من الخزانة
في السؤال اقتباس من سؤال قديم طرحه الأستاذ خليفة التليسي.. هل لدينا شعراء؟ هكذا تساءل الأستاذ خليفة منذ أكثر من خمسين عاما، الآن أجد نفسي أمام سؤال آخر ليس ببعيد عن السؤال الأول إن لم يكن وجهه الآخر، فبين الوجهين وشيجة لم يعترف بها النقد، وهي أن الأغنية شعر وإن عبرت عن ذاتها بلغة عامية تخرج عن بحور الخليل وتفعيلات المحدثين، وأحيانا حتى عن رقابة قانون المطبوعات ومحرماته، وهي أيضا وإن تكن بعيدة عن شروط الشعر الفصيح، إلا أنها وعلى مر الزمن الأكثر حضورا والأسرع استجابة في التعبير عن واقع الفرد مهما اختلفت وتباينت درجات وعيه وثقافته وتعليمه ومكانته وجنسه، إذ أن مرجعيتها الحقيقية هي الحياة في تفاصيل نسيجها، ومن هنا يجب التعامل معها باعتبارها مكونا ثقافيا يؤدي دورا خطيرا في إثارة وعينا وتشكيله ولو مؤقتا تجاه الظواهر والحوادث الاجتماعية والسياسية، ورغم ذلك ركب النقد رأسه وأصدر فرمانا غير مكتوب بإقصاء الأغنية وشعرائها، وارتضى لنفسه النظر بعين واحدة غافلا عن نهر يتدفق تحت قدميه.
المعنى أن النقد عزل الكتابة بالعامية واكتفى بتصيد من يخرج عن صراط الخليل وقوافيه في الشعر الفصيح، وفاته أن العامية وليس الشعر الفصيح وحتى في عصر انحطاطها ظلت الأكثر قربا وفصاحة للتعبير عن وجدان الناس وهمومهم والأسرع في الاستجابة للتعبير عن كل متغير اجتماعي أو سياسي، بل إنها وعلى مدى عمر تاريخ الإنسانية شكلت إلى جانب أنواع الإبداع الأخرى جزءا من ضمير الإنسان ووجدانه، بل إنها في أحيان كثيرة كانت وحدها المعبرة عن هذا الضمير، لذلك رددتها الذاكرة الشعبية وحفظتها حتى تحولت بعض نصوصها إلى تراث اجتماعي يترسخ جيلا بعد جيل، وليس هنا مجال لعلامة استفهام أو تعجب، ذلك لأنها هي الأسبق في الوجود منذ أن كانت همهمة و صوتا مبهما، قبل أن تتحول إلى كلمات على شفاه الشعراء، هي سابقة عليه في وجودها وسابقة عليه في لغتها، إذ حتى < آه > عندما تتردد على الشفتين يمكن أن تكون أغنية تحمل فيضا من مشاعر لا حد لها، ومع ذلك فقد غيبها النقد واستصغر شأنها أو رأى فيها خطرا على هوية الفصحى.
لذلك ظل مبدع العامية هامشيا داخل متن ثقافتنا، وهذه الإشكالية هي إحدى معضلات المثقف على وجه العموم، على أنه ومهما يكن للنقد من تبرير لهذا الموقف، فإن الأغنية تمثل مكونا ثقافيا بارزا في متن ثقافتنا ضمن مكونات ثقافية أخرى، ومن هنا كان عزل النقد للأغنية خطأ فادحا، وكان هذا من الأسباب التي أوصلت الأغنية إلى طريق مسدود وجدت نفسها فيه تنجز لغتها من تجربتها، والتجربة إن لم تمتلك وعيا بسؤالها سقطت في هوة الفشل والتخبط، لذلك استجابت الأغنية وهي تمارس لعبتها للكثير من الشد والجذب، هل نقول أن الأغنية وجدت وفي غياب ناقدها فرصة للعبث والتزييف خاصة عندما سكنت في دفء الخطاب الإعلامي،ماذا لو أن النقد رصد حركتها وتطورها.
ماذا لو أن النقد اعترف بها كما اعترف بالشعر الفصيح وكتب عنها الدراسة والبحث، هنا لا يغيظني إلا من يدعي بكبرياء أجوف أن الأغنية الليبية تجاوزت ناطحات السحاب في علو شانها، أو من يدعي بمعرفة يقينية فيقرر أنها انتهت وصارت نسيا منسيا، الأمر ليس هكذا، فما يبدعه الإنسان لا يتلاشى، إنه يتغير ويتطور وقد يسقط في مستنقع آسن، لكنه ومهما تكن صورته فما هي في النهاية إلا صورة من أبدعوه، فهل صرنا نحن كذلك؟
هنا لا بد من وقفة واعية أمام السؤال.. هل لدينا أغنية؟ وهنا نواجه عدة متغيرات، هي متغيرات اجتماعية وتاريخية وحضارية، اجتماعية لأن مجتمع الستينيات والسبعينيات ليس هو مجتمع الألفية الثالثة، وتاريخية لأن التاريخ لا يعيد نفسه، وحضارية لأن عصر العولمة لا يعترف بالذين يعيشون بعقلية مستبدة جاهلة ومنكفئة على نفسها، لنقترب من سؤال مهم، لماذا فارقت الأغنية الليبية واقعها؟ الجواب هنا متشابك، هل فارقت أم تم تفريقها، هل هناك من أقصاها وأصدر حكما بذلك؟ هل هناك من يحاول أن يغرس في المدينة أغنية هي ليست منها؟ أغنية تمتطي صهوة جواد الشعر الشعبي؟ ماذا عن لجان النصوص، من غيبها وصادرها؟ الحق إن هذه اللجان لم يعد لها وجود، فالنص لم يعد يأخذ طريقه للتلحين بعد إجازته، بل أخذ يقطع المسافة إلى الأستوديو بسرعة الضوء بفعل عوامل أخرى لا علاقة لها بجودته، عوامل يعرفها الملحنون والمطربون جيدا، لذلك لم يعد غريبا أن تسقط علينا الأغاني التافهة من السماء كمطر الشتاء، وماذا عن ما يسمى بالأغنية الوطنية؟ هل كانت حقا وطنية أم أنها شكلت فقط سبيلا فاضحا لهدر الأموال العامة استغله تجار المناسبات والمزايدون حتى سمعنا منهم لغة لا يستطيع عويل آلات الإيقاع الصاخب أن يخفي فجاجتها، وإن لم تكن أي من هذه، هل نعلن موت الإبداع في الأغنية الليبية..؟