قصة

مرايا السحائب (1)

من اعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني
من أعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني

هذه مرآة من مرايا سحائب أخرى ستأتي لاحقاَ عددها في علم الغيم، ليست بقصص وإنّما كلمات تطلع في كروم من العبارات المعلقة على شرفات مدينة كانت نصف مسحورة اعتلت وجه القمر وعبر عناقيدها ترى ما لا يراه الا القلب وبنصفها الآخر كانت تصبو الى الضوء. كانت مفاتنها بساتين معلقة في ساحة الأفق في ثياب من حرير المسك وفي صدرها رواق مفتوح على النجوم ونافذة المطر. وفي احدى المرات ازدانت بالذبول وشرعت السحائب ترسل لها هوج الرياح القادمة من اقاصي البحار وعسف الزمان.


1- حقيقٌة يُهام عليها

البحر ليل ٌليلكي مستلق تحت اثير امواج حُبلى بجذوة الشتاء المفتوحة للسماء. والمدينة تتأهب للنسيان والتذكركسراج تقتاده شهوات جمر مطرود بين كثبان السكون وضوضاء الغرغرة. زمجرة الريح العابرة بين الأمواج تسقط من قبضة السواحل فوق سطح المدينة وتنثر على شرفات البيوت رذاذاَ من غبار النسيم. متاهةُ لجةٍ من اليمّ يجرفها خمر الظلام من دروب العواصف، يبعثرها النعاس باجنحته المتشحة بالضباب على السلالم المعدنية المعلقة باحد ضفاف الوادي وعلى منائر ابواب ليل يهرب في عينيه ظمأ المغيب الثاوي على الشرفات. الغيوم منكفئة على عباءة رمادية تحترق بضوء برتقالي ينهش الوادي وكروم السفح، ويتبتل أمام التين والرمان ويقتطف نفح الريحان من شفة موشومة بالرعد.  تدخل الأمواج -الآن- في نوبة بريّة تنؤ بالرياح وتجتاز الشطآن والصخور، امواجٌ قادمة من غمام المنافي تتأجج بفوضى السحائب. فما الذي فطر النجوم على أن تدمدم من وراء حدود صمت الأشباح المسافرة لينابيع الماء الكاسر. وما الذي يسوق الغمام من فضاءات المجهول لتوقد رغبات الوادي لإشتهاء رحيق الثمر من كل غصن شجرة تحدق في ظلالها القرمزية ومن كلّ ليمونة من ليمون بساتين تعشق البرق المبثوث فيها وتستلهم منه جنون العشق. وما الذي يوقض في الدجى غدران غيم في عيون النوافير العطشى  ومن ذا الذي يصلب هودج الملح العابرمن صحاري القيظ في لهاث الموج بحثاَ في الأراجيح المنكسرة عن رغوة السيول المسجونة بين النرجس والطين، و من يلقي بالغيم الكثيف على نافذة حوش نشوانةٍ يفيض منها رنين عرس في مفرق حقل يفور بالسواقي المتعانقة وعلى باب دارٍ مع السحائب يمضي – وقد ازداد كثافةً- الى آخر الأفق عند اقتراب قافلة المطرمن عتبات البيوت الممتدة فوق جسر الشتاء فتهيج برائحة اعراس الصبايا الفاتنات ورجفة ستائر أزهار الشفشي المتزينة للغيم  في اعالي النوافذ. السماء تظهر عند نهاية الأفق والريح تتماوج بالرماد.

من خلف اسوار السماء ومن خلف شراشف الريح الرمادية يزداد ماء البحر فوارناً وارتفاعاً وغضباً والبرد الخفيف يتدلى ليهبط على شوارع وازقة المدينة المسجية بباب الشتاء. الليل يرتعش والسائحب عائمة في عقم المرايا تسترق السمع الى تنهّدات ملتهبة بلهف الشغف الى خمر الكروم في ثغر النبيذ.

نزلت “سنية” من حوش ابيها وبراءة كلّ طفل شقي تسري في عينيها، نزلت تتموج في مراعي الأصيل، تمرّ ببستان مخضرّ ملىء بالعرائش الأندلسية واشجار الليمون والخوخ، يتسلل الى البستان عبير جدائلها، يسكر البستان وتبرق في جوفه دمعة خمرٍ، تتمايل قامة اشجار الليمون “الشفشي” الوقورة مع الشهقة الأولى وتسكر.

