تمر إيطاليا بانقسام شديد في طريقة التعامل مع ماضيها الاستعماري وبالتحديد حول ما حدث في السادس عشر من سبتمير عام 1931 . الأغلبية من بين الإيطاليين لا يريدون فتح ذلك الملف الأسود ولكن هناك أيضا من يناضل من أجل أن تعرف الأجيال الجديدة التاريخ الحقيقي دون تزوير كما هو الحال منذ عشرات السنين . سنكتفي بشهادات إثنين من أهم الكتاب الإيطاليين وهما الكاتب ماركو بوجيرو والمؤرخ الكبير أنجيلو ديل بوكا ففي مقالة مفصلة تناول “ماركو بوجيرو” الأستاذ في جامعة جون هوبكنز الأمريكية قصة حياة الشهيد عمر المختار الذي أربك الجيش الإيطالي في مقاومة شرسة استمرت عشرين عاما مما دفع الإيطاليين إلى اللجوء لأسوأ الأساليب الحربية ؛ فالفاشيون لم يترددوا في قصف أعدائهم بالغازات السامة ، ثم بعد ذلك استعمال سياسة التطهير العرقي للمنطقة التي أدت إلى مقتل أكثر من مائة ألف من المدنيين.
(1)
يقول بوجيرو :
” تم القبض على عمر المختار والحكم عليه بالإعدام بعد محكمة صورية. وعندما تمّ إعدامه في السادس عشر من سبتمبر عام 1931 نشرت الصحافةُ الإيطالية ( التي كان يسيطر عليها النظامُ الفاشستي بصرامة) الخبر بأسلوب المنتصر ورأته حدثا عاديا وعندما انتهت الحرب لم يُسمح للمؤرخين الإيطاليين الرسميين بالاعتراف بجرائم الإبادةِ الجماعية ولا الحديث عن إعدام عمر المختار ” فالمحكمة التي تمت في الخامس عشر من سبتمبر كانت مسرحية دامت ثلاث ساعات وذلك أن الحكم كان جاهزا قبل المحكمة بتوصية من روما كما يقول المؤرخ الإيطالي “أنجيلو ديل بوكا” الذي غادرنا العام الماضي في عمر السادسة والتسعين وهو من أكبر المتخصصين في تاريخ الاستعمار الإيطالي. لقد وصف ذلك الحدث الذي تجاهلته الصحف الإيطالية وقتها خير وصف بعد أكثر من سبعين عاما واعتبر إعدام عمر المختار صفحة سوداء من التاريخ الإيطالي.
(2)
يكتب ديل بوكا قائلا ” إنها التاسعة صباحا في السادس عشر من سبتمبر عام 1931. احضرت إيطاليا عشرين ألفا من الليبيين الذين تكدسوا حول المشنقة وذلك في ساحة معسكر اعتقال سلوق . تم إحضار هؤلاء المواطنين الليبيين من بنغازي وبنينا ومن معتقلات بالعقيلة.” ثم يضيف قائلا : “أكتب هذا لأشهد بمدى قسوة العدالة الفاشية التي لا ترحم فالمختار أقلق جيش أربع حكومات إيطالية متتالية قبل أن يقع في الأسر وعندما حمل الإيطاليون الشيخ المختار الذي كان واحدا من أهم قادة السنوسية إلى المشنقة مرتديا ملابس بيضاء عم الصمت على المكان.
كان المختار مقيدا بالسلاسل فيما بدت الجراح على ذراعه بسبب آخر معاركه. كان يجر قدميه من التعب حتى قاموا بمساعدته على صعود سلم المشنقة وفيما كانوا يربطون الحبل حول عنقه ألقى القائد السنوسي نظرة أخيرة على الجماهير الصامتة والتي كانت تكتم غضبها وتكظم غيظها . بعدها يضرب أحد الإيطاليين المائدة الصغيرة التي كانت تحت رجلي المختار فيسقط الشيخ ويبقى عنقه معلقا وعيناه تنظر إلى السماء.”
