استهلال
امتاز القاصُ الليبي بتفاعلِه الحقيقي مع الواقعِ وتصويرِه التشخيصي لحياةِ الناسِ والبسطاءِ، راسما أبطالَه وشخوصَه بفنيةٍ يعلو بها الخيالُ، وتغْزرُ فيها اللغةُ، وتأتي الأدواتُ سهلةً منسابةً بفنيةٍ تشعُّ من الروحِ المغذيةِ لطبيعةِ القاصِ الليبي الذي أحبَّ أن يرسمِ الإبداعَ بريشتِه المتميزةِ.
عرض القصة
اجتازت السيارة المدينة وانسابت بين الحقول والمروج الخضراء في طريقها إلى (المرج) تحمل بين جانبيها العروس، وقد تبعها سرب من السيارات مشحونة بالأطفال والنساء.
وكان المساء جميلاً والهواء عليلاً وقد نفض القمر الغيوم عن وجهه وأسفر ضاحكاً كأنما أراد أن يشارك القوم في سرورهم واهتز النخيل واشرأب جريده ليحيي العروس، وقد امتزج ضحك النساء ولغطهن بصوت المحرك وصياح الاطفال وسرورهم فكان حقاً منظراً جميلاً أخاذاً انبسطت له أسارير الجميع ما عدا خليل سائق سيارة العروس، فأنه ظل ماسكاً بآلة القيادة عابس الوجه متحجر المآقي، كالصنم لا يشعر بما يحيط به من جمال الطبيعة الفاتن ولا بسرور القوم المرافق لهم … لقد سبح في بحر أفكاره وذهبت به الذاكرة إلى ما وراء عشر سنين عندما كان مجاوراً: كانت زينب آذاك في العاشرة من عمرها وكان هو يكبرها بعامين، كانت أواصر الصداقة مرتبطة بين أسرتيهما، فنشأ الطفلان كأخوين لا يفترقان عن بعضهما، فارتبط قلباهما الصغيران برابطة الصداقة والود، رابطة الطفولة التي لا تنفصم عراها مهما مر من السنين ومهما كانت مدة البعاد.
لقد كان يخشى عليها من كل شيء ويرعاها ويحوطها بعنايته كأنها شيء يخشى تلفه والويل كل الويل لمن كدرها من الأطفال أو رفض لها طلباً … لكم كانت تشع عيناه ببريق السرور وعندما يراها سعيدة وكم تألم لألمها وبكى لبكائها حتى تعجب أفراد الأسرتين من أمر الطفلين ومن ودهما المتبادل الغريب..
وبعد ثلاث أو أربع سنوات بدا له شعوره نحو زينب غريباً ليس كشعوره الأول، فقد كان يود الإكثار من مجالستها واستماع حديثها، ويكثر من إطالة النظر إلى جسمها الغض الذي بدأت تتفتح أنوثته، ولكنه لم يدر أو يقدر كنه هذا الإحساس الغريب إلا بعد أن حجبت عن نظره كعادة أهل البلدة.. هنالك شعر أنه يهواها وان حبها قد تمكن من قلبه، ومرت سنون لم ير في أثنائها زينب إلا مرة واحدة وفي لحظة خاطفة أثارت ما كان كامناً وأضرمت نار الهوى بأحشائه فأقسمت أن لا تكون لسواه واقسم هو أن لا يكون نصيبه غيرها …
اجتازت السيارة توكره وبدأت في الصعود على عقبة ”الباكور ”.
وعاد خليل إلى ذكرياته … توفى والده وترك ثروته الطائلة طمعة للدائنين وخلف عائلته الكبيرة ميراثاً له.
فذهبت أحلام الشباب الذهبية واندكت قصور الآمال فهجر المدرسة ووجد نفسه أمام الحياة وجهاً لوجه ووقف حائراً ذاهلاً: هو لا يعلم من أمور الدنيا شيئاً وليس لديه ما يدفع به غائلتها وقد وجد نفسه أمام عدو كاسر صعب المراس لا عهد له بصراعه ونضاله … فعرف الفقر والفاقة وشظف الحياة ومرارة العيش ولم تفده علومه ولا أصدقاؤه ولا شرف عائلته شيئاً، طرق أبواب الرزق فوجد اغلبها مسدودة في وجهه فكان يكد ويتعب طيلة يومه نظير بضعة فرنكات يقترها على عائلته البائسة … وآلمته هذه الذكرى، لقد كان يظن أن الجراح بدأت تندمل وان يد النسيان قد تمسح حبها من صدره، ولكن ها هي الذكرى تمزق هذا السمك الرقيق وإذا بالجراح تنفتح فتمتم بصوت خافت: لطفك يا رب.
نعم لم ينسها في فاقته وآلمه ومتاعبه، لقد كان يفكر فيها عندما يخلو بنفسه فيمسك برسمها وهي طفلة يقلبه بين يديه ويقبله في مناجاة ذليلة فكثيراً ما أوصد على نفسه باب حجرته وأخرج الصورة من حافظة أوراقه ونظر إليها في لذة ونشوة وسرور، فيناجيها بألطف الألفاظ وأرقها ويتنهد طويلاً ثم يعيدها إلى مكانها وهو لا يدري شيئاً عن مصيره الغامض – لقد توسعت ثروة أبيها وأصبح ذا مركز في المدينة وقد رآه مراراً ولكن كان تفاوت مركزهما أسدل ستاراً كثيفاً على تلك الصداقة التي كانت بين العائلتين فتجاهل خليلاً وأنكر أمره … كم كانت تؤلمه هذه الخواطر حينما ينتهي في تفكيره إليها فكان يجتهد في أن يسلو زينب وينسى ما كان بينهما ويقنع نفسه بعدم التفكير فيها، ولكن دون جدوى، فقد تمكن حبها من قلبه فهو يعيش ويكد معلقاً نفسه بخيوط من الأماني لعل القدر يبتسم له يوماً فيكسب ثروة أو مركزاً يؤهله لأن يتقدم خاطباً لها، ولكن أواه ما أشد سخرية القدر عندما يناوئ مخلوقاً: ها هو الآن يشتغل سائق سيارة عمومية يصحب عروساً إلى عريسها لا بأس، صحبة جميلة وأجر باهظ، ولكن هل كان يدور بخلده أن العروس هي زينب فاتنة لبه ورفيقة صباه ونور آماله؟ هل كان يدور بخلده أن القدر سيجعله هو بشخصه سائق سيارة زفافها؟؟ هذا ما لم يكن في الحسبان.
