الأخبار السارة في ليبيا شحيحة. وفي العادة، تأتينا مترددة، وعلى فترات زمنية متباعدة، وكأنها على خصومة معنا. لكنها حين تجيء تكون على هيئة زهرات صغيرة، تنبثق فجأة أمامنا، فتثير دهشتنا، وتوقد بهجتنا. عندئذ، نكتشف أن للحياة طعماً آخر، كدنا ننساه، وغير الذي أجبرنا على تجرعه.
بلادنا ليبيا لا تزال حية، مليئة بالوعود وبالمواهب وبالجمال. ولا تزال، رغم التغييب، مثل تلك الزهرات، جميلة وعفية، وفي انتظار، وعلى أمل، أن نوليها اهتماما.
مساء يوم الخميس الماضي، أعلن موقع طيوب الثقافي، الذي يديره ويشرف عليه الصديق الشاعر رامز النويصري، نتيجة النسخة الثانية من مسابقة أحمد إبراهيم الفقيه للرواية. الإعلان تزامن مع نهاية العام 2022، فكان أفضل خاتمة نودع بها العام، وأجمل مفتتح للعام الجديد 2023.
الجائزة الأولى كانت من نصيب الصديق الروائي إبراهيم الإمام، أصيل واحة غدامس. الجائزة التشجيعية كانت من نصيب روائية اسمها خيريه فتحي عبدالجليل، وروائي اسمه فتحي محمد مسعود. فهنيئاً للفائزين، وهنيئاً لنا أيضاً.
القاموس الحياتي الليبي تغير في السنوات التي أعقبت انتفاضة فبراير2011. وبدلاً من مفردات اللجان الشعبية واللجان الثورية والمثابات.. إلخ، حلت مفردات جديدة، مثل كتيبة وكتائب، أفرزنها حالة الجنون المسلح والفوضى، التي لا تزال تسود مدن ومناطق ليبيا من أقصاها إلى أقصاها.
واتساقاً مع المنطق الجنوني الكتائبي السائد، وعلى عكس توجهه، أقترح إشهار كتيبة يكون المبدعون الليبيون في كل مناشط الفن والأدب، أفرادها. وتعرف باسم كتيبة الإبداع.
على عكس كل الكتائب المسلحة الأخرى، كتيبة الإبداع تأسست قبل الكتائب الأخرى، وكانت معروفة، لكن غير معلنة. وهي صغيرة العدد، وسلاحها الفن والإبداع. لا تنهب المال العام، ولا تحرق البيوت وتهدمها على من فيها. بل هي أساساً كتيبة إنقاذ وإغاثة وإنعاش للنفوس وللقلوب وللعقول. ليست جهوية ولا مناطقية ولا إقليمية.
خطابها ضد الحقد والكراهية. وأفرادها قلة متميزة، لا يحملون أسلحة؛ بل يشبهون الفيلسوف اليوناني ديوجين، يسيرون في وضوح النهار في الشوارع بين الناس، وهم يحملون مصابيح، بحثاً عن الحقائق، والكشف عنها وتقديمها بجمال وإبداع.
وبفضل إبداعات وجهود أفرادها على مر الأعوام تحقق زمن الرواية الليبية.
نحن، لمن لا يعلم، نعيش في زمن الرواية الليبية. الرواية الليبية، في السنوات الأخيرة، على أيدي مبدعيها الليبيين من الجنسين، شهدت ازدهاراً غير مسبوق.
وها هي اليوم تفرض حضورها عربياً ودولياً، وتحظى باهتمام استثنائي. وتكفي نظرة خاطفة على ما يطبع وينشر سنوياً من روايات بأسماء روائيين ليبيين، من الجنسين، داخل ليبيا وخارجها.
وليس غريباً أن كل ذلك، حدث ويحدث، من دون علم الحكومات، ممثلة بوزارة الثقافة ومؤسساتها. ولذلك، وجب الشكر لكل دور النشر الليبية الخاصة، على مساهمتها الجادة في تشجيع المبدعين الروائيين الشباب، ونشر إبداعاتهم.
ورغم حرصي الشديد على متابعة المشهد الإبداعي الليبي بتنوعاته، وخاصة في المجال الروائي؛ فإنني أصبت بشيء من إحباط لإخفاقي في الاطلاع على ما ينشر تباعاً من روايات، كتبها مبدعون ومبدعات من جميع أنحاء ليبيا.
إخفاقي لا يعود سببه إلى كسل أو تراخ من جانبي؛ بل لكثرة ما تطرحه دور النشر الليبية والعربية من روايات ليبية جديدة كل عام، وبأسماء مؤلفين شباب، لم أسمع بهم من قبل. وكأنهم يعملون في حركات وخلايا سرية أدبية تحت الأرض. لذلك من المنطقي جداً السؤال: من أي سماء هبطوا يا تُرى؟
وها نحن، عبرهم وبفضل إبداعاتهم، نرى ليبيا أخرى. ليبيا التي نحب ونعشق، وهي تقف أمامنا متألقة، شابة عفية، بقلب شاب نابض، يفيض حيوية وأملاً واستنارة وإبداعاً.
الجميل في الزمن الروائي الليبي الذي نعيشه، أن كتابه ومبدعيه ينتمون إلى مختلف مناطق ليبيا. وأن عدداً لافتاً منهم جاءوا من خارج طرابلس وبنغازي. الروائي إبراهيم الإمام الفائز بجائزة أحمد إبراهيم الفقيه، جاء من واحة بعيدة، في الصحراء قرب الحدود مع الجزائر.
لا نراها إلا في كتب التاريخ، والملصقات والأشرطة السياحية الحكومية، ويزورها السائحون الأجانب أكثر منا.
أنتهز هذه الفرصة لأهنئ الفائزين في المسابقة. ولأشكر موقع طيوب، ومديره الصديق رامز النويصري على مبادراته وجهوده القيمة في خدمة الثقافة الليبية. وأتمنى أن تثير الانتباه في مكاتب المسؤولين بوزارة الثقافة.
بوابة الوسط | 4 يناير 2023م