صلاح عجينة في ذكراه نعيد حوارنا معه في جريدة مواسم
– التجربة الشعرية الليبية ليست غنية للحد الذي يغري بالانصياع لطقوسها..إن وجدت.
– الجيل التسعيني جيل هجين وذو مرجعيات مختلفة.
– أدعو صالح قادربوه لترك قصيدة النثر وشانها.
– الغموض هدف حيوي للقصيدة الجديدة.
– لا أحب شعر مدرّسي اللغة العربية.
– الشاعر شعب والقصيدة فرد.
مواسم:ماذا أضافت قصيدتكم للمشهد الشعري؟
صلاح عجينة:أضافت قيما كثيرة ليس أولها منح هذا المشهد صفة التجدد والتواصل مع الشأن الجمالي، وليس آخرها الإضافة (الكمية) من النصوص الجديدة، وسواء أضافتْ لإبداعية النص أم لا.. فإن إثراء المشهد بنصوص جديدة في حد ذاته أمر جيدا.
بالنسبة لي أتصوّر أن الجيل التسعيني عموما جيل هجين جماليا وذو مرجعيات مختلفة، وأتصور أننا جميعا في أطوار لم تستحوذ بعد على النضج المطلوب، كما أن أصواتا كثيرة مشكوك في تطورها بالأساس، ولذلك أسباب كثيرة منها ما يرتبط بحركة المجتمع ومنها ما يتعلق بضعف التكوين الثقافي للأجيال الجديدة.
قديما حيث لم تكن الجامعة قد اكتسحت المجتمع، وحينما كانت الأمية تذبح بمخالبها كل شيء كان دور المثقف العصامي الموسوعي بالغ الخطورة، وكان هذا المثقف ذا تكوين معقد وصارم، أما اليوم فأشعر أن المساحة التي يتحرك فيها هذا المثقف قد تضاءلت كثيرا وتراجع جراء تطور العملية التعليمية!!
وعلى أية حال فالمشهد الشعري الليبي بحاجة دائمة لمن يثريه ويدعم أصوله ويغني فصوله بالجديد فهو مشهد يكاد يتأسس ولم يستحوذ على مساحته في الخارطة العربية بالشكل المرجو.
مواسم:هل هذه الرؤية تنطبق على المشهد الثقافي عموما أم الشعري تحديدا؟
صلاح عجينة:أتصور أنه أكثر حدّة فيما يتعلق بالشعر، فالحياة الثقافية في ليبيا أفرزت أسماء مهمة في خارطة السرد والتحقيق وغير ذلك، فربما لطبيعة الحياة السياسية والاجتماعية كان بإمكان الروائي أن يحرز تقدما ملحوظا في حين ظل الشاعر يتأخر. فالروائي الذي طالما احتاج لركنٍ منزوٍ ليشحذ ذاكرته المحمولة بذكريات الوطن استطاع أن يؤسس لمشروعه وسط الصمت والهدوء، أما الشاعر الذي لطالما احتاج لتناقضات سياسية واجتماعية ولمفترقات قطعية ولحياة مدنية أكثر تعقيدا قد تراجع خطوات كبيرة للوراء، وأتصور أن آخر شاعر عرفته ليبيا هو أحمد رفيق المهدوي.
مواسم:يقول عبد الباسط أبو بكر أن التسعينيين شكلوا ظاهرة أدبية غاية في الإرباك والتوتر..كيف تفهم هذا الإرباك وهذا التوتر؟
صلاح عجينة:طبعا لست مسؤولا عن تفسير رؤية الآخرين ووضع تصورات لتأويلاتهم ورؤاهم، وبالنسبة لي لو كان هناك إرباك وارتباك فهو تلك الدهشة المتزامنة مع انفتاح الحياة الثقافية على جيل ثقافي جديد وما يحمله من مفاجآت وأراء وأحلام جديدة، أما المنجز في حد ذاته فيحتاج المزيد من الوقت.
وتكمن أهمية جيل التسعينات في زخمه محاولة تجاوزه للسائد، فهو يذكر بجيل الستينات العنيد، أقصد أن جيل التسعينات جاء بعد جيل السبعينات الغارق في البحث الأيدلوجي اليساري بعد جيل الثمانينات المتعطر بالفكر الجماهيري، وهذان الجيلان في الثقافة الليبية يمكن للجيل التسعيني أن يتجاوزهما بدون عناء على خلاف جيل التأسيس، جيل الستينات الثري بالأسماء والمساهمات ذات الزخم.
مواسم:قصيدتكم تعتمد الغموض، أنت مثلا، وهذا ليس من أهداف الشعر؟
صلاح عجينة:بالعكس تماما الغموض هدف حيوي للقصيدة الجديدة، الغموض الخلاق يمنح القصيدة معنى التأمل ويدرب المتلقي على كسر اعتيادية القراءة ويحفزه للبحث الذهني، الغموض الخلاق وليس وضع الكلمات- كيفما اتفق- يؤسس لذائقة ولرؤيا ولمعالم جديدة للبناء الشعري.