وأفاق من ذكرياته على رؤية سيارة قادمة، فأفسح لها الطريق وارتد فكرة من هذه الجولة في الماضي وتذكر أن زينب الآن معه في سيارة واحدة – ورفع نظره صدفة إلى المرآة المعلقة أمامه فرأى انعكاس شخصها في المرآة لكم تغيرت، ليست بزينب الصغيرة الوديعة، أنها الآن امرأة جميلة فاتنة ذات جسم رشيق وعينين عسليتين وأنف أقنى وبشرة بضة يعلوها قليل من السمرة وكأنما شعور غريب جعل زينب ترفع نظرها إلى المرآة المعلقة أمام السائق، فتقابلت نظراتها بنظرات خليل وكأنها عرفته فاهتز جسمها هزة سريعة وشخصت عيناها في عينيه وعلا وجهها اصفرار شديد فاستندت إلى إحدى رفيقاتها إعياء – ونظرت من جديد إلى المرآة فقابلت نظرة الحزين، لقد كانت عيناه تنطق بما في ضميره ففهمت أنه يؤنبها ويذكرها بقسمها بين يديه وفهم هو عينيها أنها تستغفره ذنبها وتذكره بعجزها وبسلطان أبيها الجائر عليها، فنزلت الدموع من عينيها في آن واحد.
وغاص خليل من جديد في أفكاره فتذكر أنه بعد ساعة على الأكثر سيوصل زينب الى منزلها الجديد – سيذهب بها إلى رجل آخر يحظى بها، إلى رجل أكثر منه مالاً ربما لم تره في حياتها وربما كان أشيب كريه المنظر أو سئ الأخلاق فتقضي معه حياة تعسة.
لقد انتظر طويلاً وناضل وكد من أجلها والآن؟؟؟ ها هي تزوجت، وماذا تبقى له من سرور في الدنيا؟؟؟ تسكعه بالسيارة أخر الليل أمام الملاهي والحانات في انتظار ما تلفظه من روادها؟؟ وبدت له الحياة متعبة وثقيلة لا خير فيها ورفع نظره إلى المرآة فرأى نظر زينب مصوباً إليه وكأنها فهمت ما مر بخاطره فقرأ في عينيها بريق الحب الصادق – الحب القوي المتين الذي تمكنت جذوره في قلبها منذ الطفولة – هل نسته؟؟ كلا ها هي تبكي أنها تعسة وهو أتعس منها ومستقبلهما أكثر تعاسة وشقاء، إنها الآن معه وحياتها في يده – واستولت عليه فكرة مروعة هائلة ولمعت عيناه ببريق غريب، بريق وحشي ما كادت تراه زينب حتى صرخت رعباً، وكانت السيارة بأعلى الباكور. ورؤيت سيارة العروس وقد نفذت بسرعة هائلة ثم عرجت فجأة عن الطريق وهوت بمن فيها إلى قاع الوادي، وفي نفس الليلة حملت جثث زينب وخليل ورفيقاتهما إلى نفس المنزل الذي كان ينتظر العروس.) انتهت القصة
عتبة القصة
(ليلة الزفاف) عنوان يوحي بمضامين عديدة، ما إن يطالع القارئ العنوان حتى يشده لقراءة سطور القصة؛ لعل خلف خبايا الليلة أشياء كثيرة تثير حماسه للقراءة، فقد اعتاد القارئ العربي على أن تشده مثل هذه العناوين؛ خاصة في مرحلة البدايات لتداول دُور النشر القصص بأنواعها وظهور الجرائد والمجلات، والنشر بأنواعه، خاصة في ثلاثينيات القرن العشرين، والأجيال الأولى التي كانت تمر بمراحل الصراع من أجل الاستقلال والتكوين الفكري، والاتجاه نحو التحرر من آلة التقليد والنمطية.
