قراءات

الهروب من عرس الدم والعودة المحزنة

الشاعر والمحامي الدكتور جمعة عتيقة (الصورة: طه كريوي).
الشاعر والمحامي الدكتور جمعة عتيقة (الصورة: طه كريوي).

كتابة السيرة أو المذكرات مهم جداً لسد ثغرات تتجاوزها كتابة التاريخ التقليدي التي غالبا ما يتصدى لها المنتصر ويكتبها وفق رؤيته، وفيما سبق عانت كتابة السيرة في المشهد الليبي من الابتسار أو الغربلة أوالتكتم على أحداث يصعب الحديث عنها في ظل نظام أمضى عقوداً وهو يسعى إلى كتابة تاريخه الخاص.

ويمنع كل سرد يشوش عليه، بل زيّف الذاكرة والتاريخ السابق له من أجل إدراج أسطورته الخاصة على صفحة بيضاء في سردية بلا ذاكرة، فسكت البعض وابتلع سيرته، أو كتبها بحذر، أو كتبها بجرأة كعمل سري مؤجل النشر حتى ينقشع الظلام، وفي هذا الصدد تأتي مذكرات المحامي والناشط الحقوقي د. جمعة عتيقة: “في السجن والغربة.. مذكرات” الصادرة عن دار الرواد، ويقول في تمهيده لهذه السيرة الهامة: “حينما كتبتُ هذه المذكرات سنة 2007 أثناء تواجدي خارج ليبيا، وكُتب الفصل الأخير سنة 2010..

لم أكن أتوقع أن تنشر في حياتي فالظلام كان حالكاً وخيوط الأمل تتبدد مع مضي العمر، وقد أوصيت أولادي بنشرها حينما ينقشع الظلام ويغمر ليبيا ضياء الحرية.. غير أن الله قد منَّ علي بأن أشهد لحظة الانتصار العظيم وانكسار جحافل الطغيان والتخلف والجريمة، وها أنذا أقدمها للقارئ كما كُتبت حينها.”.

يبدأ المؤلف سرد ذكرياته؛ التي مازال ألمها طازجاً، برصد ذاك الحراك الثقافي في الجامعة الليبية حين كان يَدْرُس بكلية الحقوق إبان سني الانقلاب الأولى، متطرقا لأهم محطات تلك الحيوية الثقافية والسياسية في جامعة بنغازي المشاكسة التي كانت منذ البداية مصدر أرق وصداع للسلطة الانقلابية، وكان الهامش الذي تركه النظام الملكي للعمل النقابي الطلابي فضاءً للتفاعل رغم أنه آخذ في التقلص يوماً بيوم.

شارك الكاتب في عديد المحاضرات والندوات، وكتب المقالات التي تنتقد منذ البداية تَوجُّه العسكر إلى تكريس سلطة فردٍ بدأت نواياه تتضح لمن يملك الحدس بمآل ما يحدث، لذلك، سيرصد تصاعد وتيرة التيار الثورجي الذي بدأ هذه المرة يتشكل داخل فضاء الجامعة عبر تجنيد العديد من الطلاب الذين يحملون نفس أحلام العسكر في التسلط والنفوذ، وكان الصدام حتميا بين تيار طليعي حالم من شبان وجدوا أنفسهم في الخط الأول في مواجهة نظام تتصاعد وتيرته الشعبية، وبين تيار ثورجي منفعل يقف مباشرة خلف طابور الجنرالات.

وتحققت مخاوف الكاتب عندما تم القبض عليه وإيداعه السجن مع العديد من الناشطين من طلاب وأساتذة ومثقفين، وهو إذ يرصد تلك المرحلة لا ينسى تلك المقاومة للجلاد بالشعر والسخرية داخل السجن، ولاينسى ذكر جل الأسماء التي شاركته تلك المحنة، واستعادة الكثير من الحوارات الوطنية التي جرت داخل المعتقل.

والحديث المتشنج الذي جرى مع الخروبي في زيارته إلى السجن والذي أودى به إلى الحبس الانفرادي، حتى تم الإفراج عنه في ديسمبر 1973 وقدم استقالته من نيابة بنغازي لينتقل إلى طرابلس ويشرع في العمل كمحام مستقل، ليخوض صراعات أخرى عبر تطوعه للدفاع في قضايا سياسية معقدة: محاكمة ضباط حركة المحيشي، ومحاكمة الأبشات، وجماعة الجبل المسماة “جماعة المفتي”.