في مرايا السحائب وقبل أن تنزل”سنية” من الحوش رأت أنّها جميلة وفاتنة ومن عينيها يشع برق أنثوي، تأملت شعرها المنهمر على كتفيها، ابتسم لها ثغرها الجميل وتنهد صدرها وقد استوى نضجاً، تتسع ابتسامتها ثم تدور حول نفسها ،انسحبت كنسمة خضراء منثوث فوق شعرها عطر الربيع،  نزلت من حوش ينزوي مطمئناًعلى ضفة الوادي الشرقية مع بقية “الحواشين” في سرادق بلا سقف.

تنزل كعادتها كلّ يوم خميس، يطرب الخميس بها وبعد الخميس يطرب لها الخميس ايضاً، تسير على الضفة في احتفال سحري، تلفها برودة الغروب الشاردة وهي تسري في غسقٍ انطفأت بيارقه الحمراء ويحتنق برذاذ الغيوم ،يزهو السنا المضىء في صدرها بالمهج وندى الإشراق ، تخطو وقد اغتسلت أقراط البيوت المعلقة في الضفة الشرقية بعطرها، تصعد السلالم المعدنية البنية المتشبثة بقوس جسر الضفتين عند مرفأ جدار اعالي الغصون التي تبوح بعبير الورد العذب لجسد الليل والصبايا العاشقات . تحوك الغيوم المطيرة، وهي تغسل اجفان الوادي، للجسرالحالم بليل الريح والمطر جنائزاً تهاجر من رماد السحائب الى قيعان الضفتين وتتساءل بأيّة شهد سترتوي.

تنساب “سنية” من فوق القوس المخملي والهواء المفتون يتلاعب بشعرها وينشر شراعه على راحتيها ليسقي منهما زهرة الرمان واشجار الليمون والتين واللوز وقوافل السّمان المتعبة العائدة الى اوكارها من الفيافي الموحشة، بينما غروب المدينة يتغلغل في فضاء الأزقة الصامت بحثاً عن صبية في ثياب الشذى.

تضج “مسطبة الوادي” المنتشية بظمأ الحقول وعطش البحاركلّما تظهر “سنية” فوق الجسر. بدت المسطبة مرحة منتعشة كأنها تتناول قهوة العصرية من يديها العبيرتين. رواد المسطبة يتلفّعون في دائرة لهب جداول عينيها الرقراقة، يهزّهم عنف القمر المتوهج الباسم فوق جبينها، يتسابقون فوق شوك بساط قصائد مترعة بازجال مرنّحة في عيون الأفاعي للظفر ببسمة من وجنتيها. تنتظرها “المسطبة” الظمآنة كل خميس، تجذبها رائحة نسيمها البرية وابتسامتها اللذيذة ومشيتها الرشيقة، يشع في عيون الرواد الراصدين لجسدها النازف جمراً يهتري رماداً تحت قدميها المسرعتين. اعتادت المسطبة على رؤيتها بين العصر والمغرب، وبين القوافل والقصائد، وبين الغيم والليل. تحصارها العيون المرتعشة في الق يسبح على دفاتر من عبارات ذابلة كالتّراب. يشرئب صدر ” سنية” وتمضي كحورية برية وعلى شفتها السفلى رعشة صامتة. كانت تبتسم في هدوء كأثير نغمةٍ في شجن صوت “اسمهان” المنزل من السماء وتمشي كقطا البطاح في قوام رائع السبك.

تغرد صامتة لروح “سنية” طيور بساتين القوس السابحة في العبق الفاتن، تبتسم “سنية” دون أن تلتفت، عيناها على الطريق وعلى نوافذ الغيوم وعلى براءة غبطة الصبيات العابرات وعلى سمات المارة، وعلى قليلٍ من البحارة “الرقريق” حفاة الأقدام القادمين من مخبز “فراري” محملين بالخبز والأشياء الأخرى، متمهلين في خطوهم، يبتسمون لها، يرطنون معها بلغتهم اليونانية، يغمزون لها فتولي بوجهها الى عربات “حناتير” خيول متعبة مصطفة على مقربة من المخبز وفي قلبها قمر أحمر يغني بلغة البحر. تمشي فاتنةً والريح تداعبها في رقةٍ إلى سوق المدينة، تشملها نشوى مفاجئة، يغيرمن اختيالها وهي مبتسمة أعتى طواويس الممالك، يتموج شعرها القصطلي الشّجي المنسرح على كتفيها ويتطاير مع الريح الغجرية المنتشية بعبير ضفائرها المتمردة، فستانها الفضفاض الخفيف يتطاير الى ركبتيها، تكشف الريح اللعينة عن ساقيها القمحيتين البراقتين، تلملمه مسرعة بيديها، تختال في شارع “ابراهيم الأسطى عمر”، عيناها تتأملان الغيوم الثقيلة المسرعة، سحابة غجرية مطلية بالرماد ترسم لها بيتاَ من نبؤة السحائب، للجدران المبتلة رائحة شتوية تسري في الأزقة، تمرّ الآن “سنية” بمقهى “الهنيد”، يتقد المقهى باقراط الذهول وينتشي باحتساء قهوته المغمورة بماء الزهر، ومن أجل عينيها الغزالية تنزف عناقيد عرائش زنقة “صوان” اشهى نبيذٍ وتلامس شفتيها حبات مطرٍ اشقاه الظمأ فلثم خديها فزداد جنوناً.