وبالنظر للقصة وعنوانها بشكل عام ستشعر أنك تقرأ عنوانا تقريريا مباشرا، لكن الأمر ليس كذلك، فعتبة العنوان تشير إلى ملامح دقيقة للبناء الذي هندسه القاص، دون أن يكلف نفسه عناء الشرح والتفاصيل الدقيقة؛ فالعنوان(ليلة الزفاف) يضم في اختزاله العديد من الصور والأحداث المتلاحقة التي جسدها القاص المتقن لأدواته إلى أحداث دائرية (لحظة الأزمة) تقود فكر السائق وهو يتخيل كل لحظة من لحظات حياته-دفعة واحدة- في تلك الليلة التي أراد أن يزف فيها عروسا لعريسها؛ فكانت من نصيبهما جثتان في القبر قبل أن تكتمل ملامح الليلة المنتظرة! إنها ليلة زفاف روحين اشتاقا “لبعضهما” طيلة سنوات عجاف، وعلى مضض وفقر وحاجة النفس للقاء؛ ويا له من لقاء! حين تجد من تعلقت به الروح تقوده لتضعه في يد من لا ترغبه أو تهواه، كأنه يقود قدره بقدره، قدر معشقوقته التي لم تُكتب له وقدر لحظته التي ساقته بين طبيعة أخاذة ومباهج تبعث على الاسترخاء والذكريات المؤلمة، فقد أحسن القاص بتنسيق التصميم واتساقه، واختياره للأمكنة توكرة الأثرية ذات الموقع السياحي في شرق ليبيا هي تبعد عن مدينة بنغازي مسافة سبعين كيلو مترا، وعن مدينة المرج مسافة عشرين كيلو مترا(تقريبا) بهضابها وطبيعتها الخلابة، وليلتها المقمرة حتى مرج المروج خضراء يانعة باعثة على الأمل والدفء، فتناسب حال الموكب وحالة الطبيعة واعتدالها وجمالها مع ما للأمر من أهمية، فالدارس لقصص الأدب قديما سيجد أن كل قصص الحب لا تخلو من ذكر الأماكن والوقوف عليها والبكاء على أطلالها وذكر محاسنها ومقاربتها من حالة البهجة كأن الطبيعة تتزين عند لقاء المحبين. فالقاص مدرك لتلك الأهمية ودورها الفني في توظيف الأمكنة وإيحائها المُلِح بتخيل الأحداث دون واسطة ما.
امتاز العنوان بالإيحاء والتكثيف والدهشة، فجاءت بنيته أيقونية ذات تأثير معنوي أكثر منه حسي.
وقد كان الأدباء في تلك الفترة يكتبون على النهج الكلاسيكي المحافظ، أسوة بالأدب العربي القديم ويكاد لا يفرق القارئ بين أسلوب كاتب في العصر الحديث مع ما مر من أساليب في العصر العباسي الأول والثاني؛ بسبب قيود التقليد التي كانت طابعة على سليقة أغلب الأدباء في تلك المرحلة.
أضاف القاص كلمة ليلة المبهمة إلى الزفاف فخصصت بإضافتها وتعرفت، وأصبح العنوان وامضا يثير انتباه القارئ في أن الليلة وراءها ما وراءها من أحداث تتسلسل من خلال متن القصة وذاكرة البطل الذي ظل غارقا في الماضي حتى تحول إلى لاشيء في لحظة غفلة.
ومضامين الزفاف معنوية وحسية، فهو الفرح، البهجة، السرور، التهاني والتبريكات، الاحتفاء بالعروس، الشعور بالإيجابية، إلى جانب ذلك: فهو الترقب، القلق، طول اليوم بسبب شغف الانتظار للوصول إلى هذه الليلة، الزفاف شعور مركب من الفرح والرهبة، الانتشاء والرغبة، التهيؤ والتحير، لهذا كان البوري يهدف من خلال رسم هذا العنوان بناء أحداث تتقارب من واقع عاش فيه، كانت الحالة الاجتماعية للمجتمعات العربية آنذاك تنظر لقصص العشق والغرام على أنها “تهيؤات” الشعراء وكلام الكتب والقصص، وتكاد أن تراها من عنصر الأساطير والخرافات، فالأسرة العربية المحافظة في تلك الفترة تنأى عن أن تزوج ابنتها لمن هام بها عشقا وغراما مقابل جيبه المثقوب، وهذا ما وفق الكاتب في طرحه في هذه القصة القصيرة التي ابتدأت بعتبة فتحت عتبات وقضايا اجتماعية كثيرة في تلك الفترة، وهو وإن لم يشر إلى كل التقاليد والعادات؛ لكنه بميزة التكثيف والاختزال جعلنا نشاهد موكب العروس، وحالتها وهي تعاني التوتر والرفض الداخلي والقلق والحيرة، جراء ما أرغمت عليه من زواج غير متكافئ من أجل الرفاهية المادية وتساوي الطبقات الاجتماعية من حيث المركز والمنصب والمال.
يبدأ القاص بهذه العتبة المباشرة في الصياغة؛ لأهمية الحادثة القصصية ورمزيتها الموغلة في كون أن تلك الليلة كانت متميزة في سرد الأحداث المتتالية الضاربة في نفس الإنسان من محتدمات حوارية لم يستطع الإفلات منها وكأنها قيد في عين المكان والزمان، فعتبة العنوان جاءت بسيطة لافتة مقارِبة ومباعدة لعدة تكهنات وتوقعات قد تطرأ في نفس المتلقي قبل أن يلج من باب القصة ويكتشف الأحداث.
ليلة الزفاف عنوان مستثير للقراءة، والتوقف عنده.