(3)
يرى “ماركو بوجيرو” أن ذلك الحدثَ ليس إلا صفحة من صفحات الاستعمار الإيطالي التي شكلت بدايةَ “فقدان ذاكرة جماعية وطنية” تستمر حتى يومنا هذا ؛ فإيطاليا غير جاهزة بعد للنظر في تلكَ الأحداث بشكل نقدي وسوف يستمر ذلك النسيانُ الجماعي لفترة طويلة نظرًا لصعوبةِ طيِّ صفحة الفاشية” ولعل فوز الفاشية ماركوني مؤخرا برأسة الوزراء خير دليل على ما يقول بوجيرو.
أما فيلم “أسد الصحراء” الذي يتناول قصةَ ذلك المناضل عام 1982 فإن إيطاليا اعتبرته خطرًا يهدد صمعة جيشها فقام سكرتير الشؤون الخارجية وقتها “رافييل كوستا” بمنع عرض الفيلم في دور العرض الإيطالية والفيلم لم يُعرض حتى الآن في إيطاليا ومن أراد مشاهدته لا يستطيع إلا بتصريح خاص كما يقول بوجيرو . وفي مظاهرة خرجت في مارس عام 1987 احتجاجا على منع الفيلم قام المتظاهرون بعرضه في إحدى الساحات التي تحمل اسم “ساحة برقة” في مدينة بولونيا وقد تم القبض على أربعة من المحتجين الذين عرضوا الفيلم وهم “مارتا أندرلي” و “فرانكو اسبيزيتو” و”ريناتو بارس” و”باولو تارزان” وتمت محاكمة هؤلاء في فبراير عام 1988 وصدر الحكم على كل واحد منهم بغرامة قدرها مائة ألف ليرة إيطالية وحتى هذا اليوم مازال إسم الشهيد عمر المختار يرعب الإيطاليين. يقول بوجيرو في الوقت الذي تجاهلت فيه إيطاليا ذلك التاريخ كان الأمر مختلفا في آسيا وأفريقيا فلقد كان لإعدام عمر المختار صدى آخر حيث نظمت العديدُ من مراسم العزاء في دمشق وحيفا وطرابلس وأُقيمت صلاةُ الغائبِ في العديدِ من المساجد ودعى الأئمةُ إلى مقاطعةِ المنتجات الإيطالية وأغلقت المحلاتُ أبوابَها احتجاجا وعمت المظاهرات شوارع البلدان العربية ، وفي تونس نُظمت مراسمُ تأبينٍ شارك فيها نخبةٌ من الكتّاب والمثقفين والسياسيين ، ورأي العربُ في ذلك الحدثِ علامةً من علامات اقترابِ الوحدة العربية ووجدوا في الحدثِ دعوةً للتحرك من أجلِ طردِ المستعمرين من العالمين العربي والإسلامي.”
(4)
وعن الشهيد عمر المختار يروي الكاتب الصحفي الإيطالي “ستيفانو جالييني” كيف أن شنق المجاهد عمر المختار حمل إلى إيطاليا العار في أنحاء العالم فحين ذهب الكاتب في عام 1989 إلى رام الله لتغطية أحداث الانتفاضة الأولى كمبادرة للتضامن مع الشعب الفلسطيني أحاطت مجموعة من الصبية بالكاتب وزملائه فسألوهم بجو من التهديد والحجارة في أيديهم من أين أتوا. قال أحد الصحافيين “من إيطاليا” فكان الجواب مفاجئًا : “أنتم من شنق عمر المختار “. أجاب أحد زملاء جالييني : “نعم ، لكن أجدادنا هم من فعل ذلك” ثم يختتم الكاتب مقالته قائلا ..”انتهى بنا الأمر بتناول الشاي عند أحدى العائلات الفلسطينية لكني عرفت حقا أن التاريح لا يرحم” .
نشرت المقالة بتاريخ 11 أكتوبر 2022 (صحيفة الحياة الليبية)
المراجع التي اعتمدنا عليها في هذه المقالة :
Marco Boggero: Omar El Mokhtar : formation de la mémoire et cas du groupe insurrectionnel du même nom
Dans Afrique contemporaine 2007/3-4 (n° 223-224), pages 433 à 460
Stefano Galieni : Libia: “italiani brava gente?” una data d
Pubblicato il 16 set 2017