عبد الحميد بطاو.. اسمٌ شعريٌّ لامعٌ لا يمكنُ أن تخطئَهُ الذوائقُ المأسورةُ بالشِّعرِ، ولا أن تغفلَهُ ذواكرُ عُشَّاقِ الشِّعرِ اللِّيبيِّ بشقَّيهِ الفصيحِ والعامِّيِّ، ذلكَ لأنَّ بطاو يملكُ حسنيي القصيدِ، ويجيدُ إبداعَهما بالقدرةِ العاليةِ نفسِها التي يجيدُ فيها الرَّقصِ على حبالِ الشِّعرِ مثلَ سِركيٍّ محترفٍ.
عبد الحميد بطاو أيقونةُ الشِّعرِ النِّبيلِ، الشِّعرِ الثَّوريِّ المنافحِ عنِ الحقِّ، ليسَ الشِّعرَ الثَّوريَّ بمفهومِهِ الضَّيِّقِ المؤدلجِ، وإنما بمعانيهِ الإنسانيَّةِ العميقةِ، ومضامينِهِ الرَّاقيةِ الدَّاعيةِ للتَّحرُّرِ والانطلاقِ، والتَّمرُّدِ على القيودِ التي تكبِّل إرادةَ الإنسانِ، وتسلبُهُ إنسانيَّتَهُ أو بعضَها، بمجابهتِهِ للظُّلمِ والبؤسِ والاضطهادِ التي قد تطالُ الإنسانَ في أيِّ زمانٍ ومكانٍ..
شعرُهُ ثوريٌّ ينبذُ الذلَّ والهوانَ والخضوعَ والانكسارَ والاستعبادَ، ينحازُ للإنسانِ قيمةً مطلقةً، للإنسانِ المولودُ حُرًّا طليقًا، وينبغي لَهُ أن ينعمَ – دومًا – بالحريَّةِ المُثلى، بلا أدنى قيودٍ ولا حدودٍ ولا سدودٍ.. لذلكَ ظلَّ بطاو – الشَّاعرُ الإنسانُ – نصيرًا للمستضعفينَ، صارخًا في وجهِ الظلمِ بأصواتِهِم، راكلًا صورَ الاستعبادِ القبيحَةَ بشعرِهِ العاصفِ، مُناطحًا العتَاةَ والبُغَاةَ والطُّغاةَ، دونَ أن يجعلَ شعرَهُ رهينَ المحلِّيَّةِ المكانيَّةِ، وأسيرَ جغرافيا ضَيِّقةٍ، فأطلقَهُ شعرًا إنسانيًّا عابرًا للحدودِ بقيمِهِ ورؤاهُ وقضاياهُ، عابرًا للقلوبِ بصدقِهِ وعفويَّتِهِ، مستقرًّا فيها بلا مغادرةٍ، بلا نسيانٍ.. وبلا استئذانٍ أيضًا.!
بطاو هذا الشَّاعرُ المشاغِبُ، المشَّاغِلُ، ذو الألفاظِ المُرعبَةِ، والتَّعابيرِ المُربكةِ، والمضامينِ الصَّادقةِ، يحملُ في أعماقِهِ رُوحَ طفلٍ لا يكبرُ.. يغضبُ بسرعةٍ، ويرضى بسهولةٍ.. يحملُ قلبًا كقارَّةٍ، وأحضانًا مثل كونٍ مكتملٍ..
بطاو المفتونُ الأبديُّ بالجمالِ، المشغولُ – دومًا- بالحُبِّ، المعنيُّ بالصَّداقَةِ الحقَّةِ، محبٌّ صدوقٌ لوطنِهِ، متيَّمٌ مزمنٌ (بدرناه) الفاتنَةِ السَّاحرَةِ، مسقطِ قلبِهِ، ومُلهِمَةِ شعرِهِ، ومرتعِ تجارِبِهِ، وساحِ تحاربِهِ وتحاببهِ، وميدانِ تقاربِهِ وتجاذبِهِ وتعاتبِهِ..
بطاو المحتفي بالوطنِ قيمةً لا تتغيَّرُ، ونعمةً لا تُنكرُ، فردوسًا أرضيًّا لا يُجحدُ ولا يُكفرُ، وبالأصدقاءِ شموعًا تنيرُ عتماتِ الحياةِ، المتغَنِّي بالطُّفولةِ هِبَةً ربَّانيَّةً لا تعرفُ الزيفَ ولا الملقَ، مُسَوِّغًا حقيقيًّا للنَّقاءِ، ومروِّجًا فعَّالاً للجمالِ والبهاءِ..
الشَّاعِرُ فيهِ أبديُّ الشَّغبِ والمشاكسَةِ، دائمُ الافتتانِ بالحياةِ والأشياءِ، لا يتوبُ ولا يؤوبُ، ولا يتقاعدُ.. ممعنٌّ أبدًا في عشقِهِ البريءِ، في حبِّهِ الصَّادقِ فلا يتوقَّفُ عنِ شغبِهِ ولعبِهِ وطربِهِ وغضبِهِ، ولا يتجافى عن شغفِهِ ولهفِهِ..
تتجلَّى إنسانيَّتُهُ بتفاصيلِها الشَّائقةِ، الشَّاهقةِ في بساطتِهِ المغموسَةِ في طيبةٍ غيرِ مصطنعةٍ، وتذوُّقِهِ للجَمَالِ فيه، ومن حولِهِ، يشاركُ في صنعِ الحياةِ المشتهاةِ لشاعرٍ مثلِهِ بما ينضجُ في قلبِهِ من قصائدَ، وبما ينمو في روحِهِ من محبَّةٍ، وما تسيلُ على شفتيهِ من ابتساماتٍ، وما يطفو في دواخلِهِ من قلقٍ منتجٍ.
كثيرونَ لا يعرفونَ أنَّ عبد الحميد بطاو رائدُ المسرحِ الشِّعريِّ اللِّيبيِّ، وأهمُّ من كتبَ له بإخلاصٍ ووعيٍ كبيرينِ..
لا أريدُ أن أعرِّجَ على تورِّطي الحميمِ في صداقةٍ عميقةٍ دافئةٍ، مُظَلَّلَةٍ بالمَحبَّةِ الخالصةِ، والودادِ النقيِّ تمتدُّ لأكثرَ من عشرينَ عامًا..
سأتركُ ذلكَ له..
وأعدُكم بدراسةٍ عميقةٍ تمضي بعيدًا في غياباتِ قصائدِهِ، تنبشُ خفايا شعرِهِ، وتبينُ كثيرًا من مجاهلِهِ الآسرةِ، وتستجوبُ أعماقَ الشَّاعِرِ، نبضةً نبضةً، شهقةً شهقةً.. لهفةً لهفةً..