تمد مسرعة في خطوها صوب السوق، تدخل “سوق الظلام”، تتطلع اليها شاهقة كلّ البراكين النائمة، تتبعها بعض العيون الذئبية، تحدج المارة والعابرين بنظرة جرئية متحدية والغيم فوق السطوح يرتجف وينحني خلف اضواء مصابيح المزن، المدينة تتوغل في غابات الشتاء. تخطو مرفوعة الرأس، تزهو في اختيال، تمتشق عنق السماء كأنها مليكة زمانٍ مسحور، نجمةً تضيء في ظلام السوق المنغمر في الفلوات النائية وتنثر فيه اطياف بهية، أما القمر المتوهج من خلف السحائب فيتحسس برموش عينيها عيون البرق وهو يودع في احضان غيمةٍ رفيفةٍ قبل الهوى روحه.

تعطف “سنية” وهي تمتليء شغفاَ على يمينها لتقتحم “البياصة الحمرا”، اثيرُ رشاش نافورة البياصة البلورية يبتهج فرحاَ لرؤيتها وينثر على وجنتيها الخمريتين وجيدها الوردي القمحي الشفاف اكسير الغيوم البريئة، تلتصق بها الغيوم ثملة وتوشوشها، “سنية” فتاة تغادر زمان الطفولة وتكسر بثغرها العذب نسيج السحائب وتدخل أجفان الأقمار فتملأها ببهاء عطور الليل.

يتناثر كلام العابرين من خلفها فتستعير من الصمت نوافذ الزروع، وتمضي سائرة على مهل وعينيها الواسعتين تلمعان وتسرقان خطى حقول العشق وتبني اقماراً في ضمير الزمان.

عيون شبابيك البياصة مورقة تطل على اسراب الشتاء وتصغي لعصافير تغني للنرجس الذي يستقي من معصمي “سنية” شراب الورد. قبل أن تمرق من البياصة وقفت على عربة بسبوسة “سي عمران”، اشترت قطعتين. شفتان خمريتان رفيعتان تقضمان البسبوسة بشغف وبرعشة مبللة بالعطش بينماالعسل من شهد ثغرها رقّ منتشياً يلثم شفتها السفلى المرتعشة بشغفٍ حتى اضحى ثملاَ.

صخبُ مقهى “سي الهرش” من تحت الأقواس الأندلسية يستهويها، يجذبها ضجيج سكون هذا المقهى القابع في “البياصة”، وتطرب لضوضاء زبائنه التي تجتاح جسارتها البرئية النبيذ المعتق في عزّ الفجر. ترسم نرجلية تركية مزدانة بجنة الشّذى في الأفق بدراَ على بستان البرتقال، تدخل “سنية” السوق مرة اخرى هذه المرة من كوة البياصة الأخرى. تتنقل في فستانها الخفيف المزهر كفراشة تسبح في همهمات عيون الغسق الفضي، تختال في مرح في اروقة السوق بينما “سي سعد” بائع العطور والتوابل المترنح تحت شنته المغموسة في دم الغزال يتبعها مبتهجاَ وفي عينيه الزّائغتين المتورمتين ترعش أسراب عصافير النجوم المشردة. في فراغ الفضاء تمتم بابتهال السكارى: “يا ارض احفظي ما عليك”، احساسٌ بالأمان جعل “سنية” تبتسم ابتسامة واسعة انزرعت في قلوب الناس. رأته واقفاً يبتسم لها ففاض قلبها بالمرح.

