كتاب “عشر سنوات في بلاط طرابلس ” هو في مجمله عبارة عن رسائل كتبتها مس توللى شقيقة المستر ريتشارد توللي، القنصل البريطاني في ليبيا، طيلة عشرة سنوات أقامتها في طرابلس من سنة 1783 الى سنة1793، وفي عام 1816م نُشِرَت الرسائل في كتاب تحت عنوان “قصة عشر سنوات من الإقامة في طرابلس أفريقيا” وبين يدينا للقراءة والعرض نسخة الكتاب الصادرة عن دار الفرجاني التي قام بترجمتها المترجم عمر الديراوي أبو حجلة.
الكتاب وثيقة تاريخية عن مرحلة مهمة من مراحل حكم الاسرة القرملنلية في ليبيا وبالإضافة لذلك ،هو وثيقة اجتماعية عن طريقة حياة الباشوات وأهل الحكم بالقلعة بأسلوب أدبى وسرد قصصي جميل، فالكاتبة لا تغفل أي تفصيل من تفاصيل الحياة الاجتماعية بالقلعة بدون أن تذكرها ،ولديها قدرة سردية بارعة في التقاط تفاصيل الملابس التي يرتديها الباشوات والاميرات وعموم الناس، داخل مدينة طرابلس بالإضافة إلى تفاصيل الأثاث والفرش والارائك والأواني المنزلية المطهمة بالذهب والفضة بالقلعة.
حس السرد الروائي عالي في كتابة الرسائل، التي تظهر على هيئة مخاطبة الكاتبة لصديقتها التي تحدثها في رسائلها طيلة عشرة سنوات عن أحداث القلعة الكبيرة والصغيرة وما تحويه داخلها من غرف واجنحة واثاث وجياد وكل ما يخص الباشوات والأميرات وقصص الحب والغدر والخديعة وحتى القتل بين الأخوة الأشقاء.
وصف برقة
في مراسلاتها تصف مس توللى إقليم برقة جغرافيا فتقول:
تقترب الصحراء من طرابلس وتمتد اليها ولازالت تحمل اسم برقة وهو الاسم الذى اطلقه الرومان علي سكان برقة لبسالتهم وضراوتهم في القتال في تلك الفترة التاريخية وصحراء برقة خالية من السكان الحضر وإنما يقطنها البدو الرحل من الإعراب
البدو الرحل
تتحدث الكاتبة عن البدو الرحل المحيطين بمدينة طرابلس وتصف حياتهم وتجارتهم في طرابلس بالقول: يقترب البدو في فصل الربيع ،من طرابلس قادمين عن طريق السهل المجاور للمدينة حيث يزرعون الذرة، وينتظرون حتى وقت حصادها ثم يختفون ويعودون السنة القادمة وخلال اقامتهم في السهل تنهمك النساء في الحياكة والنسيج وبيع أعمال أيديهن إلى الطرابلسيين ،يقيمون خيامهم تحت أسوار المدينة لكن لا يستطيعون الدخول من باب المدينة دون استئذان رخصة وعند ارتكاب البدو أي عمل يخل بالنظام ويسئ إلى السلوك فأن رئيسهم يستدعى للاستجواب أمام الباشا.
وباء الطاعون الذي اجتاح طرابلس في عام 1885
تصف الكاتبة مرض الطاعون الذي اجتاح مدينة طرابلس في شهر مايو 1885:
قضى الطاعون الآن على سكان هذه البلاد، وأخلاها فكان أقسى عليها من وباء الطاعون الذى اصاب القسنطينة منذ قرون خلت، وظهر في نتيجة البرهان الإحصائي أنه أهلك ضعف النسبة لعدد أولئك الذين، ماتوا من نفس الوباء أخيرا في تونس حيث كانت تحمل جثة خمسمائة شخص، كل يوم منها وتجاوز اليوم عدد الموتى المائتين بطرابلس ثم تذكر إحصائية عدد سكان مدينة طرابلس التي كانت يبلغ عدد سكانها 14,000.
وتتحدث المؤلفة عن علاقة أهل البلاد، أو من تطلق عليهم البربر بالنصارى وهو لفظ تطلقه على الجالية الأوربية بالمدينة، فتصفها بكثير من الأعجاب بخصالهم ومرؤتهم في التعامل مع مرضى الطاعون من النصارى، حيث يقوم أفراد من البربر بتسليم المؤن إلى النصارى الذين طلبوها ،ويقوم البربر بأعمال الرحمة والإحسان في الوقت الحاضر التي إذا رافقتها مثل تلك الظروف المرعبة فمن النادر جدا أن يقوم بها أحد في معظم أجزاء العالم النصراني ص184.