القراءة الفنية
تماهى القاص الليبي وهبي البوري مع الأمكنة والأزمنة وروح البطلين، مجسدا حادثة مركبة من عدة فواصل ومحطات التقت مع زمن فيه ما فيه من بساطة العيش وملاحة الحياة، وربيع العمر بداية الأوج، وركود التجديد. لكنه طرح قضية يحاكي بها زمنا ما- رغم- تكررها عبر كل الأزمنة وإثبات وجودها عنوة وهي المبتدأ والخبر؛ إنها قصة العشق الذي لا يفضي أمره إلا إلى “مآلين”؛ إما فرح تستنار به الشرفات وتطرب له القلوب وتفرح له النفوس وتجتمع الأسر وتنسى لحظات القلق والترقب، وإما حزن يخلفه فراق وهجر ونسيان، لقد وظّف البوري قصته لتشمل تلك الحالات التي كانت في بدايتها تحيا على الأمل واقترابه، فجاءت متجانسة مع ألوان الحدث والزمن ومتوافقة مع كل الأجيال والعصور التي مرت بها، فالبوري نشرها سنة 1936 إنها مرحلة طويلة لبدايات قوية، تحكي عن عادات وطقوس وأزمنة كأنها الأمس الحاضر، خليل بطل القصة وخيال الظل الذي كان حاضرا عبر كل المراحل التي سبقت حبيبته دون أن تشعر أن الذي قاد قلبها يوما ما هو –الآن- يقود سيارة زفافها، ويبدو أن القاص أراد أن يوضح للقراء حالة الناس آنذاك في استئجار ركوبة النقل –من قلة الإمكانيات في امتلاك الأسر حينها للسيارات الفارهة، بل كان الأمر بانتشار السيارات العمومية التي تقضي حوائج الناس بالأجرة(وهي خصوصية للعروس وأهلها) لتفوز العروس برحلة هادئة إلى المكان الذي ستمكث فيه، وكان حظها أن تقع فريسة اللحظة- سائق لها معه علاقات وطيدة؛ علاقة الجيرة والطفولة والحب البريء، علاقة اندماجية تفرضها ظروف الزمان وبساطته والمكان والقربى، إلا أن القدر يُحكم وثاقه، وينفذ سهمه. هذه المرحلة فيصلية لتكوينة الحياة الاجتماعية في تلك الفترة بعد مرور الشعوب وقتها بحروب وصراعات ونكسات في محاولة للوقوف على قدميها واستتباب أمورها التي بدأت تواكب وقتها ما استجد على المجتمعات الشرقية ككل والمجتمع الليبي على وجه الخصوص وظهور التمدن رغم التقسيم الطبقي الذي عانت منه الكثير من المجتمعات في تلكم الفترة.
(فنشأ الطفلان كأخوين لا يفترقان عن بعضهما…) فارتباط القلبين الصغيرين برابطة الصداقة والود، رابطة الطفولة التي لا تنفصم عراها مهما مر من السنين ومهما كانت مدة البعاد…!
ينعطف بنا البوري في تصويره هنا إلى أهمية مرحلة الطفولة التي منها ينبثق الحب البسيط العفوي غير المعقد الخالي من النرجسية والأنا، المتطبع في روح الطفل الصافية سريرته، وما أدت إليه توابع ذلك الحب من ارتباط وثيق كان تأثيره متصلا فيما بعد إلى نتيجة مؤداها التعلق الذي يفرد مساحته الكلية لتلقي هذه الروح دونما مقدمات أو اكتشاف.. فخليل السائق اكتشف روحه منذ أن كان في صباه، ووقف عندها كثيرا(إنها محطته الأولى والأخيرة) هكذا انفتح قلبه للوجد والتلقي والاسترسال، القاص أحاط قصته بسلسبيل لا ينتهي إلا بنهاية تراجيدية رسم حدودها بعناية فائقة وهو يستبكي الجفون، ويستحث النفس لتتعاطف مع البطل الذي ضاع كل شيء من بين يديه بينما كان في لحظة ما في يديه.
التلميحات الرمزية في قصة ليلة الزفاف
(وكان المساء جميلا والهواء عليلا وقد نفض القمر الغيوم عن وجهه وأسفر ضاحكا كأنما أراد أن يشارك القوم في سرورهم)
المتأمل في هذا المقطع، سيكتشف جملة من الصور المركبة الحية التي منحت القصة روحية عالية في أنسنة الأشياء واستعارتها لوازم الحياة؛ فصورة القمر الحية وتجسيده بهيئة إنسان نفض العبوس عن وجهه، وقد جاء الفعل نفض ليقرنه بالغيوم (دلالة سيمولوجية) فدلالة نفض أقرب للغبار، نفض الغبار عن الآرائك..المكان… البُسط.. الأماكن.. إلا أن الكاتب قرنه بمسح الغيوم (صيرورة) وكأن الغيوم هي ذرات تراب متقاطعة في شكل غبار يغطي وجه القمر ويشوهه، فالقاص رأى تلك الغيوم بصورة الغبار الذي يلتف بالقمر يبهت لمعانه/ استبدالية-استعارية، كالزجاج تماما حين يصبح معتما وغير براق من أثر الأتربة والغبار، فالصورة للتجلية والوهج، وللفرح، فلا مكان للغيوم التي تشبه الغبار والأتربة فيستحيل المكان باهتا كناية عن الضبابية وعدم الرؤية وبالتالي استحالة الاهتداء(استعارة مكنية ) بأدواتها الكامنة تشبيه القمر بالإنسان (أنسنة الأشياء ) الذي يمسح الكدرة عن وجهه وينفض ما علق من غبار ويشرق ضاحكا(تبيين الهيئة الحالية ) ليشارك من حوله في فرحهم سرورهم، استدعاه من العلو إلى الانخفاض (فعل حركي المقصود من المشاركة، لأن الفرِح يشبه كمن يعلو ويطير من الفرح في الفضاء أو يهبط ليحتضن من حوله تعبيرا عن شدة الفرح والحبور، فالقاص هنا أراد أن يبرز الصورة بتوظيف الأحاسيس وعكسها على الشجر والحجر والقمر والطرقات والأماكن (واهتز النخيل واشرأب ليحيي العروس) صور فيها قيمة فنية تذهل القارئ وترتفع بالذائقة العربية، فالمتذوق لمعاني الحس الفني وجودة التصوير المعنوي/ الحسي فجريد النخل اشرأبّ اهتزازا كأنه يتراقص مشاركا الناس فرحتهم بهذا الموكب البهيج، فكان القاص هنا ملتقطا لماحا في التوظيف البلاغي ذي القيمة المعنوية، أما صورة جريد النخيل ليست مستقيمة بطبيعة الحال ولكنه بذكاء حاذق وارتباط وثيق بالبيئة الريفية وما عليه الصورة الحقيقية لوجهها الحي؛ لازمها لصورة الحركة (فالمتخيل للجريد الذي يشرأب؛ أي يتطاول عنقه ليرى الموكب المار من جانبه، لا يتأتى له هذا الأمر إلا بالاهتزاز؛ إثر حركة الريح التي تثير فيه الاهتزاز فيتمايل يمنة ويسرة فيستقيم أعلاه لوهلة ثم يعود لينحني وكأنه في موضع تحية للعروس ! فهذا التصوير والتصيير عميق المعنى بدلالات سيميائية/ إشارية دالة/ كناية/ واستعارة فيها كل دقائق البلغاء الذي يتذوقون المعاني قبل المباني، مذهل التركيب، مجانس للحركة وللوقع وللحالة، توفرت فيه معاني الحس والتجسيد.
