يحظى التصوّف الإسلامي بتقدير لافت في مجال الدراسات الغربية المعاصرة، وهو تقدير نابعٌ بالأساس من فرادة تعاليمه وممّا يطفح به نهجه من محبّة ورأفة واحتضان للخَلق أجمعين. وبوجه عام تترافق موجة الانجذاب للتقاليد الروحيّة الإسلاميّة مع هدوء نسبي في دراسات الإسلام الحديث، بعد أن خفتت موجة النظرة المتوتّرة والعُصابية، التي غالبا ما تحكّمت بمقاربة الدارس الغربي لقضايا الإسلام السياسية والتاريخية. في غمرة هذه الأجواء المتداخلة يحضر التصوّف مدخلا تصحيحيا لتلك العلاقة المأزومة جراء القلاقل السياسية. والمتابع لمسار اكتشاف العمق الروحي الإسلامي في الغرب يرصد مرور مقارَبة التصوف بعمليات تصحيح، حتى بلغ إلى ما هو عليه. نشير إلى أنّ جملة من الدراسات الغربية المبكّرة، التي انشغلت بالتصوّف الإسلامي، قد اعتبرتْ المبحثَ دخيلا عن المكوَّن الحضاري الإسلامي ولا يمتّ له بصلة؛ ولكن مع تطوّر الأبحاث، تراجعت تلك الأطروحة المنكِرة والجاحدة لتفسح المجال لرؤية أكثر اتّزانا.
وكتاب “العلم اللدني الإسلامي” الذي نعالجه، يندرج ضمن دراسات التصوّف والروحانيات الإسلامية بشكل عام، وهو من تأليف أستاذ الدراسات الإسلامية الإيطالي ألبيرتو فينتورا (من مواليد روما 1953). فهو في الوقت الحالي يدرّس في جامعة كالابريا، وقد سبق له أن نشر مجموعة من الأعمال في الشأن، نذكر منها: (حكمة المتصوّفة: المذاهب والرموز والباطنيات، منشورات الميديترانيه)؛ (الإسلام، مؤلّف مشترك مع خالد فؤاد علام وكلاوديو لوياكونو، منشورات لاتيرسا)، (تاريخ الحلاّج الشهيد، منشورات مورشيليانا)؛ كما نقل بعض نصوص الحلاج إلى الإيطالية بعنوان: (مسيح الإسلام، منشورات موندادوري) وترجم (ديوان الحلاج، الصادر عن دار مارييتي)، وأشرف على كتاب جماعي بعنوان: (حياة محمد وأقواله، موندادوري). وقد سلك الباحث فينتورا في سائر أعماله مسلكا متّزنا يذهب إلى أنّ التصوف الإسلامي بلغاته المتعدّدة، وبمدارسه المتنوّعة، هو نابع من عمق الفلسفة التصوريّة الإسلامية، وأنّ مقولاته ومصطلحاته ومساراته هي وليدة منهج ديني حضاري عاش في أحضان الحضارة الإسلامية وتطوّر داخلها.
جاء الكتاب بعنوان “العلم اللدني الإسلامي” أو لربّما صحّ أيضا عنونته بـ”العلم الإشاري الإسلامي” أو كذلك “علم الباطن الإسلامي“، وقد حاول فيه صاحبه عرضَ بواطن فلسفة التصوف الإسلامي، وبِنْية الرمزيات الدينية الإسلامية، من خلال التطرّق إلى أصولها ومبادئها الرئيسة بالشرح والتحليل. حيث وزّع المؤلّف كتابه إلى مقدّمة وخاتمة إضافة إلى تسعة معنونات تابعت قضايا الوحدة والمغايرة، والجواهر الخالدة، والمغايَرة والمشابَهة، والمادة الأولى وصورة الكون، والإنسان وعلاقته بالميتافيزيقا وغيرها من المواضيع. فعلم البواطن والأسرار والخفايا والرمزيات، على ما يرى الكاتب، هو بناءٌ رؤيويٌّ قائم الذات وفق أصول، تجد لها مشتَركا وتقارُبا مع تقاليد دينية شرقية أخرى في الهند والصين أساسا. فليس الكتاب دراسة سوسيولوجية ولا تاريخية لمبحث الرمزيات، بل هو دراسة ماهوية لتجارب تلامس مجال العرفان والتأويليات الباطنية. يحاول فيه المؤلف استدراج اللغة الصوفية القائمة على البعد التأويلي والباطني ليُقدِّم عرضا لجوهر فلسفة الباطن ودلالاتها الخفية في الإسلام.
