من الأمور الإيجابية على الصعيد الثقافي والعلمي هذا التوجه الذي بدأت في اتخاذه جامعاتنا بتوجيه الطلاب نحو تناول الأدب الليبي الحديث في دراسات الماجستير والدكتوراه، بما يساهم في إثراء وتطوير الحركة الأدبية والثقافية في بلادنا وينعكس عليها بشكل إيجابي لما تتسم بها الدراسات البحثية الأكاديمية من التزام بالنواحي العلمية والمنهجية…
وفي هذا السياق يأتي كتاب الدكتور عبدالجواد عباس (القصة الليبية القصيرة من التقليد إلى التجريب) الصادر عن وزارة الثقافة والتنمية المعرفية العام 2018، والذي هو في الأساس رسالة علمية نال عنها شهادة الدكتوراه في الأدب الحديث من جامعة قاريونس العام 2007.
والدكتور عبدالجواد عباس كاتب قصة قصيرة وباحث أكاديمي في اللغة العربية، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان (وحدي في عرض البحر) العام 1991وهو من مواليد مدينة البيضاء سنة 1947م. تحصّل سنة 2003على شهادة الماجستير عن رسالته (اتجاهات القصة الليبية القصيرة 1957-1987) من جامعة طبرق.(1)
تضمن الكتاب مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. الفصل الأول جاء تحت عنوان «التقليد في القصة القصيرة من الإرهاصات إلى النضج» يتعرض الباحث في مدخل هذا الفصل إلى بدايات القصة الليبية القصيرة، ويناقش ما أورده بعض الكتاب والأدباء والنقاد من آراء حول بدايات القصة الليبية القصيرة، مثل الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه في كتابه «بدايات القصة الليبية القصيرة» ونجم الدين غالب الكيب في كتابه «دراسات في الأدب والفن» وبشير الهاشمي في كتابه «خلفيات التكوين القصصي» وغيرهم من الكتاب والباحثين، ثم ينتقل إلى المبحث الثاني في هذا الفصل الذي حمل عنوان «إرهاصات القصة الفنية القصيرة في ليبيا» ويتحدث عن الصحف التي صدرت في طرابلس خلال العهد العثماني الثاني والتي كانت تنشر أخبار الولاية وبعض المقالات المسجوعة التي اعتبرها الباحث «بمثابة القاعدة التي انطلق منها الفن القصصي الليبي فيما بعد».(2)
ثم وفي المبحث الثالث من هذا الفصل الذي حمل عنوان «أوضاع القصة الليبية العام 1935» يشير الباحث إلى تجربة وهبي البوري الذي يعد رائد القصة القصيرة في ليبيا رغم أنه انصرف إلى كتابات سياسية وأدبية أخرى «إلا أن النقاد اعترفوا له بالريادة، وبأنه أول من استقامت على يديه القصة الفنية بمعناها المعاصر في ليبيا».(3)
ثم يتناول الباحث في المبحث الرابع من هذا الفصل «مراحل اتجاهات القصة الليبية القصيرة» مبتدئا بالاتجاه الرومانسي في منتصف الخمسينيات، ووفقا للباحث تنتسب بعض قصص وهبي البوري إلى الرومانسية، وأيضا قصص يوسف الدلنسي وقصص زعيمة الباروني وقصص خليفة التليسي، ثم يتطرق الباحث إلى التجديد في الاتجاه الرومانسي خلال السبعينيات لينتقل إثر ذلك إلى الاتجاه الواقعي منذ أواخر الخمسينيات، حيث يقول أن «القصة الليبية منذ هذه الفترة وهي تراوح بين المذهب الواقعي والرومانسي».(4)