إن التوظيف جاء خلاقا لتحويل الجمادات وصيرورتها وإضفاء الحسية عليها، وهذا من براعة القاص في تمكنه من أدواته الفنية حيث مهارة التصوير تفوق التصور.
والقارئ الذي يقرأ القصة دون أن يتذوق معانيها؛ قد يفوته الاستمتاع بهذه الصور التي تجسدت ودبت فيها الحياة، وصارت مستعيرة لكل متلازمات الإنسان من الحركة والضحك والرقص/ الاهتزاز، والتحية…..
(وقد امتزج ضحك النساء ولغطهن بصوت المحرك وصياح الأطفال….فكان منظرا جميلا).
مازج بين الأصوات ومناظر الطبيعة حيث الاخضرار والقمر المضي الضاحك في السماء، وهو يلاحق الركب فتارة يسبقه وأخرى يلحقه، المزج بين الصوت والصورة (الضحك والصياح وصوت محرك السيارة) والمنظر الجميل (معزوفة موسيقية وقع انفرادها على صور الطبيعة وتكويناته-رغم- أن محرك السيارة لا يتواءم وضحك النساء وتغنجهن؛ حيث يُكسب المنحنى الصوتي نشازا يخالف به عن السلم الموسيقي، إلا أن القاص بدهائه الفني غطى المساحة أو الطبقة الفنية الصوتية بكلمة(لغطهن) فالإقران هنا إشارة دلالية حين ضحك النساء ومهاترتهن تخرج نمنمات توشي بشيء من الكلمات النافرة سواء كان ذلك تعبيرا عن لذة حسية أو أهزوجة شعبية تعلل فيها النسوة اشتياقهن أو ما كان خارجا عن السياق قد غطى على ذلك اللغط المتداخل صوت المحرك المزعج، وقد قرنه القاص مع لغط النساء؛ فتواءم المعنى بالمبنى.
بين تلك الصور والألوان والموسيقى الصاخبة والفرح؛ رجل يقود الفرِحين وليس منهم/ بطل القصة(… ماعدا (خليلا) سائق سيارة العروس..) وقد صفه القاص بالعَبوس وتحجر المآقي تشبيه هو أقرب له (كالصنم…) ولم يقل كالتمثال في إشارة منع للروح المشتتة ولخروجه الآثم عن مسار القوم؛ الذين جمعتهم روح واحدة بينما ظل خليل (كـالصنم) مبتعدا بهواه وغرائزه المتحركة التي تدفعها ذكريات لم تترك في نفسه سوى الألم والحسرة والأفول والضياع، وهنا تلميح تحقيري مستشَفّ من الحالة النفسية لقائد السيارة وهو (كالصنم ) منبوذ محتقر مستبعد منفي/ كأن السائق ذليل يجر العربة دون رضا/ يقوده الجيب والهوى ! (لقد سبح في بحر أفكاره) الأفكار تحولت إلى بحر لجي وهو يسبح دون إدراك منه لمن هم معه في تلك العربة التي تسير دون استهداء نفسي بسبب ما هو فيه.
ثم ظل يسرد القاص حياة وذكريات خليل السائق التي انهمرت دفعة واحدة في هذه الليلة على وجه التحديد دون غيرها، فصورة العاشق عندما يكبر حبه من الطفولة، وحينما يحتويه هذا الحب دون توقع لقادم يُفشل كل الخطط التي كان العاشق يخطط ويحضر لها مجهزا نفسه كي يصل بحبه إلى أسمى ما كان يتمناه ويرغبه، اقتران الحب بطفولة خليل دلالة دالة من الكاتب على أن الحب متشعب وقوي البنيان، فهو ليس وليد لحظته أو أمسه بل حب ولد مع طفل استقر في قلبه فأصاب مكمنه، وإن الأمر ليس عند ذلك الحد فأواصر الجيرة والصداقة بين العائلتين دعمت ذلك الحب، وزادت من عنفوانه واستمراره؛ حين لحَظوا الطفل وهو يداري حبيبته الصغيرة ويدفع عنها طيش الأطفال وكيد الأهوال كأنه البطل المغوار، ثم بعد وصول العمر عتبته الجسدية، وبات الجسد يلح على الروح، فأينما كانت الروح مال الجسد.
شعر خليل بالميل الذي أحرق قلبه نحو معشوقته زينب، فبعد سنوات يصور الكاتب ذلك الشعور الغريب الذي لم يعْهده خليل كلما طالع وجه وجسد زينب؛ إنه ليس شعور الطفل البريء الذي أحب دون منغصات ومكدرات أحبها ونام بارتياح، إنه الآن الإلحاح الذي يطرق قلبه وجسده ليجالسها ويستمع لحديثها وليس لينظر إليها بل ليكثر ويطيل النظر إلى جسمها البض، ذلك الجسم الذي بدأ يتفتح كالوردة الحمراء المتوهجة بتلة بتلة –أمامه- فالأنثى تظهر معالم أنوثتها السافرة كلما نفر جسمها وتطاول عودها وارتج واهتز ما تثنى منه.