كان “اسماعيل” يحدجها، واقفاَ في الركن الآخر عند باب سوق “الخضرة”، ينتظرها منذ العصر مستغرقاَ في لهيب الإنتظار. شاهدته فابتسمت له لترى الدنيا اسنانها البيضاء النضيدة، تعرف أنّه سيتبعها بعد أن تلألأ من فمها صدف منضد يجر الموج نحوها جراَ ليسبح تحت قدميها. تبعها كما عرفت، يتسلل خلفها في ممرالسوق وسط الزحام ، يبتسم بفرح طفولي وهو يتنفس عطرها، دخلت زقاق العتيق وظلّ يتبعها، ارتشف الزقاق من ريف عينيها الظليل كأس نبيذ دمي، رائحة قهوة “الماجري” العبقة تمد يدها لتغزو الزقاق وتجتاح قرنفل جنان “بن طاهر”. تقترب”سنية” من ضريح “سي الوشيش”، تهم باعتلاء الدرج، تصعد لتستعير من شارع الوادي جسراَ، تنزل فتتهادى من سلالم درج الوادي و”اسماعيل” في اثرها كطائر سُرق قلبه قادماَ من حقول الغزلان والأمطار الملأى بالبروق، قادماَ مع المساء العاصف في اواني سحائب فضية. ينزلان وفي احدى اركان الوادي يحلمان ويتهمسان. السّحائب تتسابق في امتداد الفضاء، وفي عينيهما تتبرعم وردة تحمل الربيع الى شطآن البرزخ وغيمات الأوراق الراعشة تطارد جدائل الموج وتحلم بافق مغسول بالضوء. قطرات مطر متمردة تمد ذراعيها تسائل عن عطرٍ من يدي “سنية”، وكلّ ضفة من ضفتي الوادي تحن إلى الأخرى من وراء الجدران العتيقة والرياح المكتنزة بمرجان الشفق المفتوح كجرح الخوخ النازف تتدفق في حضرة الصخر والعشب.

عاشقان يغمسهما جمر الزعفران بين الشّواطىء وحضن الأعشاب بينما تجلو السّحائب مفاتنها فوق جسر الوادي وتوشي باسماء النخيل للسفن والرمل ونسل المرايا.عيناها تتأملان غيمة حملتها رياح السحائب انحسرت على قباب القوس وغيوم اخرى تحوم على صدور النوافذ المقفلة وسحابة مطلية بالرماد على شجار دائم مع شعر” اسماعيل”. بدأت السماء تندف و”سنية” تدرك بحسها الفطري إنّ لهذي المدينة جنون السحائب وغدر الرياح. تقف في رهافة، يبتل فستانها الخفيف بقطر المطر، يتأمل الوادي شعرها المنغمر بالماء والغيم يدخل في عتمة الغروب. اشجار السرو على ضفاف الوادي تتمائل بحزام من اغصان متعانقة تتأهب لقدوم الوادي، تتذكر بقية الأشجار دفق الماء المرتعش في الصخور والتراب في جوف سيل متقلب المزاج ينبىء عن ومض قناديل مطفئة ترقص فوق الجسر.

هرعت فوق الدرج وهي تقترب منه لاهثة، وعدته بأن تلقاه في المرة القادمة في نفس المكان وفي نفس الساعة الخارجة عن الزمن. عادت مسرعة الى شارع الوادي والمطر يهطل هذه المرة بذهول وجنون، ورياح قادمة من هضاب الشمال تحمل اصوات الرعود وشرر شرور البرق تحمل معها طواحين الرّخ، تكسو البروق العطشى باشعتها الخاطفة عيون الشرفات الحالمة والنوافذ المقفلة، تخترق الزجاج وتغزل لكل غرفة شال من حرير النجوم المحترقة. تعدو “سنية” في سراديب أغوار “شبوب” متعجرفة هوجاء، تتوارى خلف ” النّو” الماكر ووخز الماء يطعنها موجة موجة، بعد ساعة مريرة فتحت لها اكمام الحوش ديارها، دخلت، يمتلىء رأسها بجنون الخوف وفوضى الغمام. من شدة هوجتها تسكر الأمطار، انتحر الضوء في افق الشبابيك المطلة على الوادي.