يتوقف الباحث عند بعض قصص ممثلي هذا التيار مثل أحمد محمد العنيزي وعلي مصطفى المصراتي وبشير الهاشمي وكامل المقهور وخليفة التكبالي، ونلاحظ أن الباحث في أغلب الأحيان يعرض لقصص التيار الواقعي من خلال آراء النقاد، من أمثال سليمان كشلاف وخليفة حسين مصطفى وكامل عراب وفوزي البشتي، فهو ينقل آراءهم في هذا الموضوع، ويتبناها دون مناقشة، لقد كان الأجدى في تقديرنا لو أن الباحث قدم لنا قراءته هو في تلك القصص التي يعرض لها في هذا البحث بدلا من أن يكرر ما سبق أن قاله هؤلاء النقاد في تلك القصص، لا سيما أن آراء النقاد، التي يعتمد عليها الباحث أغلبها في بحثه هذا دون نقاش، هي أقرب إلى الكتابات والمتابعات الصحفية حتى وإن تم جمعها في كتب، فهي كانت في الأساس مقالات نشرت في أوقات سابقة في الصحف والمجلات، وهي كما قال عنها دكتور محمود ملودة في دراسته عن نقد القصة الليبية القصيرة «لا تتيح للقارئ التعرف على مواقف نقدية واضحة، وإنما هي خليط يجمع من حيث الرؤية عددا من المواقف النقدية في المقالة الواحدة»(5)
الفصل الثاني للكتاب حمل عنوان «التجريب في القصة الليبية القصيرة… البدايات، الدوافع والرواد» يتطرق الباحث في البداية إلى تعريف التجريب، ثم يتناول بدايات التجريب في القصة الليبية القصيرة، متوقفا عند أبرز أسمائها، ويعتبر الباحث مجموعة «فتاة على رصيف مبلل» لعبد الله الخوجة التي صدرت في العام 1965هي أول مجموعة قصصية تجريبية، ويقول عنها أنها قوبلت بالرفض والنقد اللاذع بعد سنوات من صدورها من قبل الكاتبين فوزي البشتي وزياد علي (6)، ويعزو الباحث هذا الرفض إلى أن هذه المجموعة ظهرت في «وقت كان القصاصون مازالوا يكتبون القصة التقليدية، عبد الله الخوجة الوحيد الذي خرج من بينهم وخالف أسلوبهم في القص».(7)
ثم ينتقل الباحث إلى عنوان آخر في مبحث آخر من ذات الفصل: «دوافع التجريب في القصة الليبية القصيرة» وفيه يعرض لآراء بعض النقاد العرب في دوافع التجريب في القصة العربية، لينتقل إلى آراء بعض النقاد والأدباء الليبيين مثل فوزي البشتي وزياد علي.
وفي مبحث بعنوان «رواد التجريب في القصة القصيرة الليبية” يعرض لأهم الأسماء التي اعتبرها رائدة القصة التجريبية مثل عبدالله الخوجة وأحمد إبراهيم الفقيه إلخ…
غير أننا نرى الباحث يكرر نفس أخطاء بعض الكتابات النقدية الصحفية والانطباعية التي سبقت الإشارة إليها، حيث نجده يطلق أحكاما وآراء دون تقديم الشواهد والحجج التي تعزز وتدعم تلك لآراء، على سبيل المثال يقول: «إن سالم الهندواي يحسب على التجريبيين أكثر من الواقعيين من حيث الكم إذا أضفنا قصصه التجريبية إلى روايتيه التجريبيتين» (8)، ولا يقدم الباحث ما يبرهن على صحة هذا الرأي، وهذا من عيوب الكتابة النقدية الصحفية والانطباعية، التي طالما تم نقدها، ولا يجوز أن يتم تكرار مثل هذه العيوب في بحث علمي أكاديمي.
ثم يعرض الباحث في مبحثين متتاليين، الأول بعنوان «مؤيدون ومعارضون”، والثاني بعنوان «مغالون ومعتدلون» لآراء النقاد والأدباء في التجريب، وتبدو الأمور ملتبسة أمام المتلقي عند الانتهاء من قراءة هذين المبحثين، لأن الباحث لا يبدو أنه قد حسم أمره من مسالة التجريب، فاكتفى بعرض آراء النقاد دون أن تكون له رؤية واضحة تجاه هذه المسالة، ودون أن يناقش بالرأي التحليلي النقدي العلمي ما أورده النقاد من وجهات نظر.