ومازال خليل في صراع مع إحساسه الذي يدفعه، حتى ازداد أوار النار وصهدها وحرّها (حين حُجبت عن نظره كعادة أهل البلدة) فالبوري يُلفت القارئ إلى ذلك الزمن الذي كانت –فيه- تحجر أو تُحجب البنت عند وصولها لسن البلوغ؛ وما إن يكتشف أهلها معالم الأنوثة قد برزت صارخة وكما دأبت عادة العرب قديما بحجب الفتيات وحجرهن، حتى يأتي قدرها فهو كفيل بفك ذلك الحجب واكتشافها وإروائها؛ إنه الزوج ! كان لا يرى معشوقته قبل الزواج بها.. يُدل عليها وتُزين في أذنه قبل عينه فتهوى أذنه وتهتاج روحه فيظل في طلبها حتى يصل إلى مبتغاه.
ولكن بطل قصة (ليلة الزفاف) عاش مع حبيبته أيام طفولته، وشبابه حتى حُجبت عنه –فجأة- وهو قانون تواطأ عليه أهل ذلك الزمن فرضي الطرفان الرجل والمرأة، وعَدّوه كمن يدس متاعه الثمين عن الأنظار والعيون والحدّاق، لأهميته أو الخوف عليه أو الضن به(البخل به) غَيرة وحرصا… لمعرفة الرجال ببعضهم وكيف أنهم يطلبون ما امتنع وتخبأ…فكانت عادة الناس أنهم يمنعون بناتهم عن العيون حتى تهواهن القلوب وتطلبهن الأرواح.
فاشتد طلب خليل واستعر لهيب النيران في قلبه بعد أن حجبت زينب، لقد تمكن حبها من قلبه ولم يفلته تغير الأحوال والأزمنة، وفي لحظة من غفلة قال عنها البوري (خاطفة) حيث أصاب في وضعها داخل السياق؛ لأن تلك اللحظة الخاطفة أثارت (أي خطفت ما كان كامنا هادئا، فاضطرب قلبه واحتدم وأضرمت نار الهوى، وكثّف الحدث دون تفصيل سوى إشارة خفية من وعد الفتاة لفتاها وقسمها له أنها لن تكون لسواه ولا يكون هو لغيرها، وكأنما “استحسا” القدر الذي حرمهما من نعمة الحياة ليصير كلٌّ منهما للآخر ولكن في قبره.
ابتدأ القاص بالفعل (اجتاز) – اجتازت السيارة المدينة إيذانا ببداية طلوع الموكب اجتازت السيارة توكرة؛ إشارة للخروج من مدينة والدخول في أخرى (فعل الاجتياز) وفق الكاتب بإدماجه في سياق القصة للدلالة على صعوبة الرحلة الطويلة، وصعوبة الموقف الذي وُضِع فيه خليل ويتطلب منه اجتيازه كي تتيسر الرحلة وتمضي..
(وبدأ في الصعود على عقبة الباكور) “والباكور منحدر جبلي رابط كجسر بين مدينة توكرة والمرج” فالعلاقة المكانية متجسدة في البناء القصصي الذي طُعم بالسرد المختزل، الموجز المؤثر، الموحي، الواصف، الكاشف، فهو في سيارة وفيها عروس ومعها نسوة وخلفهم موكب آخر تعلو الأصوات وتنخفض، شاركتهم الطبيعة والنجوم والقمر والنخيل والهضاب والشجر واعتدال الجو.
كل ذلك اختزل في جمل دون حشو أو زيادة أو إطناب أوتكرار ممل أو غلو ومغالاة تبعد بالحدث وتشْطط به. بل كان العمل مدهشا عند لحظة الاجتياز الثانية والقارئ بين علو وهبوط يتبع سيرورة خليل وذكرياته التي أرهقته وهو يقود موكب العروس لتصل به إلى المرحلة التالية.
فمازالت الذكريات تقلقه وتجدد جروحه، حين توفي والده –فكأن- فقْد الأب يعني قلق الرزق وذل الحاجة، وغربة المكان… توفي تاركا ثروته سدادا لديون الطامعين في أمواله، فتحطم كل ما كان يأمله ذلك الشاب وحين كانت أسرته محط أنظار جيرانهم ومصدر أملهم في الترابط أكثر، كانت هذه المرحلة التي أشار إليها القاص في (ليلة الزفاف ) منحنى خطيرا، فقد خسر خليل كل شيء أحلام شبابه التي وصفها القاص بالذهبية دلالة ترف اللحظة وقتئذ، واندكت قصور الآمال فالقاص يبرهن على أن آمال خليل كانت كالقصور والجبال/ هل هي مقاربة لقصور الرمال على شواطئ البحار- ربما.. ولكن المخالفة في قوتها.. فلا تُدك إلا ما كان منها قويا متماسك البنيان حتى دكتها الظروف وصدعتها وأحالتها إلى رماد تذروه الرياح في مكان سحيق. فبدأت رحلة الشقاء (بترك المدرسة، ومواجهة الحياة التي شبهت بالعدو الكاسر الصعب المراس أمام هذا الشاب الغرير الذي لم تمرسه الحياة بتجاربها – وهو يتبخر شيئا فشيئا بأحلامه الواهنة – وإذ به أمام وحش لا يعرف الرحمة ولم يشفق على حاله، ولا عهد له بمصارعته (في إشارة للراحة التي كان يتمتع بها خليل فيما مضى، وبداية الانكسار واليتم ليس في معناه النفسي فحسب – إنما فيما يتناوب من أحداث تأتي بها الليالي الظلماء حين يُفتقد السند والداعم.