ومع بداية “شلال الدم” كما يسميه ــ حيث “كان البلد يتشح بالكآبة والحزن ويلتحف بالتوجس والخوف”، وبداية تنفيذ أحكام الإعدام بطريقة بشعة في 21 من الضباط بعد أن أُجبِر أصدقاؤهم على تنفيذ حكم الإعدام فيهم بالأمر العسكري، إضافة إلى إعدام الناشطَين: محمد بن سعود، عمر دبدوب، والمغني عمر المخزومي في ساحات بنغازي يوم 7 أبريل عام 1977 وترْكِهم يتأرجحون في المشانق لعدة ساعات ــ قرر الرحيل “محاولا الهرب من عرس الدم” كما يقول لتبدأ رحلته مع الغربة والترحال والخوف من رصاصات وسكاكين النظام التي تلاحق الليبيين في كل مكان من العالم.

بدأت الرحلة إلى إيطاليا لإكمال دراسته العليا في القانون الجنائي إلى أن تم الزحف على السفارات وبداية حقبة دموية من التصفيات الجسدية عام 1980 لناشطين في الداخل والخارج، فيمم صوب المغرب في فترة كانت العلاقات بين المغرب وليبيا وصلت إلى حد سحب الاعتراف من قبل المغرب بالنظام الليبي، ويسجل في تلك المرحلة حراك التنظيمات الليبية المعارضة في ظل التوجس من المزاج السياسي للأنظمة العربية ولعبة المصالح والمقايضات الدنيئة.

كتاب_في السجن والغربة_للشاعر_د.جمعة عتيقة
كتاب_في السجن والغربة للشاعر د.جمعة عتيقة

ومع تسرب معلومات عن صفقة تُسلِّم بموجبها حكومة المغرب بعض المعارضين إلى النظام الليبي غادر عتيقة إلى روما مرة ثانية لاستكمال دراسة الدكتوراة، لتحط به الرحال بعدها في بغداد إبان حرب الخليج الأولى، وليكابد هناك مواقف صعبة ومحرجة عندما كانت بغداد تُقصف من قبل الإيرانيين بصواريخ ليبية.

وفي ظل حنين حاد الألم للوطن، ومع الإفراج عن السجناء فيما يسمى بـ “أصبح الصبح”، بدأت فكرة العودة إلى البيت تلح عليه: “لم أسعَ إلى وساطة في العودة فحالما علمت أن أمر الرجوع ميسر بلا عوائق في تلك الفترة عدت مع أطفالي ومحبوبة إلى وطن تركته مُكرهاً وعدت له طوعاً” وهي العودة التي يضعها تحت عنوان فرعي “العودة المحزنة إلى الوطن”، ليبدأ العمل في مكتبه السابق في مجال الاستشارات القانونية، لكن الشبهة ظلت تلاحقه.

بعد عامين تقريبا من إطلاق سراح السجناء، وفي يوم 13 أبريل 1990، اعتُقل عتيقة من جديد، لتبدأ رحلة السجن الثانية المليئة بالألم والعذاب كما يصفها، والتي عايش خلالها أحداث مجزرة بوسليم الشهيرة وتنفيذ الإعدام في جماعة بن وليد، ليروي الكثير من التفاصيل داخل سجن بوسليم الوحشي، حتى تم الإفراج عنه عام 1997 ليستأنف عمله بمكتب المحاماة بعد أن سُمح من جديد بنشاط المحاماة الخاصة.

“كيف عرفتُ سيف الإسلام”. تحت هذا العنوان يرصد عتيقة تعرفه على سيف الإسلام الذي طلب استشارته عندما كان يفكر في إنشاء مؤسسة خيرية على غرار مؤسسة “زايد الخيرية”، والتي انبثقت عنها جمعية حقوق الإنسان، واستطاع أن يحيل اهتمام هذه المؤسسة من استعراضاتها الدولية صوب الاهتمام بالملفات الحقوقية الداخلية، كوضعية السجون الرهيبة وما يعانيه السجناء في ليبيا من ظروف لا إنسانية.