الفصل الثالث من الكتاب حمل عنوان «المستويات اللغوية والفنية في القصة الليبية التقليدية» ويقدم الباحث في هذا الفصل عرضا للمستويات اللغوية والفنية للقصة التقليدية في خمسة مراحل زمنية، يبدأها من منتصف الثلاثينات وحتى 2005، ثم يتطرق إلى ارتفاع وهبوط المستوى الفني في القصة الليبية القصيرة متوقفا عند بعض النماذج، وفي مبحث آخر حمل عنوان «رجوع القصة الفنية إلى ما يشبه المقالة والصور القصصية»، يسجل الباحث عددا من النقاط الفنية السلبية على مجموعة عبد القادر بوهروس التي حملت عنوان «نفوس حائرة»، لينتقل بعدها إلى فقرة أخرى حملت عنوان «العامية والفصحى في لغة الحوار» التي رآها «مشكلة لغوية انتهجها كثير من الرواد القدامى».(9)
ويسجل الباحث اعتراضه على استخدام العامية في الحوار في القصة الليبية وهو وفقا لما يقول «كثير جدا في القصة الليبية، لا تشجع عليه المناهج النقدية» (10) وبدلا من أن يورد ما يؤكد صحة هذا الكلام برأي نقدي علمي، نجده يقدم رأيا انطباعيا بغير سند علمي أو حجة مقنعة: «لأنه لو كتب الحوار بالعامية فإنه سيفقد الصفة القومية بين العرب في الأقطار الأخرى، وستفقد القصة نفسها الصفة العالمية لصعوبة ترجمتها إلى لغات حية».(11)
الفصل الرابع حمل عنوان «الملامح الفنية في القصة الليبية التجريبية» يتعرض الباحث في هذا الفصل وتحت مبحث بعنوان «التجريد ولغة التشفير وتبادل الأزمنة» يتعرض إلى تحليل بعض القصص وتبيان ملامح التجريب في قصة «ارتطام» لناجي الشكري، ثم قصة «ابتسم لكي أرى وجهك في الظلام» للقاص سعيد خير الله وهي القصة التي تضمنتها مجموعته القصصية «عيون الغزلان الخائفة” ثم قصة سالم العبار «اشتهاءات السيدة الجميلة».
نلاحظ في هذا الفصل تعسف الباحث في إسقاط مصطلحات فكرية تبدو لنا خارج السياق في تحليله لنصوص قصصية بدلا من تحليل أبعادها الفنية والتجريبية، وفقا لما يقتضيه هذا الفصل الذي يفترض أنه يعرض للملامح الفنية في القصة التجريبية، إذ نرى التعسف في ما أورده الباحث من وصف لقصة سالم العبار المشار إليها:
«وللنظر أيضا إلى نوع آخر من الحداثة… فمشروع ما بعد الحداثة هو نفسه نوع من الحداثة».(12)
ثم يضيف حكما آخر على القصة: «والجديد المنسوب إلى التجريب هنا هو تفكيك الموروث الديني الذي لم نعهده في القصص التقليدية».(13)
والسؤال هنا هو ما علاقة التجريب، وهو جانب جمالي فني، بتفكيك المرورث الديني وهو عنوان عريض وكبير وعام لقضية فكرية؟ خاصة أن هذا جاء تعليقا على عبارة جاءت على لسان إحدى الشخصيات في القصة، أيضا نرى في هذا التفسير تعسفا في إطلاق الأحكام من قبل الباحث، لا تستند إلى تحليل النص من داخله.
في المبحث التالي الذي حمل عنوان «شعرية القصة» يتناول الباحث قصصا لعبد الله الخوجة ومحمد علي الشويهدي وجمعة الفاخري ومحمد المغبوب والكيلاني عون وعبدالرسول العريبي وسالم الهنداوي وسالم الأوجلي وصالح عباس وناجي الشكري، وفي مقدمة هذا المبحث يصف القصة الشعرية بأنها رومانسية:
«ولكن لا مناص من حسابها على الرومانسية على أية حال، رومانسية تتسم بالحداثة بتعبيراتها المبتكرة وأفكارها التي تبدو متطرفة»، (14) وهنا أيضا نرى الباحث لا يورد ما يعزز هذا الرأي بالشواهد التي تدعم رأيه.
في المبحث الذي حمل عنوان «المعادل الموضوعي» يتناول الباحث قصصا لكل من سالم الأوجلي وصالح عباس وناجي الشكري وسالم العبار والصديق بودوارة ومعمر القذافي وعوض الشاعري وبشير زعبيه وسالم الهنداوي ومحمد الأصفر.
كما يقدم الباحث في هذا الفصل أكثر من مبحث جاءت بعناوين: «التناص» و«الدراما في القصة» و«ترميم الذاكرة الشعبية»، ويتطرق إلى القصة قصيرة جدا بمبحث حمل هذا العنوان، ثم يعود إلى الملامح الفنية في «القصة الليبية التجريبية» في مبحث حمل عنوان «العناوين الجانبية»، وفي مبحث «ترميم الذاكرة الشعبية» يعرج الباحث على مجموعته القصصية «وحدي في عرض البحر» ويقوم بتحليل إحدى القصص التي ضمتها هذه المجموعة.