وتسهب الكاتبة في رسائلها بالحديث ،عن مرض الطاعون وتصف هوله ورعبه الذي جثم على المدينة وكانت ضحاياه عائلات بكاملها، فنيت ولم يبق فرد منها يرث أموالها فتم استئثار الباشا به وتوزيع ما تبقى منه على الأوقاف.
وتذكر مس توللى في مراسلاتها، بأن مرض الطاعون أودى بحياة أربعة آلاف شخص خلال شهرين وتصف مس توللى مشهد موت الرجال والنساء وطقوس العزاء لأهل بيت المتوفى حال وفاته والتي تبدا بالعويل والنحيب ،مع ترديد العويل والصراخ بين الاقرباء وأهل البيت من مسافة بعيدة، يدعو كل امرأة من الاقرباء والأصدقاء فيجتمعن في منزل الاسرة يصرخن ويندبن وتصف مس تولى بذهول مشهد الأم الثكلى أو الزوجة الارملة وهى بين الحياة والموت ألما وأسى على فقيدها مضطرة وفقا لتقاليد بلدها ان تستقبل القادمات، من المعزيات اللواتي لا يقل عددهن عن مائة جئن يشاطرنها حزنها فيندبن وتأخذ ،كل واحدة منهن الأرملة البائسة او الأم الثكلى إلى ذراعيها وتضع رأسها على كتفها فتصرخ حتى تخور قواها وترتجف قدماها وتسقط فاقدة الشعور بين يديها على الارض195.
وتذكر المؤلفة بأن الأسرة تقوم بتأجير نادبات وقوالات اللواتي يقمن بضجة مفزعة حول النعش الموضوع في وسط الحوش.
تمرد بنغازي على أوامر الباشا
تذكر مس توللى بأن هناك سفينة قادمة، من قسطنطينية إلى بنغازي رفض الباشا استقبالها خوفا من الطاعون ولكن أهالي بنغازي، كانوا في هياج عنيف وأصروا على تفريغ شحنة السفينة من البضائع ولم يخضعوا للأوامر، الصادرة إليهم فانسحب بك بنغازي إلى قلعته وأغلق أبوابها ليفر من عدوى الإصابة، بوباء الطاعون وترك أهل بنغازي وشأنهم لأنه لم تكن لديه قوات عسكرية، كافية تدعم سلطته وعندما وصلت نفس السفين إلى ميناء طرابلس أصر الباشا على وجوب مغادرتها ص152.
وهذه الحادثة التي ذكرتها مس توللى، عن رفض تنفيذ أوامر الباشا من أهل بنغازي تعطى ملمح عن حس الاستقلالية والرفض لدى أهل بنغازي منذ قرون.
مقتل البك حسن على يد أخيه يوسف
تروى مس توللى تفاصيل مقتل البك حسن والى طرابلس على يد أخيه الأمير يوسف الذى كان يعد العدة لذلك منذ زمن ،وبيت النية على قتل أخيه كي يستولى على حكم طرابلس ونجح في تنفيذ خطته في يوم 2 أغسطس 1790م.
كان الامير يوسف يرى في نفسه الأحقية في حكم طرابلس والبلاد ويرى بأن وجود أخيه البيك حسن ، عثرة في طريقه فدبر مكيدة واوهم والدته بأنه قادم للمصالحة مع أخيه وطلب من والدته استدعاء أخيه البيك كي يتصالح معه وعندما حظر أخيه وجلس معه أدعى مصالحته ثم نهض من مقعده ودعا خدمه لتقديم القرآن الكريم وبداخله المسدس وأطلق النار على أخيه الجالس بجانب والدته وأرداه قتيلا ثم فر من القصر وقتل في طريق هروبه الكيخيا ،واستمر الأمير يوسف هاربا من القلعة إلى أن التقاه أخيه البيك أحمد وتصالحا واعترف بأخيه كبيك على طرابلس خلفا لأخيه الأكبر المقتول البيك حسن.
حملة الباشا لإخضاع مدينة مصراتة
في تشرين الثاني من عام 1790 قام البك والأمير يوسف بتجريد حملة على مصراتة وأنظم اليه مجموعة من القبائل بعد ان منحوا، شيوخ عشائرهم مبلغ من المال نظير مشاركتهم لهم في الحملة العسكرية ضد مصراتة، لأنها رفضت الاعتراف بقيادة البك أحمد لولاية طرابلس بعد مقتل أخيه البك حسن ،إلا إذا جاء هو نفسه إلى مصراتة أو أي شخص اخر يختاره عدا عن الباشا يوسف بسبب الفظائع التي ارتكبها رجاله بمصراتة حين زاروها في مرة سابقة.