الغموض الذي يأتي كنتاج معرفي وكنتاج لكفاح الشاعر نحو تحرير ذاكرته من استنساخ الموروث الشعري، الغموض الذي يكتنف قصيدة صلاح ستيتية، الغموض الذي يتحول إلى سر بناء القصيدة وسر عظمتها وخلودها، وعلى العكس تماما تأتي قصائد نزار مثلا كنموذج للبساطة والاعتياد، لكنها أبضا البساطة الخلاقة والاعتياد العصيّ، دائما هناك إبداع مادامت هناك موهبة أصيلة قادرة على خلق فرضياتها ومتابعة مغامرتها إلى النهاية.
مواسم:هل الانتشار في الانترنت دليل على القيمة؟
صلاح عجينة:بداهة لا، فالانترنت سوق مفتوح لا احتكار فيه، طلب وعرض، مساحة هائلة للحرية الفكرية التي هي على أشدها، كلٌ يفترض المعايير التي تناسب أخلاقه وتقاليده الخاصة، لا مكان فيه للوجهاء وأصحاب المعالي والاحترامات، لا مكان فيه لهيمنة أيدلوجيا معينة، بإمكان الناس جميعا المشاركة بطرق مختلفة، لكن ذلك لا يعفي الكتابة من تبعات التقييم والملاحظة.
ولا يجب في نفس الوقت أن يهمل الكاتب الأصيل نشر أعماله في المساحات الافتراضية التي خلقتها شبكة المعلومات، فأهمية هذه الشبكة لا تخفى على أحد، والغياب بمثابة الخيانة للمشروع الثقافي للكاتب، فهل يخون الإنسان نفسه؟.
مواسم:تتلهفون على انتشار الشاعر وليس انتشار القصيدة، بدليل أننا نقرأ عن شاعر شارك ولا نقرأ عن قصيدة متميزة شاركت وانتشرت؟
صلاح عجينة:الشاعر أهم من القصيدة. الشاعر خالق والقصيدة مخلوق والشاعر مجموعة هائلة من النصوص ( شعب) والقصيد (فرد)!! والعالم يقدس الخالق ويحب الشعب أولا وثانيا وثالثا.
مواسم:هل أنتجت تجربتكم نقادها؟
صلاح عجينة:هناك محاولات تائقة لعدد من الكتاب الشباب كرامز النويصري وعبد الحكيم المالكي وغيرهما كما توجد مساهمات يجود بها شعراء وقصاصون. والتجربة التسعينية مشكوك فيها وبالتالي فإن نقدها أيضا مشكوك فيه.
مواسم:أمامك ثلاث قصائد للبشكار وقادربوه وخالد درويش أي منها تقرأه أولا ..ولماذا؟
صلاح عجينة:سأقرأ عبد اللطيف بشكار، فهو شاعر حالم ومجدد، يحاول كسر شيء ما وتجاوزه، ورغم ما تعرضت له تجربته من انقطاعات ومتاعب فسيظل شاعرا له أهميته، فتجربة بشكار على قصرها وارتباكها تجربة تائقة، ولعل الشاعر بشكار قد خان تجربته بعدم صموده وتراجعه وخذلانه لنصه.
ولأنني لا أحب شعر مدرسي اللغة العربية في المدارس الإعدادية والثانوية فسأكتفي بقراءة بشكار- معلم رياضيات- أما الصديقان الآخران فسأستمع لدرويش لإلقائه الانفعالي المثير وأدعو قادربوه للعودة لكتابة شعر التفعيلة الذي بدأ به وترك قصيدة النثر وشأنها فهو شاعر جيد لو تخلص من عقدة قصيدة النثر التي ارتبك في حضرتها المقدسة.
مواسم:هناك كلام في الوسط الثقافي حول شلل تسعينية تتبادل الإقصاء أو لنقل هناك غيرة؟
صلاح عجينة:هذا كلام صحيح إلى حد ما، وهذا بعد – الحمد لله- انتقل من السلف الصالح إلى الخلف الصالح. فقط وجب التنبيه أن الإقصاء عبارة عن أحكام شفاهية ولا تمتد لأكثر من ذلك لأن الباب حاليا مفتوح على مصراعيه، فالجرائد كثيرة وكذا المجلات والانترنت والإذاعات وإذا لم تكفِ الليبية منها فهناك إعلام عربي واسع و( اللي في القدر تجيبه المغرف).
مواسم:هل تعتقد أنكم ستسودون كل الأزمنة، أم أن زمنا آخر سيقصيكم كما فعلتم مع الأزمنة السابقة عليكم؟
صلاح عجينة:الجيل الألفيني أضعف من التسعيني والتسعيني أضعف مما قبله وهكذا ولا أتصور كيف سيكون حال الثقافة في يوم من الأيام!
طبعا لا.. السيادة لم يحظَ بها حتى الأدباء الرواد، يمكن أن تصمد بعض الأعمال الجيدة في وجه الزمن لكن بدون سيادة، فالسيادة كلمة (عسكرية) بغيضة وأنا أفضل كلمة (مساهمة) فهي مبدأ خلاق.