صدر “سنية” ينوء بالأرق، جنون المطر يلهو بالليل، بروق تومض بأضواء متوهجة في عصبية في لذعة الظلمات، تتعرى الأشجار من أوراقها، يحتشد الرعد في جيوش من الصخب، تبدو السماء الحالكة قريبة ترسم على الجدران قطعان من ذئاب رمادية تحمل انهاراً مظلمة من الماء. ينهال المطر شلالاً، يهطل صاخباً، يفور المزن في وجه النجوم المرهقة، منذ برهة بدأ سيل الوادي يجرجر اذياله هابطاً من الغيث البعيد ومن البراري النائية ويكتب على الضفتين اغرب الكلام ،تغني دفوفه بايقاعات انغامٍ نوافذها خرائب، يملأ السيل اقداح البلور المكسور بالرماد، والغمام المتكدس يغطي السطوح الغارقة في امواج المطر المسكون بالمزن الشاحب، تحفر الرياح اصواتاَ تعوي كما تعوي ذئاب الأحراش المظلمة.

مياه عابثة اطلقتها معاول السحائب تجلب معها الأشجار المتكسرة وحطام دياربيوتٍ تناثرت على ضفتي الوادي قد جرفها السيل ، ومع زوابع السيل العطشى تزف الصخور الهادرة معها جلمود صخرٍ هائل يتقافز يحمل سنابك الفتك، يمد اذرعه كي يهندس لفتك هوادج النوم. أكل العطش الشجرات المنيعة وارتوى من رؤى الموت . بعد منتصف الليل سدّ الجلمود الغاشم احدى عيون القوس وخدع النوم الناس، وملأت ايقاعات طبول الزوايا مواويل الزوابع المديدة احتفاء باسبوع الزوايا، بينما البيوت النائمة في واديها السحيق تبني عليها “الشّبوب” نسيج الغيوم الملتهبة. استفرد كابوس المطر بجسد الوادي. الماء المستطير لا يحايد الوادي إذا الوادي شاغب الماء، والماء لا يغفو ولا يداهن اذا تعرض طريقه جلمود أخرق يملأ الفراغ الأصم بتدفق الخواء.

قبل الفجر انحسرت- قليلاَ- مياه الوادي وغادر الغيم هامات البيوت ولم يمكث في سواقي المدينة إلا الظمأ ومن وراء الشاطىء الآخر كانت السحائب تبحث عن أرض المحال ما عدا سحابة شرعت تبحث في شباك الليل عن غرفة “سنية”. لم تبح السحابة بشيء وآثرت الصمت.

وقف عند الفجر فوق رصيف القوس ثابتاَ مثل تمثال عتيق من أدغال سديمية، شعر برجفة الرغبة في البكاء يتأمل بقايا انحسار الوادي واشلاء البيوت وعربات الحطام المبعثرة، جذبته رائحة الموت في اكفانها الملتهبة، تحاصره قطرات الغيم ،حام ببصره حتى ابصر حوشها ونوافذه المهشمة الموحشة و أبوابه الغائرة في الطين العطن، أحمرّ الطين على الضفتين، شعر بأن الجلمود يدور حوله، هلّت عبارات دمعه بهدوء، بحيرة من البكاء تتأجج في صدره يمنعها من التّهورأو الإنفجار، لم يخف عيون الأفق، صرخ بلا يقين من دنيا اشتعال النسائم الراعشة: ما الّذي اغضب هذا الوادي المعتوه حتى اطلق هذا الكم الهائل من مائه الأهوج على جدران البيوت النّائمة على ضفتيه.

دنى فتدنى من الجلمود المعلق في عين القوس، ابصر حروفاَ تفتح اسوارها، تتجمع الحروف في غيوم العبارات في صفحة تقرأ مرايا السّحائب، وثمة غيمة تتنزل لم يثقبها نجم تسري مع موج الريح على ارصفة الجسر، أحسّ كأنه طائر ظمآن وكان بيت “سنية” يظهر له منقوشاَ في الطين، تدنى من الجلمود اكثر، بدأ الوادي يهدأ من الغمرّ، وبدا الجسر ممدّداَ بين عدمين، ومن وراء غبش الغيب قرأ: “لا حقيقة يُهام عليها إلا وهي محجوبة”. رمى ببصره الى البحر المنغمر في مياه الوادي المعلق في الأفق المقابل، أسرع الى الموج يعدو ويطوي عتبات البيوت، كان قاب قوس واقرب، دنى ثمّ دنى اكثر ومثل الطيف، مع الموج، غاب في اليمّ ونامت السحائب الراكضات بشرفات المدينة.

مقالات ذات علاقة

زلة لـسان

عطية الأوجلي

شارع القطن

إبراهيم بن عثمونة

حاملة المفاتيح

محمد العريشية

اترك تعليق