ونتيجة لذلك خرج البك على رأس قوة كبيرة ، لتأديب أهلها بمساندة البدو وتذكر المؤلفة في رسالتها بأن “سيف النصر” شيخ كبرى القبائل البدوية كاتب الباشا بأنه لن يسمح بالإساءة إلى أهل مصراتة ،وأنه سينحاز إلى جانبهم إذا ما توجهت قوة كبيرة ضدهم وهاجم المصراتيين ، الأميرين البك أحمد والى طرابلس وأخيه الباشا يوسف بأعداد ضخمة بالقرب من مصراتة، وقاتل الأميرين ومعهم الشيخ عليف المصراتيين وجموع سيف النصر وقتل ولده وبعث برأسه ليعلق فوق أسوار قلعة طرابلس وانتصر البيك أحمد واخيه يوسف على المصراتيين والحقا بمدينة مصراتة أضرار كثيرة.
عودة الخلاف على الحكم بين الشقيقين
تذكر مس توللى في إحدى رسائلها، بأن الخلاف نشب مجددا بين البك أحمد وإلى طرابلس وأخيه الباشا يوسف ،وذلك حين عرض الباشا يوسف على أخيه البك أحمد ان يساعده في عزل والدهما ،من حكم البلاد ويستولى البك أحمد والى طرابلس على العرش فيما يتولى هو حكم طرابلس ولكن البك أحمد رفض المؤامرة التي طرحها أخوه عليه فخاصمه أخيه يوسف وغادر إلى أحد قصوره بمنطقة المنشية وأصبح يطوف بين شيوخ القبائل طارحا عليهم مساعدته، في اغتصاب العرش من والده واعدا لهم بالمنح والعطايا إذا وقفوا بجانبه ثم ذهب للجبل ليجيش أيضا رجال ضد والده.
زحف الأمير يوسف على طرابلس
في شهر يونيو من عام 1791زحف الأمير يوسف، على طرابلس في ثلاثمائة رجل وأصدر الباشا اوامره بالتصدي للأمير يوسف ،وقواته وأرسل إلى حكام المنشية يطلب إليهم القدوم برجالهم للدفاع عن المدينة ولكن الباشا يوسف هددهم بأنه سيقتل عائلاتهم ويحرق بساتينهم إذا تحركوا من مكانهم.
وراسل الباشا المصراتيين فحضر بعضهم لنصرة البك، ونادى شيوخ البلد أهل طرابلس للدفاع عن مدينتهم وأغلقت القنصليات، أبوابها وحمل الناس أسلحتهم في الأسواق والشوارع للدفاع عن أنفسهم، وأرسل الباشا قوات إلى قرى المنشية كي تصد قوات الباشا يوسف التي تقدمت بعد ذلك، وهاجمت المدينة واطلقت مدافعها عليها فتم الرد عليها بأطلاق، ما يربو عن ثلاثة الاف طلقة وتصف مس توللى المدافع بقولها بأنها لم تكن على عجلات بل كان يجرها العبيد ولم يطل حصار المدينة من الأمير يوسف فلقد انسحب مع رجاله ،في أخر اليوم واتجهوا الى المنشية وجاب يوسف مناطق البدو ينشد عونهم فصدوه ،وأسيء استقباله في قبائل “بنى وليد” و “اهل ترهونة” و”مسلاتة”.
ونتيجة الفشل في اقتحام طرابلس، مضى الأمير يوسف الى الجبال ثم بعث رسل إلى والده الباشا عارضا عليه الوصول إلى اتفاق وفشلت المفاوضات بينهما وبعد فترة استطاع الأمير يوسف اقناع عرب ترهونة بالانضمام إليه وقبيلتهم من أكبر القبائل حيث أعدت ثلاثة الاف بندقية مع 500 فارس، وتضيف مس توللى في رسالتها بان أهل مسلاتة أيضا اعلنوا نصرة الأمير يوسف الذى اعاد الهجوم على مدينة طرابلس حيث استولى على مساحات كبيرة من ضواحي طرابلس علاوة على سطرته التامة عل منطقة المنشية مما دفع الباشا لأن يبعث بقوة كبيرة من عساكره إلى المنشية واستطاعوا طرد الامير يوسف منها.
محاولة الباشا طلب المعونة من بنغازي
وتذكر مس توللى في رسائلها بأن الامير يوسف، لم يرضخ لمحاولات والده اثناؤه عن محاصرة المدينة ومهاجمتها ،وفاوضه أكثر من مرة للصلح والعودة للسرايا ولكنه رفض وضل يحاصر المدينة، مما اضطر والده الباشا بعد رفض البدو من المناطق المجاورة للدفاع عن طرابلس، أن يرسل قوارب تأتى بالرجال من بنغازي لكن الخبر وصل للأمير يوسف ،فبعث رجالا إلى تاجوراء وطردوا القوارب واطلقوا النار على رجالها.
