القرش
القرش الذي هاجمني على شاطئ الشابي قال لي لست من بحركم.. لكنه الجوع.. لكنها الأمواج.. لكنها الظروف.. لكنها التيارات التي جذبتني إليكم.. بل لكنها أشياء أخرى سأبوح بها إليك.. قال لي أيضا: أنا آسف.. وداعا.. ضع على مكان العضة طحلبا وتفل بحر وقليلا من الرمل وتأمل في منارة سيدي خريبيش، وهي تومض وتنطفئ.. قلت له وهل تعرف منارة خريبيش.. قال بالطبع.. ما من قرش في البحر إلا ويعرفها.. عندما نحتاج إلى سكينة ودفء نقترب منها.. لكنها التيارات قذفت بي إلى هنا.. وكانت ساقك في متناولي.. وكنت جائعا.. إنهم يصطادوننا في أعماق البحار للظفر بزعنفتنا.. ولابد بين حين وآخر أن نفر من الجرافات وشباكها الوقحة إلى شواطئ آمنة لبعض الوقت.. أنا آسف.. لا تفهمني خطأ.. قرش بحر مغرر به، سجدت لله فوجدتني ساجدا لدجال، زج بي كي يفرهد مع صحبه وولده بضريبة دمي، قطعة اللحم التي نهشتها من ساقك لم أمضغها.. ها هي كما هي.. ألصقها مكان العضة.. وضع عليها الطحلب وتفل البحر والرمل.. وتأمل المنارة لتمنحك بركتها.. لا تقلق إن لم تومض الآن.. ثمة أزمة غاز في المدينة.. وهناك من سطا على اسطوانتها.. وباعها في السوق السوداء.. سوق دينارين.. إنها الحياة.. سوداء.. سوداء الآن.. لكنها ستفرج.. انظر إلى القمر إذن.. سيعوضك ومض المنارة.. علاج دون رؤية نور لا تعوّل عليه.. قمر البحر قال لي ذلك.. عندما جئته باكيا.. لأني أكلت رأس طفل غريق.. وعادت جثته إلى الشاطئ دون ابتسامة.
البطل
كانت أمي تضع على رأسي سفرة حديد مطقشة قليلا، بها ثلاثة أرغفة وقنان (رغيف صغير يخبز للأطفال)، أمشي بها ويدي مثبتتين عليها، أحيانا دون أن أمسكها بيدي، حفظ توازن ولّده تكرار الفعل كل عشية، لا أدري ماذا كانت علامة خبزتنا، فروين وقرصة أم قرصة وفروين (ثقبين ولمّة بإبهام وسبابة)، أسلم السفرة للكواش الأسمر وأنتظر مع بقية الأطفال، لا أذكر عما كنا نتحدث زمان، أذكر أننا كنا نضحك باستمرار، ونشم ونستنشق رائحة الخبز والكعك وهو ينضج.. عندما أصل إلى الكوخ بالخبزة ، أخذ القنان الصغير ، أشق وسطه بأصابعي وأملأه بزيت الزيتون وطماطم العلب والفلفل الأحمر ، وإن صادفتني في الكويجينة حبّة طماطم طازجة ، أضعها في وسطه وأضغط على جانبيه ، فتنفجر داخله ، مانحة الرغيف طراوة ولذة وحياة ، أصعد فوق الكوخ لأكل على مهل ، من حي رأس عبيدة ( مكان سكني طفلا ) أرى الشمس وقد غربت ناحية الميناء ، وأرى منارة سيدي خريبيش على شاطئ بنغازي ، وقد بدأت عملها الرتيب في الومض والانطفاء ، وأرى كذلك القمر في السماء ، وهو ينصت لصوت الآذان ، القادم من عدة مساجد قريبة ، في أحياء سيدي حسين والسلماني و الرويسات ، وبينما أنا في زمني المبهج هذا ، أسمع أمي تناديني: ” انزل يا ولد من فوق البراكة ” ، أبوك جاء من الشغل ” .
كان أبي يعود كل مغرب من عمله في البناء، بثلاثة أكياس ورقية، كيس برتقال وكيس موز وكيس تفاح، أقول لهم لا أريد عشاء، شبعت من القنان، وأتناول ثلاثية الفواكه، ثم أجلس قرب الفنار.