ففقده لوالده بداية بؤسه وذهاب حنكته التي لم يرث منها خليل سوى الضياع والتسرب، كلما طرق بابا وُصد في وجهه.. تلك الذكريات اعتصرت قلبه فتدفق الحزن من أبوابه العديدة ولم يجد إلا أن يتمتم طالبا اللطف من خالقه (بحالته التي آلت له إلى هذا الإنسان الهش تفترسه الحياة وتلقي به جثة هامدة إلا من الظل الذي مازال يسبح به في الآفاق لعله يتسلى من حبها..!
يعود بنا القاص في كل سياق إلى ذات الذكرى والألم والمتاعب؛ فيصر حالة خليل حين كان يسرق الوقت في النظر إلى صورتها يخلو بها وقد تحصل عليها بطريقة ما، ووضعها في محفظته(في بيان لشدة الوثاق النفسي الحسي بين المتحابيْن) حتى أنها أمّنته على نفسها عندما أسند القاص الصورة لخليل دون تفاصيل إلا ما جادت به اللحظات من وضع لمسات يستنبطها القارئ مما بين السطور، بل مما بين سياقات الحادثة المؤثرة بالحالة الوجدانية المتشعبة بالذكريات المكثفة في دلالات مكثفة بعيدة عن التفاصيل الجانبية.فقد قالت تلك اللحظات وبَاحَتْ بكل شيء في معنى استشفافي عميق، ولم تترك شيئا بين متحابين إلا وكان مذكورا في تفاصيل الأحداث بإطارها النظري الجوهري السردي الفني.
حين تولت الدنيا عن خليل وحاصرته الحياة وصار فقيرا وحيدا لا مال ولا مكان، في الأثناء توسعت عائلة زينب وصار والدها من بين الطبقات الاجتماعية ذات المنصب والمكانة بسبب الثراء (وقد رآه مرارا ولكن كان تفاوت مركزهما أسدل ستارا كثيفا على تلك الصداقة التي كانت بين العائلتين، فتجاهل الرجل خليلا وأنكر أمره). الستار كناية عن المستوى الطبقي بين العائلين، والفصل بينهما والتمايز.
عندما يوفق القاص لتبيان الحالة الاجتماعية –آنذاك- فسيكفيك عناء الخوض في التفاصيل فيما بعد. ويصل بالقارئ إلى نتيجة مفادها أن المراكز المادية تسهم بشكل كبير في القضاء على ما كان بين العائلات من ود وأنه –حينئذ- يقاس الإنسان بما يملك، ولا يقاس بسيرته الذاتية الخالية من الثقوب، بل بسيرته المادية المليئة بالجيوب.
فاستشعار القارئ بحزن الكاتب متجسدا في صورة البطل والذكرى التي تحكم حبلها على عنقه وتشده إلى الوراء، يكتشف من خلاله النفس المرهفة للقاص وكأنه يتعاطف مع ذلك البطل الذي كشّرت في وجهه الحياة بعدما نال قسطا طيبا من نعيمها في بداية حياته، وبعدما نال من حب لم تكتمل صورته بالاقتران وهو أشد عذابا في الدنيا أن يفقد الحبيب حبيبه دون أن تكتمل صورة الروح والجسد معا والذي لأجلهما وُجد ذلك الحب.
فالبناء الفني الدقيق هو الذي نكتشف من خلاله روح الكاتب ونفثاته، وكأنه يرسم خيوط قصة عاشها أو مرت به (خاصة في رسم لوحة الذكريات المؤلمة وتماهيه مع بطل قصته) فلزمت فؤاده ووقعت في وجدانه.
إن نجاح القاص الحقيقي يرتبط بوجدانية القصة (فهي الحبل السري) الذي يغذي الأحداث وينميها ويتوسع معها مطّردا في رسم لوحات الخيال، ذلك الخيال الذي يعد هو الراعي الرسمي لكل تفاصيل القصة وحبكاتها، وهو المغذي لتربتها، مخصبا لجذورها وعوامل اختزالها وتكثيفها كيخْضَور يمد الحياة والطاقة لشخوصها. أيضا مدى تجاوب القارئ وامتزاج مشاعره وأحاسيسه من خلالها التجربة الشعورية الحاضرة.
فعمر -هذه القصة- خمسة وثمانون عاما، وكأنها بالأمس القريب في ذهن المتخيل، فلا زمان للحب ولا مكان له..
إن البناء الفني للقصة (ليلة الزفاف) رغم مباشرة القصة وبعدها عن الغموض وكثرة التأويلات والرمزية المقحمة المستعصية على التأويل والافتراض، كان متقنا متوفرا بأدواته محيطا بالحيثيات المتعلقة لكل من (الباث والمتلقي) وما يدور في وعيهما، وهنا يكمن نجاح العمل (إثارة ذهن المتلقي، وتصوره لكل تفاصيل الحدث دون أن يلجأ القارئ للبحث في المعاني المستعصية والأحداث المتداخلة المضيعة لحبكة القصة، فجاءت الحبكة “محبكة” متقنة متينة، حتى وإن شرد الذهن فإنه لن يضيع بداية الخيط إلى أن يهتدي حتى نهايته) وهذا ما اتسمت به قصة (ليلة الزفاف) للبوري في تناسق سردي متوازٍ مع سرد الأحداث وتفاصيلها.
فالرصف الجيد لمتن وحبكة القصة كما في عرض البوري / الوصف المكاني وتماهيه مع حالات النشوة والفرح وانكساره عند صورة البطل العابسة قائد الموكب، ينفصل روحيا عن حالات المكان، تراوده ذكريات تتكسر في كل ركن من النشوة، حالة من الخيبة والتردد تجعله يتقهقر ويعود ليتصل بالمحيط ثانية، فيحتدم الحوار الداخلي النفسي الدرامي في شكل “فنتازيا” تتناور مع اللحظة، لتشتعل في خاتمة مؤلمة.
