا الإنتفاضات ,هذه اللحى الشوكيه ليست أبداً أمارة على أن الربيع على الأبواب, بل هي أمارة على أن المنطقة مُقبلة على مواسم من القحط الفكري والروحي ستأتي على ما تبقى لمواطنها من أمل في النهوض .

هذه التمردات التي تشهدها المنطقة لا تحدث لأول مرة , فهذه المنطقة شهدت من التمرادات والحُروب والفتن أكثر مما شهدته أي بقعة أخرى في العالم ,ولقد بدأت منذ بداية سيطرت الدولة القرشيه باسم الدين على رقاب العباد, ويكفي الإشارة إلى أن ثلاثة من الخلافاء الأربعة الذين أسسوا لهذه الدولة القرشيه قد لقوا مصرعهم قتلا.

ولكن نتاج تلك التمردات لم يُحدث أي فرق ,ولم يؤسس أبداً لدولة رشيدة, لأن الإنسان الذي قام بها إنسان غير راشد فكرياً. فظل يبحث عن الحلول لمشاكله داخل دائرة جهالته المُقدسة . وكلما تمرد على حاكم ما ,كان دافعه لتمرده ذاك خروج ذلك الحاكم عن تعاليم دائرته المقدسة, والنتيجة تكون بالمجئ بحاكم جديد, ليُقيم تلك الوصايا .وكلما كان ذاك الحاكم مستمسكاً بتلك الوصايا أكثر ,كلما كان أكثر طغيان وتجبر.

لأن تلك الوصايا أنما وضعت للتأسيس للطغيان, وهذا ما لايريد أن يدركه هذا الإنسان. لايريد أن يدرك أن شرائعه المتوارثه تلك ليست شرائع الله ,بل هي شرائع خلفاء وأمراء الدولة القرشيه .

لايريد أن يعي أن الله لاينزل شرائع لبناء دول, وأن الأنبياء والرسل والفلاسفة والمصلحين لا يأتون لبناء خلافات راشدة, بل يأتون لبناء إنسان راشد يصلح ليكون مواطن في دولة رشيدة تقيم شريعتها على ما يُشرعه الإنسان لنفسه.

لذلك كان نتاج كل التمردات السابقة التي شهدتها المنطقة, هو المزيد من التشظي والإنقسام, داخل دائرة الجهالة المغلقة, مما جعلها تعج بما لا يحصى من الملل ,والنحل ,والطوائف المتناحرة, التي يكفر بعضها بعضا , ويستبيح بعضها دماء واعراض بعض.وهذا ما ستنتجه هذه التمردات القائمة الآن .

مشكلة هذه المنطقة الأساسيه ليست الحكام الطواغيت ,مشكلة هذه المنطقة هو النهج الذي لايستطيع أن يفرز إلا مواطن يُقر الطغيان, لأنه هو ذاته يعيش في داخله طاغوت صغير ,يمارس طغيانه على من يقعون تحت سلطته .

.الحراك الشعبي لايمكن تصنيفه على أنه مجرد تمرد للجياع, أو على أنه ثورة إلا عبر نتائجه, ولقد كانت أولى نتائج هذا الحراك مع نتائج أول إستفتاء شعبي على الدستور جرى في مصر بعد إنتفاضة بناير من العام ألفين وإحدى عشر .

لقد منح الإنسان المصري وللمرة الأولى الحرية الكاملة ,بين إختيار دستور خالي من المرجعيه للوصايا القديمة ,وبين الإبقاء على دستوره القديم دو المرجعيه المتوارثه, وتوجه الإنسان المصري إلى صناديق الإقتراع بعقلية من يتوجه إلى الغزو, تحت تاثير تحريض الجهلة والمشعوذين الذين يسميهم علماء, وكان نتاج غزوة الصناديق تلك, أن يتم الإحتفاظ بمرجيعته القديمة وإختياره الحُر لإحكام إغلاق دائرة جهله المقدسة على نفسه.

خرج الإنسان المصري في إنتفاضته بداعي إسقاط الإستبداد, وبمجرد أن أسقط المُستبد تحول هو ذاته إلى مُستبد جديد يمارس إستبداده على مواطنه الذي لايدين بدينه.

أراد هذا الإنسان لنفسه الحرية وعندما نالها منعها على فريق من أبناء وطنه ,ليجعل منهم ضيوف في أرضهم ليس لهم من الحقوق إلا ما يمنحهم إياه دين لايدينون به.

قبل هذه الإنتفاضة كان الإنسان المصري المُسلم والمسيحي متوحدين تحت القهر ذاته ,وكان كل منهم يُعزي قهره ذاك إلى ذات السلطة المُستبدة, وهذا ما حفظ وحدة الشعب المصري .

أما اليوم فقد أدرك الإنسان المسيحي أن أسباب قهره لم تكون الحكومات الطاغوتيه ,وأنما أسباب قهره ,هو مواطنه المعجون بتعاليم الإستعباد ,والذي تعشش في داخله أحقاده القدسيه, التي أورثه إياه وصايا بدو الحجاز المتخلفة التي يدين بها.

من سيلوم المواطن المسيحي في مصر اليوم لو طالب بالإنفصال عن هذه الدولة التي لاينال فيها حقوق المواطنة, ويتوجب عليه العيش فيها بصفتة ذمي تجري عليه تعاليم “أبن القيم” في أحكام أهل الذمة.

من سيلوم هذا الإنسان لو إستعان بكل القوى الخيرة في الكون لتكون له دولته الخاصة, التي يُديرها وفق شريعته التي إرتضاها لنفسه, وهذا ما سيحدث عاجلاً أم أجلا ,مما يعني مزيد من التشظي والإنقسام والفرقة بين أبناء الشعب الواحد.

الثورات لا تقوم لتؤسس لشرائع تقسم الأوطان , الثورات تأتي لتوحد المجتمعات عبر خلق صيغ لحياة مشتركة, توفر لكل فرد من أفرادها حقوقه ,وتكفل له حق المواطنة الكاملة, أياً كان دينه أو عرقه أو معتقده.

مقالات ذات علاقة

الإخوة الأعداء وليلى

المشرف العام

نبوءات الليبراليّين العرب

المشرف العام

ياحجاركم يا مجاركم (2-2) *

فاطمة غندور

تعليق واحد

sham 28 نوفمبر, 2013 at 19:00

ابدعت ومزيد من التالق ايها الكاتب والفيلسوف الكبير
بارك الله بك

رد

اترك تعليق