يضع أبي كماشتي البطارية السائلة الشبيهة بالبلاطة السوداء، على حلمتي السالب والموجب، ويفتح تلفزيون الشارب 14 بوصة، وبعد انتهاء الرسوم المتحركة القط والفار يقول لي: هيا خلاص انطمر (اختبئ) في فراشك تصبح على خير “. أطفال الشارع يتحدثون عن مسلسلات مشوقة يشاهدونها في التلفزيون، مسلسل القط الأسود وغيرها، لكن أبي يسمح لي بمشاهدة الرسوم المتحركة فقط، وكل عشية جمعة يعطيني 5 قروش لدخول سينما الشعبية بالسلماني بثلاثة قروش ونصف، وبعد أن أعود يسألني عن الفيلم، فأحكي له عنه بحماس وأمي تنصت إلينا من المطبخ وتبتسم.
عموما كان أبي يحزن مثلنا، عندما يعرف أن بطل الفيلم مات، وكنا نحب الأفلام التي لا يموت فيها البطل، وكنا دائما نسأل بائع التذاكر، قبل أن نقطع التذكرة وندفع النقود، هل البطل يموت أم لا؟ فيقول: يا بني كلنا نموت، ونلح عليه ونستحلفه بسيدي عبد السلام الأسمر وبن عيسى، فيقول يموت من أول الفيلم، فنقول له شكرا شكرا، وننشر الخبر بيننا، وأيضا في المدرسة والشارع والكوشة ولا ندخل إلى الفيلم، ونشتري بدلا من تذاكر الفيلم سندوتشات حرايمي وفاصوليا وقلايا من مطعم عبد العظيم، ونسمع لاحقا، أن بائع التذاكر قد تعرض للتوبيخ والتهديد بالطرد من صاحب السينما، لأن الكراسي معظمها صارت خالية، وطلبت منه إدارة السينما، أن عمله يخوله أن يقطع تذاكر وحسب، ولا يحكي عن الفيلم أبدا.
الآن أحب أي فيلم يموت فيه البطل.. أحب أن يموت البطل في أي مجال، صرت أكره البطولة.. سواء كانت حقيقة أم زيف، سواء كانت من حديد أم من ورق، لقد ضيع البطل مستقبلنا، وعلينا أن نضيّع أسطورته لنستعيد أنفسنا، لقد تم فصل قاطع التذاكر المسكين لاحقا، لأنه فعلا قال الحقيقة.. “البطل يموت من أول لقطة “.. لابد أنْ تقول أنّ البطل لا يموت، كي يدخل الحياة أو الفيلم كل الموتى.
بني غازي حزينة هذا المساء
بني غازي حزينة هذا المساء … رواد المقاهي قلة.. رواد المطاعم قلة.. السيارات في الشوارع قلة.. المارة قلة.. حداد تلقائي يلف كل المدينة.. لا ضحكات.. لا ابتسامات.. لا دموع.. لا بكاء.. لا شيء سوى التجهم.. الغضب.. شباب يقفلون شوارع بإطارات مشتعلة.. دخان أسود يتصّاعد إلى السماء.. جامع يرفع الآذان.. مصلون قلة يدخلون المسجد.. في العلى غيوم.. نجوم.. قمر.. شمس.. إله.. مطر خفيف جدا لا تكاد ترى قطراته.. أنا حزين جدا الآن.. لا رغبة لي في أي شيء.. أقود السيارة في حالة ضياع.. أعمدة النور المطفأة تتجنبني.. الحياة في المدينة نعم مستمرة رغم الحزن.. لكن دون بشر.. أعمدة الشاورما تدور دون زبائن.. الشاورمان السوري يمسك بالسكين الطويلة ويقطع شفرات طويلة.. يلعب فيها سريعا ليحولها إلى أشلاء ضئيلة.. رشة ماء من علبة منظف زجاج، يطفئ بها الشحم المشتعل.. ويبتسم قائلا: “ولو الحال من حاله “.. حلواني بوعشرين لا زحام عليه.. مقبرة سيدي عبيد كئيبة جدا.. سورها متصدع.. تعطس قربه يسقط.. لم أجد الدواء في الصيدلية المقابلة للمقبرة.. سألني الصيدلي: “أين الجرح؟ ينبغي أن أراه كي أصرف لك الدواء”.. مددت له سبابتي.. تفحصها.. لم ير جرحا.. رأى أثرا قديما لبصمة.. حبرها قار.. عار.. لم يصرف لي الدواء.. وفهمت أن الدواء في عين من انتخبت.. لكن لا أذكر أني انتخبت أحدا.. بل لم أحضر أي عرس في حياتي سوى أعراس المرسكاوي.. أعراس الحبر لا تروق لي، وقد تروق لي أعراس الكحول المحلي (القرابا).. خرجت من الصيدلية واتجهت صوب البحر.. شاطئ الصابري.. الحزين جدا.. الرامي أمواجه على الإسفلت احتجاجا.. مطاعم الأسماك.. الخشم.. باله.. بيت الحوت.. كلها كابية بائسة.. زبائنها قلة.. حوته ضخمة مقطوع رأسها تتدلى من المخطاف.. سيارة أو سيارتين واقفتين تنتظر طلبيات لحوت بشري دسم.. الأمواج تبصق على الصخر.. سيارات قلة تجري في الاتجاهين.. قلة من أعمدة نور مضاءة وقلة مطفأة.. وقلة منبطحة أرضا من حوادث السيارات.. لا أدري أين أذهب.. لا رغبة لي في شيء.. حتى في الحياة التي لا أضمنها أن تستمر دقيقة.. البارود يلعب مع دفاعي مهاجم صريح.. يلتصق بي حتى في الأحلام.. سبابة قناص قد تقضي عليك في أي لحظة.. عدت إلى البيت.. دخلت المرحاض تبولت وتقيأت وبكيت ثم فتحت النافذة على مصراعيها.. حشد من البعوض ينتظر أمامها كي يدخل.. يا مرحبا بالبعوض.. تفضل امتص دمي على راحتك.. لا تبقي في قطرة واحدة.. حتى دم وجهي خذه لا حاجة لي به الآن.. ليت وجهي بدون دم، كي أمشي أموري الحياتية قليلا.. ليت يدي تصل إلى مؤخرة مناضل، لأمسح ببعض نضاله القذر على وجهي.. اللعنة أيها البعوض.. سأحتمل قرصاتك.. ولن أضربك بكفي.. أو أصعقك بنيون الصعق.. فأنت ليس غريبا عني.. فحتى أنا مصاص دماء مثلك، وكل الدماء التي تجري في عروقي أو تمشي الهويين على كرشتي، سرقتها امتصاصا من آخرين، مسببا لهم فقر دم مؤلم.. لكن أيها البعوض.. نحن نتألم كثيرا في بنغازي.. الدبابير تهاجمنا بشراسة من كل ناحية، ولا قبل لنا بها.. نحتاج إلى أي حل.. نحتاج إلى مساعدتك.. أيها البعوض تفضل امتصنا أنت، وقاتل الأوباش نيابة عنا.. بنغازي لم تعد ربايه ذابح.. الدوائح يحاولون تربيتها الآن.. بإمكانك أن تحاورهم أن تقنعهم أن تبعدهم عنا.. بإمكانك أن تسبب للمجرمين إزعاجا فعالا، يجعلهم يفكرون في حك جلودهم، ولا يفكرون في قتلنا على غير قبلة.. أيها البعوض نحن عجزنا وقل تبلدنا.. الموت يأخذنا ونحن نختبئ.. ليتنا نخرج حتى لنتفرج.
الهلال الأحمر
زمان كنت أحب بنت، تعمل في جمعية الهلال الأحمر بني غازي، وكنت دائما آتي للهلال الأحمر، كي أتبرع بالدم، وذات يوم جئت، فقالت لي: يكفيك تبرعا يا محمد، بهذه الطريقة دمك ينزح.. فقلت لها يعني خلاص نلتقي ومافيش داعي لمزيد من النزف.. فابتسمت.. وذات يوم لا أعرف من بص فيَّ للإدارة أو لأهلها.. وتحصلت على توبيخ قاسٍ من واحد فرو.. ضمن التوبيخ أنت ما تحشم.. أنت ماعندكش دم..