بعد فترة استطاع بك بنغازي، وهو زوج ابنة الباشا والى البلاد إلى طرابلس ومعه ثروة ضخمة من الأموال والقمح والشعير وكان ما جلبه يكفى لإطعام من هم تحت السلاح من البدو والمحاربين الموجودين داخل القلعة.
وتذكر مس توللى في رسائلها بأن محاصرة الأمير يوسف للمدينة استمرت قرابة عامين وكانت الحرب تهدأ أحيانا، ثم تقوم مرة أخرى وظلت قذائفه تمطر المدينة من حين إلى أخر مع صد قوى من قوات الباشا ،وتكتب مس توللى في رسائلها بأن يوسف نجح بعد مدة في تقريب مدافعه إلى مدى يجعل قذائفها تصيب كلا من القلعة والميناء.
دخول على بن زول إلى طرابلس
تذكر مس توللى بأنه في يوم 29يوليو من عام 1793 وهم يتجهزون للخروج من طرابلس هربا من الحصار والحرب التي يقودها الأمير يوسف باشا عليها رأوا أسطول من المراكب التركية ترسو في الميناء، وسرعان ما وصل الخبر بأن رجلا تركيا اسمه على بن زول كان على ظهر ، أحد تلك المراكب ومعه فرمان من السلطان العثماني يأمر بعزل الباشا وتوليته مكانه على العرش ودخل الاتراك للمدينة وتم ترحيل عائلة القرمانلى واستبدلت ،جميع الرايات العربية بأخرى تركية ورفع الهلال القرمزي ذو الهلال وسطه في كل مكان بالمدينة ،وفيما رحل الباشا وابنه البك أحمد وعائلاتهم إلى تونس استمر الامير يوسف، في محاصرة المديمة حتى بعد دخول الباشا التركي وعلى الرغم من القذائف الكثيرة التي يقذفها الاتراك من داخل أسوار القلعة إلا أن المحاصرين نجحوا في التضييق على الاتراك وقطع الأغذية والمؤن عنهم وبلغ حيش يوسف عشرة الاف شخص اغلبهم من قبائل المدن المحيطة بطرابلس.
وتذكر مس توللى في أخر رسائلها بالكتاب، بأن أحد شيوخ القبائل أخبرها قبل ان تخرج من طرابلس بأن الباشا والبك والأمير يوسف موجودون في أحد البساتين المحيطة بطرابلس ولقد تخالفوا مع البدو والمغاربة، واتفقوا على أن يجردوا التركي من كل خبرات المنشية ولكنهم تراجعوا إلى تونس، لإقناع التونسيين بالوقوف معهم في قضيتهم وخاصة ان الفظائع التي ارتكبها ،على بن زول قد بلغت السلطان وعلم بأنه نصب نفسه باشا دون فرمان رسمي منه، فبعث لحكام الايالات الإفريقية يأمرهم بالحرب ضد الباشا المزيف الذى اغتصب طرابلس بالتدليس واستعدت تونس لأرسال 10 الاف رجل مسلح بقيادة البك احمد والأمير يوسف لطرد على بن زول من طرابلس وفعلا عاد البك احمد والامير يوسف ،من تونس بقوات كبيرة الى طرابلس وطردوا الغاصب التركي منها ،ولكن ما ان تم طرد الغاصب على بن زول وخضعت البلاد للعائلة القرمانلية مجددا ،حتى نفذ الأمير يوسف مشروعا بإقصاء أخيه البك أحمد من ولاية طرابلس وعن حقه في العرش ،حيث قام بأغلاق البوابات في وجه أخيه البك احمد والى طرابلس ،وطلب منه أن يتوجه إلى درنة حيث يمكنه أن يكون بيك على تلك المدينة، اما إذا رفض فسيقتله أمام اسوار المدينة وتوجه بيك ووالى طرابلس وولى العهد إلى مدينة درنة، وترك أخيه ليتولى حكم طرابلس والعرش وبذلك نال الأمير يوسف بالخديعة مالم يناله بالحرب وتولى عرش إيالة طرابلس كما تذكر المؤلفة مس توللى في نهاية كتابها ورسائلها الرائعة التي سردت فيها بالتفصيل تاريخ حقبة عقد كامل من الحياة الاجتماعية والسياسية في طرابلس خلال عقد كامل من أواخر القرن الثامن عشر.
عشر سنوات في بلاط طرابلس المؤلفة ريتشاردو توللى _ ترجمة عمر الديراوى أبوحجلة _ الناشر دار الفرجانى