وللذكر تجد هذه النوعية من الدراسات الباطنية هوى في الفكر الغربي الحديث والمعاصر، سيما بين المولَعين بعوالم الروحانيات والأسرار، حيث التقارب بين مجالات الروحانيات والرموز والتصوف، وهي ضربٌ من النظر يستهوي العديد في رؤية العالم والظواهر الكونية. يحاول ألبيرتو فينتورا الغوص في هذا الجانب من منظور اللغة الصوفية الإسلامية سعيًا للإمساك بالدلالات الخفية، سيما وأنّ موضوع التأويليات والباطن هو من المواضيع المطروقة في التقليد الصوفي.
صحيح أنّ الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي بمقولاته الفاتنة هو مصدر إغراء كبير لشرائح غربية مثقّفة تلج باب التصوف؛ ولكن تأثير الفرنسي رينيه غينو (عبدالواحد يحيى) (1886-1951م) يبقى لافتا أيضا في المحافل الروحية الغربية. فغينو من ذلك الصنف الآسر، لا سيما في أوساط المولَعين بالمدخل الرمزي والباطني الذي يلحّ عليه المؤلف المعروض، وألبيرتو فينتورا، ضمن هذا السياق، أحد المأسورين بتلك الرؤية. نشير إلى أن نهج رينيه غينو يُعَدّ مؤثرا في المجال الروحي عامة، بما تخلّله من تجوال بين تقاليد روحية كونية، تراوحت بين المسيحية والهندوسية والطاوية والبوذية وغيرها، إلى أن انتهى به المطاف عند التقليد الروحي الإسلامي الذي وجد فيه ضالته اعتقادا وإيمانا. فقد سبق أن تناول المفكر غينو قضايا علم الباطن في الإسلام، وذلك في مؤلف كلاسيكي بعنوان: “كتابات حول علم الباطن الإسلامي والطاوية“، فضلا عما تطرق إليه في مجموعة كتب أخرى، لقيت صدى واسعا في أوساط المولَعين بالأسرار ودراسات الباطن، ثم تناول المسألة لاحقا الفرنسي أيضا هنري كوربان من زاوية العرفان الفارسي خاصة؛ لكن في إيطاليا تخلو المكتبة الإيطالية من كتاب في المجال، ومن هنا يُعتبر مؤلَّف الإيطالي ألبيرتو فينتورا أوّل عمل باللسان الإيطالي على صلة بثنائية التصوف والباطن.
وبموجب هذا النقص في التطرق إلى المسائل الرمزية والباطنية ضمن دراسات الظاهرة الإسلامية في إيطاليا، يُعدّ الموضوع جديدا ورياديا، ولعلّ ذلك ما جعل المؤلّف يلقى حفاوة ورواجا سريعين، سيما وأنّ صاحبه يحظى بتقدير في أوساط الدارسين للمجال الروحي في الإسلام. والكتاب من حيث تركيزه على موضوع الباطن فيه من الطرافة والجدة، فهو دراسة تنحو للتأمل والتفكر في القضايا المعالَجة بعمق وروية، فضلا عمّا يحيل إليه من مَراجع ومَصادر. نذكر أنّ النوادي المنشغلة بالدراسات الباطنية والروحية والصوفية في إيطاليا قد احتفت بالكتاب، لِما يسلّطه من ضوء في جانب معتم عن التصورات الإسلامية مقارنة بغيرها من التراثات الشرقية الأخرى. والكتاب يمكن إدراجه ضمن فلسفة التصوف عامة، وإن كان معنيا بموضوع محدد وهو مسألة التأويلات الإشارية. عموما يأتي الكتاب متسقا مع المقاربة الرمزية والروحية التي ينظر منها فينتورا إلى التراث الديني الإسلامي.