مواسم:تنكرون انتمائكم للتجربة الشعرية الليبية؟
صلاح عجينة:يمكن أن يكون حدث شيء من هذا القبيل أثناء تدافع بعض الشعراء والقصاصين لاحتدام اشتباكهم مع أحلامهم ورؤاهم، وللحقيقة فإن التجربة الشعرية الليبية ليست غنية للحد الذي يغري شعراء التسعينات الأذكياء! بالانصياع لطقوسها إن وجدت.
هل تريد من جيل انفتح على الانترنت ويجيد لغات ودرس في الأكاديميات أن ينحصر وجدانه في عدد من القصائد التي كتبها عدد من الشعراء من ذوي التكوين العصامي في ظروف مجتمع بدائي يعاني من العوز والفاقة.
بداهةً حدوث هذا التنكر، ودائما كان هذا التنكر سمة ثقافية ليبية لطبيعة الثقافة الليبية التي هي جزء من ثقافة عربية جامعة.
مواسم:تتحدثون عن قصيدتكم وكأنها ذكورية فقط..لماذا؟
ربما.. لا أدري بالضبط.. فقط أود تسجيل ملاحظة وتتمثل في ضعف التكوين الثقافي للإناث المثقفات فباستثناء روائيتين لا أتحسس وجود مثقفة شابة تمتلك قدرة الفعل الكتابي.
مواسم:بعض الأصوات منكم كتبت بنظرة استعلائية ساهمت في إفساد العلاقة بينكم وبين المتلقي في الوسط الثقافي؟
صلاح عجينة:العلاقة بين النص الجيد والمتلقي لن يكدر صفوها شيء، فقط لننتج نصا جيدا وبعد ذلك لا خوف على المتلقي.. نحن لا نعمل كثيرا في حين نتحدث كثيرا، نفشل في أبسط اختبارات العمل الجاد بينما نطالب بالمزيد من الحقوق، وهذه ليست خصيصة تسعينية بل خصيصة ليبية بامتياز.
أما الأصوات (الاستعلائية) فمصيرها النسيان لأن الأدب مشروع وجداني تنتجه أنفس مدّربة على حب الآخرين والذوبان في همومهم وليس الاستعلاء عليهم.
مواسم:كيف تدافع مع من يقول أن قصيدتكم لا تمثل إلا هامشا لمتن القصيدة العربية؟
صلاح عجينة:لا أدافع ، وأترك هذه الفكرة تمتحن نفسها مع الوقت واجتهاد الأصدقاء.
مواسم:تكتبون قصيدتكم بشعور أدبي محض يفارق معايشة الواقع؟
هناك الكثير من الشعراء والقصاصين تركوا القضايا العامة وانصرفوا لتلاوة صلواتهم الخاصة في محراب الذات وهذه ظاهرة عامة وليست ليبية فزمن الاندفاع والالتحام بالتيارات والشعارات قد استنفذ فرصه والآن زمن الانكباب على الذات، فتجربة جيل السبعينات في الثقافة العربية تجربة مريرة وكذا جيل الثمانينيات، فالتسعينيون ولدا ليلتحموا مع ذواتهم كل بطريقته وأسلوبه.
مواسم:هناك أمثلة كثيرة على الصنعة في قصيدتكم؟
صلاح عجينة:الصنعة لو كانت باحتراف وفن تظل عملا جيدا ولذيذا، أما الصنعة المبتذلة فهي كقميص صيني صنع من النايلون لن يجلب إلا المرض. وفي كل جيل هناك المدعي وهناك الأصيل.
مواسم:تعولون على الاعتراف الخارجي، وهذا يؤكده ركضكم شرقا وغربا نحو أي تجمع شعري عربي؟
صلاح عجينة:صيغة السؤال فيها نوع من التحامل على أسماء تسعينية كان لها الفضل في التعريف بالأدب الليبي وليبيا عموما.
لا يوجد ركض –على أقل تقدير- مع عدد من الشعراء والكتاب الذين أثق فيهم.. هناك رغبة تصدر من الآخرين لمعرفة الثقافة الليبية ونحن حينما نشارك إنما نحمل نسيم ليبيا وعبيرها لنسرّبه وندمن الآخرين عليه.
والاعتراف الخارجي مهم لأي شاعر أو كاتب في أي بلد، فهو شيء لذيذ ومهم ويمنح لصاحبه المزيد من الثقة والحضور.
لماذا الكسل والاختناق في لج المحلية؟ هل هناك شرعية لثقافة قطرية بعيدا عن الثقافة العربية والإنسانية عموما أليست ليبيا منبع الفعل القومي والأفريقي والتحرري في العالم.
مواسم:في النقد لا تعترفون إلا بمن ينحاز إليكم دون شروط؟
صلاح عجينة:أتصور أن هذا لو كان صحيحا فسيكون النصيب الأوفر منه لجيل الرواد ومن تبعهم بإحسان!
مواسم:أخيرا..ماذا تبقى منكم.. أم أنكم خالدون؟
صلاح عجينة:الخلود لا.. أما ما يتبقى فهو النص الذي يحمل إبداعه وسره وشفاعته.