ويختتم الباحث هذا الفصل برأي يبدو فيه موقفه من التجريب غامضا: «وبعد ما خاض البحث من قول ونقد للقصص التجريبية، يجدر بنا أن نقول إنه على الرغم من هذه العقبات والعوائق في طريق التجريب الأدبي، وعلى الرغم من الموافقين والمناوئين، يجدر بنا أن نقول إن الأدب بحر زاخر لا يمل اتساع الأساليب وتقليبها على عدة أشكال ومستويات، الشيء الأهم في هذا هو تقبل الجمهور لهذا الفن الجديد، في العالم العربي على الأخص».(15)
وهذا الرأي الذي يورده الباحث في ختام بحثه يبدو لنا غريبا، فعن أي جمهور يتحدث الباحث؟ جمهور مبدعي القصة؟ أم النقاد؟ أم جمهور المثقفين المتابعين للقصة القصيرة وتطورها؟ جمهور قراء القصة التقليدية والأدب التقليدي أم جمهور الأدب الحديث والحداثة؟ أم الجمهور بشكل عام بما في ذلك الذين لا يتابعون القصة القصيرة ولا الأدب العربي؟
وعلى الرغم من أن الباحث يقدم آراء أخرى حول التجريب يختتم بها هذا الفصل لكل من أحمد إبراهيم الفقيه وأحمد الفيتوري ومحمد المسلاتي إلا أنه ينتهي إلى هذا الرأي الذي يورده في نهاية هذا الفصل: «وأخيرا لايصح إلا الصحيح، ولا يبقى إلا ما يستحق النمو والحياة ويشمل الحياة الإنسانية في مختلف مناحيها ودقائقها».(16)
وهو رأي عام، وكلام فضفاض، لا يقول شيئا محددا، ولا يوضح موقف الباحث من مسيرة القصة القصيرة في ليبيا في تطورها وتحولاتها.
ملاحظتان اختتم بهما: الأولى أن الباحث لم يحدد الفترة الزمنية التي تناولها بحثه، لا في عنوان بحثه ولا في مقدمة الكتاب، الملاحظة الثانية اعتمد الباحث في بحثه على المجموعات القصصية الصادرة في كتب، وتجاهل عددا كبيرا من القصص التي لها علاقة بموضوع بحثه لكنها لم تصدر في كتب بل نشرت في الصحف والمجلات، مثل صحيفة «الأسبوع الثقافي» و«الفجر الجديد» ومجلة «الفصول الأربعة» و«الثقافة العربية»، وغيرها من المطبوعات، وبذلك غابت عديد الأسماء التي لم تصدر لها مجموعات قصصية مثل عبدالسلام شهاب وعلي الويفاتي ومأمون الزايدي على سبيل المثال، وجمعة بوكليب الذي صدرت له نصوص القصصية بعد فبراير 2011، ولكنه يعتبر من قصاصي جيل السبعينيات، وغابت أيضا أسماء لها علاقة بموضوع هذا البحث، صدرت لها مجموعات قصصية ولم يتطرق إليها الباحث مثل فتحي نصيب ورضوان بوشويشة وغازي القبلاوي وداود الحلاق وغيرهم.
لكن وعلى الرغم من هذه الملاحظات التي أوردناها، فإنها لا تقلل من أهمية هذه الدراسة التي تعتبر رائدة في مجالها، لا سيما أنها دراسة أكاديمية، منهجية، ونأمل أن نرى مزيد الدراسات الأكاديمية التي تتناول الأدب الليبي الحديث بالبحث العلمي المنهجي الجاد.
بوابة الوسط، الخميس 26 يناير 2023
هوامش
1-مدونة الدكتور عبدالجواد عباس في الأدب والثقافة، على الإنترنت.
2-د. عبدالجواد عباس «القصة الليبية القصيرة.. من التقليد إلى التجريب» وزارة الثقافة والتنمية المعرفية، طرابلس ليبيا، 2018 ص 18.
3-نفسه ص21
4-نفسه ص46
5-د. محمود محمد ملودة «نقد القصة الليبية القصيرة.. دراسات في ممارسات النقاد الليبيين» جامعة مصراتة،2013، ص 142.
6-د. عبدالجواد مصدر سبق ذكره ص 68.
7-نفسه ص69.
8-نفسه ص 94.
9-نفسه ص 148.
10-نفسه ص150.
11-نفسه ص 150.
12-نفسه ص169.
13-نفسه ص170.
14-نفسه ص 171.
15-نفسه ص-241-240.
16-نفسه ص 242.