لقد كرّس ألبيرتو فينتورا مجمل أبحاثه لدراسة التصوف الإسلامي وتناول الروحانيات وأدب الأسرار، وهو مرجعٌ في إيطاليا في هذا الحقل. يأتي كتابه الذي نعالجه ضمن مجال اهتمامه العام. ولا شك أنّ دراسة التصوف الإسلامي هي إحدى التفرعات المغرية اليوم في الغرب لما تثيره من سحر وافتتان. وبوجه عام غالبا ما ينزع دارسو التصوف منحى مغايرا لزملائهم في فروع الدراسات الإسلامية والعربية الأخرى، يتميز بالهدوء والرصانة وقلة الضجيج والإحجام عن الأحكام المسبَقة والمتنطّعة. ومن هنا يحاول فينتورا في مؤلفه الدفاع عن أطروحة أن “المظاهر الروحية الناعمة” المشوبة بالمحبّة واللّطف في التراث الصوفي الإسلامي، هي مما يعبّر عن وجه أصيل من وجوه الإسلام. لقد تميزت الرؤية المعرفية لألبيرتو فينتورا في التعاطي مع الفكر العربي ومع الأدبيات الدينية برصانة وروية، خلت من التنطّع أو الأحكام المستعجلة. فهو غالبا ما ينحو في مؤلفاته باتجاه التحليل الهادئ والموثّق. ولم يجار الادعاءات المغرضة التي تتّهم الحضارة الإسلامية، أو تلك التي تشكك في قيمة المخزون الروحي الإسلامي المنفتح على الآخر والمحتضن للمغاير، فغالبا ما سعى جاهدا في حواراته وكتاباته إلى التنبيه إلى هذا الوجه المغيَّب من الحضارة الإسلامية. وكان دائما حريصا على عرض رؤية محايدة عن الإسلام مستلهِما مقوماتها من المقولات الصوفية التي يرتئي أنها الأقرب لعرض الصورة الصادقة عن الإسلام. وفي الواقع لم يكن اختيار دراسة التراث الروحي الإسلامي خيارا ظرفيّا مع فينتورا لمواجَهَة التوتّر الذي أجّجه “الإسلام الجهادي” أو “الإسلام السياسي”، في الفترة الأخيرة، وما خلّفته تلك الظواهر من أثر عميق وارتباك في انشغالات الباحثين الغربيين وعلى مواقفهم. حيث يأتي اهتمامه نابعا من شغف دفين وقديم بهذا الحقل.
نشير إلى أن فينتورا يجمع بين ضربين في هذا الحقل، فهو من ذلك الصنف المولع بالمقولات الإسلامية وبغيرها الواردة في تراثات أخرى في الشأن، وهو كذلك دارس متمعّن في تلك المجالات، ومن هنا قارَبَ التصوّف الإسلامي بأسلوب بارد واختار فيه استراتيجيا حوارية مسالمة. الأمر الذي بوّأه منزلة متقدّمة في مجال دراسة التصوف دراسة رصينة في إيطاليا، حيث يحوز تقديرا في أوساط الدارسين للظاهرة الصوفية وفي أوساط الذين يعيشون تجربة روحية من الغربيين، على حد سواء.
اعتمد ألبيرتو فينتورا في كتاب “العلم اللدني الإسلامي” على بيبلوغرافيا متنوعة: إيطالية وإنجليزية وفرنسية وألمانية وعربية وفارسية، حازت المراجع العربية والفارسية قسطا مهمّا. فالكتاب يكشف عن اطلاع صاحبه على أمهات كتب التصوف، إلى جانب اطلاعه على الدراسات النقدية والتحليلية المدونة في اللغات الغربية، وقد وجدت تلك المصادر والمراجع توظيفا جيدا في الكتاب. وإن كان، بوجه عام، لا يُغرِق عمله في الاستشهادات والاستطرادات، لذلك تجده لا يثقِل على القارئ بالمدونة الصوفية ولا يستدعي منها إلا ما اشتهر وما اقتضت الحاجة إلى ذكره. يعتمد ألبيرتو فينتورا في جلّ أعماله منهجا تحليليا في تفسير الظاهرة الصوفية. وفي كتابه الحالي ينزع إلى تبنّي منهج تحليلي فلسفي، وبموجب إلمامه الواسع بمضامين أمهات المدونات الصوفية العربية والإسلامية، ثمة قدرة لديه للتعاطي مع ما هو أصيل وما هو دخيل في التجارب الصوفية الإسلامية.