ينتابه الحوار من جديد لو كانت زينب باقية، حتى ألملم ثروة طائلة تشبع نهم والدها الشجع! الذي لا يعترف بصدق العواطف ويرى الحياة فيما يكسبه الإنسان.. (مراودة الأمل /كناية) أما هو فحطام لا يقدر على شيء سوى الحلم وتوهم الأمل.. ولكن بعد آمال متتالية يصبح سائق سيارة عمومية.
يستفهم البوري في قصته متعجبا (هل كان يدور في خلد خليل أن القدر سيجعله هو بشخصه سائق سيارة زفافها)؟! استفهام له قيمته البلاغية يفضي للتعجب..
استثارة للقارئ ليقف على خاتمة قريبة تتماوج فيها الدراما القصصية، ليتفاجأ فيما بعد أن خليلا العاشق يزف العروس لعريسها.. يسلم قلبه لغريمه! يا للمفارقات!
لم يفق من تلك الذكريات التي تقوده وتغيبه عن وعيه الحالي إلى وعيه الباطني ليمكث فيه برهة، حتى خروج تلك السيارة التي عاكست مسيرته، وإذ بالحبيبة معه تنعكس وجهها في المرآة التقت النظرات واهتزت القلوب، ارتعشت الفرائص، تنهدا كثيرا، كان يلومها.. وكانت تستغفره كل ذلك تراءى في عينيهما، واستنفر الدمع من عينيها، ولكن الأمل بتلاشي الحياة… كان آخر ما حدث نفسه به: تسكعه في الحانات بعد خسارتها… ولكنها لم تكن أقل شأنا منه، حينها ستكون حياتها بائسة مع رجل عجوز ثري لا تحبه، كان التمرد شاخصا في قلبيهما.. يريدها وتريده.. ولمعت فكرته المروعة (واستولت عليه فكرة مروعة هائلة ولمعت عيناه ببريق غريب) وصفه القاص ببريق (وحشي) كناية عن النهاية المؤلمة الذي كان على إثره صراخ زينب ما إن قرأته في عيني خليل رعبا وهلعا؛ انحرفت السيارة وكانت على أعلى الباكور.. وهوت الأحلام والآمال في وادٍ سحيق.. تلاشى الحب.. واللقاء الأخير، ترافقت الجثتان (خليل وزينب) ونقلا؛ في رسالة مضمرة إلى البيت الذي كان ينتظر العروس!
تضافرت الأدوات التي كانت في يد القاص وهبي البوري، وأتقن استعمالها فنيا وأدبيا على قصته، فجاء السرد ماتعا مشوقا لعب فيه الخيال، ورسمت الشخوص بفنية عالية، جاءت القصة مكتملة البناء الفني في شكل درامي مختزل لكل لحظة، لم يهمل القاص المكان ووفرته، ولا الزمان وبساطة العيش فيه، حتى أن القارئ يكتشف الأزمنة من خلال ما عليه السرد من بساطة التكوين والحوار الداخلي في نفس البطل، سيكتشف من خلاله الحالة السياسية والصراع الطبقي في المجتمع خلال تلك الفترة، وسيسترق السمع للأشياء التي لعب الفن بدوره عليها دور الأنسنة وتجسيدها في صورة حية ليصبح كل جزء في القصة موضعا حيويا يضفي على الحبكة إشارات رمزية وعلامات دالة في سيمولجيا متوافقة لرسم معالم أول قصة قصيرة كتبت في ليبيا دون تكلف أو تموضع ما أو صبغات مصطنعة.
وجاءت المستويات متناسقة في جدلية عالية التأثير النفسي، فالمستوى الدلالي توفرت من خلاله شخوص القصة بأبطالها دون تفصيل يخل ببناء القصة، كذلك الأمكنة ومسمياتها بالوصف والتلوين.
العنوان الشعوري في دلالة شعورية منكسة على الإحساس بأجواء القصة كــ(لحظات الترقب / الذكريات المختلطة/ الألم النفسي/ الحوار الداخلي/ التقاء العينين (منعطف خطير لإنهاء حياة بأكملها/ التندم/ الإصرار/ التوجس/ العتاب/ اللوم/ الحسرة/ التغول في لحظة معينة/ الصراخ بعد الاستفاقة/ النهاية)
السواكن المتحركة الصامتة أو ما نسميها بالصوامت هي التي لعبت دورا كبيرا في قصة ليلة الزفاف، وقد أجاد القاص توظيفها توظيفا فنيا.
الدلالة الرمزية… إلام ترمز القصة؟ التفاوت الطبقي سبب رئيس في تلك الفترة للتفريق بين المتحابين، الفقر والتعاسة يقتلان روح الحب.. عودة الحب من تحت الأنقاض إلى اللا شيء..
الدلالة الاستدعائية (الوعود… التهويمات.. الانتظار.. الغفلة الموجبة للضياع..
إرهاصات القصة
تكتمل صورة الحب بالذكرى الملحة، فقد جاءت هذه القصة في لحظة تنويرية تشق صدى الزمان والمكان لتظل إشراقة الروح في تمردها على ظروف الحياة الصعبة التي تكبل الإنسان في أن يصل إلى مبتغاه، ودور القدر في رسم ملامح الحياة غير المتوقعة، فالخاتمة المدهشة التي رسمها البوري غير متوقعة، لربما كان القارئ يظن أن السائق سينعطف بحبيبته بعيدا عن كل العيون، لكنه اختار أن يكون المكان انقطاعهما عن الدنيا لتلتقي روحان في آن واحد بعد شقاء آيس من اللقاء.
_________________
*ليلة زفاف؛ أول قصة ليبية لرائد القصة القصيرة القاص وهبي البوري سنة 1936 وقد نشرت في صحيفة ليبيا المصورة في تلك السنة.