وهو الجهد الذي تمخض عنه إطلاق دفعات كبيرة من السجناء على رأسهم أقدم سجين سياسي: أحمد الزبير، ليترك هذه الجمعية يوم 20 ـ 3 ـ 2007 وهو “يشعر بالرضا عما قدمه” كما يقول. وتحت عنوان: “كيف عرفت العقيد القذافي قبل 1969” يكتب حول انطباعه عن شخصية القذافي وتقييمه لها عندما كان يتردد على شقة صديقه مفتاح كعيبة الذي كان عتيقة يشاركه السكن بها في ميدان البلدية ببنغازي.

بعد تَرْكِه العمل بالجمعية، انتبذ مكانا قصياً، وانصرفت اهتماماته إلى نشاط نقابة المحامين ورابطة الأدباء والكُتّاب الليبيين، حتى عادت خيوط مؤامرة جديدة عبر النائب العام محمد المصراتي، ورئيس جهاز الأمن الخارجي موسى كوسه، عبر تلفيق تهمة جديدة “متهم بجريمة قتل والانضمام إلى تنظيم محظور”، ليُفرج عنه يوم 17 فبراير عام 2009 قبل انطلاق الثورة التي أفرجت عن ليبيا بأكملها بعامين كاملين.

في الفصل السادس “على هامش السيرة.. شذرات وطرائف” يسرد الكاتب العديد من الوقائع الهامة في سياق اقتصاره في كتابة مذكراته على محطات السجن والمنفى، مثل لقائه العاصف مع المقريف والمرحوم أحمد حواس بالرباط، ولقائه بالليبيين الأفغان داخل السجن، وعمر المحيشي قبل جريمة تسليمه للنظام الليبي السابق، وغير ذلك من الوقائع الهامة.

تميز الكتاب بلغته السردية السلسة وتحليله لكثير من الوقائع بروح القانوني حيناً وبروح الشاعر أحياناً، وكان الخيط الذي تمسك به الكاتب عبر مراحل السجن والمنفى هو العشق للوطن وروح المشاكسة السياسية والقانونية التي لا تتوقف، والتي تظهر في كتابه الملحق بعنوان “أوراق ليبية” صدر عن منشورات حركة الكفاح الوطني الليبي عام 1987 تحت اسم أبوغسان، وهي كما يقول “أوراق تناثرت على امتداد مساحة الغربة كُتبت بمداد القلب وحبر المعاناة وعناء طافح بالشوق” نُشرت في مجلة الطليعة العربية الصادرة في باريس، وفي بعض مجلات المعارضة الليبية.

إن كتابة مثل هذه السِّيَر مهمة، ليس فقط لتوثيق مرحلة هامة من تاريخنا تم التعتيم عليها أو تزييفها، ولكن من أجل أن تعرف الأجيال تفاصيل جحيم كان يقدمه الإعلام الثورجي كجنة فوق الأرض، ولكي نفكر ماذا علينا أن نفعل حتى لا نقع بين براثن حكم استبدادي آخر، لأن الطغيان الذي يعد الناس بالجنة قد يأتي بأشكال مختلفة.

وأن الفاشية قد تعود في أكثر الأشكال براءة. وكنت دائما ألح على ضحايا وشهود هذه الحقبة أن يدونوا ما حدث، لأسباب، لعل أقلها محاولة إعادة تأهيل غوغاء بدأ الحنين المَرَضي يداعبها إلى هذه الحقبة المعتمة، فثمة دول أو مجتمعات أقامت متاحف لفترات معتمة، من الاستبداد أو الإبادة أو الجرائم ضد الإنسانية، يزورها الملايين سنويا من أجل التذكير بجرائم يجب أن لا يتاح لها أن تعود من جديد لتُلوث الحلم الإنساني بالخلاص.

هذه المقالة لذكرى آخر لقاء جمعني بالصديق د. جمعة عتيقة في تونس في ندوة حول الهوية الليبية، اختلفنا خلالها بحدة، ثم سهرنا إلى الفجر نتحدث عن أحلامنا بليبيا التي لا يفسد الاختلاف حيالها لحبنا لها قضية.


بوابة الوسط | الثلاثاء 07 فبراير 2023

مقالات ذات علاقة

ليبيا أرض الإبداع

ناصر سالم المقرحي

رواية ليلي نجمة

يونس شعبان الفنادي

بشير الرابطي.. ذاكرة وطن ومواقف الابطال

المشرف العام

اترك تعليق