كما يتميز منهج القراءة للظاهرة الصوفية الإسلامية عند فينتورا بالإقرار بأصالة المكون الصوفي الإسلامي، فهو تعبيرة أصيلة، وفق منظوره، نابعة من روح الفلسفة الوجودية الإسلامية. إذ غالبا ما نلحظ انتزاع المظاهر الراقية في الثقافة العربية الإسلامية مع دارسين آخرين، ومحاولة إرجاع أصولها ومكوناتها إلى مصادر خارجية. وهو ما حاول فينتورا تفنيده وإبراز زيفه، عند الحديث عن مكونات التفكير الصوفي الإسلامي، باعتباره لغة روحية تستمد مقوماتها من داخل إطارها الحضاري.
لغة المؤلَّف لغة أكاديمية، وصاحبه على دراية جيّدة بالمصطلح الصوفي وباللغة الصوفية الرمزية، في اللسانين العربي والإيطالي. وعلى العموم نرصد وضوحا في لغة الكاتب، كما أنه يتفادى التجريد والغموض في حديثه، بل يحاول عرض المفاهيم والأفكار التي يدور حولها البحث في لغة واضحة وراقية. إذ تأتي لغة المؤلف تفسيرية للمقول الصوفي بمختلف دلالاته، محاولا الكاتب تقريب المعاني من ذهن القارئ الغربي، وقد يسّر له ذلك تمكّنه وإلمامه بمفاهيم الحقل الدلالي الصوفي في اللغتين العربية والإيطالية، وهي قدرة قلّما توفرت للباحثين الإيطاليين الذين يقاربون القضايا العربية لتدنّي تكوينهم في العربية.
لم يتضمّن الكتاب فهارس من أيّ نوع كان، سوى فهرس يتيم لمواد الكتاب وهامش في آخر المؤلف، تعلّق بالمصادر العربية والفارسية، تناول بالأساس بعض الكتّاب العرب والفرس وأعمالهم، ممّن استعان بهم المؤلف في تدبيج كتابه. كما لم يعتمد الكاتب الرسوم والجداول والخرائط كوسائل لإيضاح مضامين البحث، ولعلّ ذلك عائد إلى أنّ المؤلف ذو صبغة فكرية تحليلية ورمزية، وهو ما جعل صاحبه يعتمد اعتمادا رئيسا على شرح المفاهيم ونقدها وإرجاعها إلى أصولها دون العناية بالوسائل الإضافية.
يخاطب الكتاب قارئا ملمّا بخبايا النص الصوفي وبالمقولات الروحية الباطنية، وهو فضلا عن كونه نصا خارجيا في دراسة الظاهرة الصوفية، فإنّ مؤلفه يبدو ملمّا أيضا بأحوال التصوف ومدارجه، يكشف من خلاله عن عيش تجربة صوفية مشفوعة بمعرفة علمية خارجية.
يبقى أن نشير إلى بعض القضايا، فقد يتساءل المرء عن دواعي الانجذاب للتصوّف والتجارب الروحية في الغرب في العقود الأخيرة. لتحضر الإجابة الفورية عن تخمة الغرب المادية وبحثه الدؤوب عن شيء مما يداوي به روحه من الشرق. لعل ذلك تبسيط مخاتل للأمور؛ فالواقع أنّ في الغرب ثمة مراجعات عميقة متوالية تستند إلى تفكيك وتركيب دائمين، وهو ما يدفع للإصغاء إلى صوت الآخر وتجاربه، ولا بأس إن كان حتى بتحويلها إلى مادة استهلاكية مدفوعة الأجرة في نوادي الرياضة الروحية واليوغا والتأمل والاستبطان، كما يجري مع البوذية التي تشهد تطورا لافتا في العديد من المجتمعات الغربية.
كما نودّ أن نشير من جانب آخر إلى أنّ الساحة الثقافية الغربية في السنوات الأخيرة، قد شهدت العديد من الإنجازات والأبحاث القيمة في مجال دراسة التصوف، بَيْد أنّ جل تلك الأعمال قد ظلّت حبيسة اللغات الغربية لغياب الاهتمام العربي بالترجمة في هذا الجانب، سيما وأنّ ما يميز تلك الدراسات في المجال وهو اعتماد مناهج مقاربة مغايرة، مثل علم النفس العام وعلم النفس الاجتماعي وأنثروبولوجيا الأديان وعلم الاجتماع الديني وغيرها من العلوم، مما يفتقد إليها الدارس العربي أو يأتي باهتا لديه.
الكتاب: العلم اللدني الإسلامي.
تأليف: ألبيرتو فينتورا.
الناشر: منشورات أديلفي، (ميلانو) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2021.
عدد الصفحات: 212 ص.