النقد

مفتاح الخيميائي

الشاعر مفتاح العماري


أحس بالمتعة، عندما أكتب عن نصوص قد تجاوبت معها، لأنها استجابت لمقتضياتي، وهذا ما حدث معي هنا؛ مع الشاعر: “مفتاح العمّاري” الذي نفخ من روحه في رميم اللغة فأحياها. هذه اللغة التي تكهن بعض علماء اللغات بانقراضها، وجفاف معينها. لكن مثل هذا الناثر (شعرًا أو سردًا)، استطاع أن يبطل ادعاءات اللغويين أو تنبؤاتهم – ربما المغرضة – باعتبارها مكوّن هوياتي مستهدف، فأخرج لغة من ثوب ذات اللغة. وأثبت أن اللغة الحية هي التي تنتج مورثاتها ذاتيا، وتحوي سر بقائها، ومنحها طعمًا جديدا مغايرًا، وهذا ما سهّل علينا الاكتشاف، إن هذه المعايرة الدقيقة، والجمع المتجانس بين المفردات ” الأفعال والأسماء” لدى الشاعر مفتاح العمّاري، الذي تحول قرض الشعر لديه إلى هدف أعلى في الحياة، ولا يزال يعيش تدفقه الشعري، وتتشكل لديه رؤى فقهيه وفلسفية (شطح صوفي)، وما بعد المعنى، وهو يلقي أكسيره على اللغة بقريحة فذة. وبما أوتي من حس فنيّ مترفّع/ رفيع، ليحوّلها إلى شعر خالص. ولا تملك وأنت تقرأ قصائده، وهي تهزّ جذع الذاكرة بطيب، إلا أن تصرخ بملء الدهشة مقلدا أرشميدس: “يوريكا.. يوريكا”، ويدفعك لأن تتفق مع الإغريق الذين دعوا قرض الشعر ب (لغة الآلهة).

   كيمياء بطعوم ومذاقات لم نألفها من قبل، ولم نلتق بها، خلف أسوار النار التي حالت فيما بيننا وبين اللغة، توأم الذاكرة، لكسر جمودها، وتسريع إيقاعها المضمر، حيت نعثر على هذه الميوعة واللدانة، نعثر على هذا التطويع والتهذيب الذي أزال عن اللغة غشامتها، كمن يثني الخشب اليابس، أو يلوي الحجر، ليمنحنا مذاقا جديدًا مميزا، ويمنح القصيدة أناقة كاملة، وهنا يكمن سرّ الإعجاز الإبداعي للعمّاري. هذا التفوق الذي لا نظير له في مشهدنا على الأقل، في أخلاطه، وعجنه، وفرزه الدقيق للمفردة، التي كنا نظن أن الابتذال قد نال منها الكثير إلى الحدّ الذي أصابها معه البياد، وأصابنا معه اليأس؛ وقد حمل اللغة في صدره، وهنا على وهن حتى أضحى صانع ديمومة، وأثّال بقاء، بما قدمه للغة؛ لم نشهده إلا في نصوص شبه مقدّسه تنضح بالعرفان والبيان. نصوص عصية عن التقليد، انه يعاير ما يمنحه النص من لذة مطلقة؛ لقد فتنته القصيدة فافتتن باللغة، فهاتوا آذانكم وأسمعووووه وهو يمارس واحدة من لياقاته الشعرية إذ يقول:

من هذه الموسيقى

التي يرتفع صداها الحالم

كهدية متواضعة

للمعلقات العظيمة،

صنعتُ ربيعًا سخيًا،

وأطلقتُ راعيًا فتيًا يغنّي خلف شياهه،

ولم أنتبه للذئب،

وهو يصعد لاهثا

خلف الكلمات البريئة.              

بهذه البساطة العصيّه، تكون القصيدة هي وردة الغيب والتعب، هي وردة اللغة، عندما نستوحي الوجود، لنقبض على جذوة النص المطلق، المترفع عن المباشرة، والمجانية، بأسلوب راق ذو خزين معرفي هائل، ومدخرات ثقافية متكاملة. المعنى الجديد ضالة المبدع، والشاعر أبن اللغة وأبوها، وهذا ما ينطبق على شعراء قلائل من شعراء العربية.

هل هو من استلهم المرأة، أم هي ملهمته (ألهمته)؛ أنا رجل تفتحني أنثاي، أنا وليد أنثاي!                    

المرأة التي تفيض أمومة، وتفيض أنوثة. إسهامه هنا؛ دعوة إلى تأنيث العالم/ إلى تأنيث الزمان: –                                                                                                 

من هذه اللغة

التي تهطل من حلم الشوارع

صنعت ريحًا جريئة

لكي أختفي بين مدينتين

بين امرأتين

من ملح وغبار.

وكنت أبعد من أثر

وأخف من خيال.

الحياة تخصّب روح الشاعر التي حققت تباينها ولازالت تنشد الكثير، كي تمنحنا قصيدها، لقد انفلت من سطوة اللغة التقليدية المهترئة، وتخلص من الارتهان لها، وولّد لغته وقاموسه وتراكيبه، وخلطته اللغوية؛ فهو دائم التصنت لوقع أقدام الزمن القادم. يحدّد (أدغار آلان بو) الشعر؛ (بأنه خلق إيقاعي للجمال)، ولمفتاح العمّاري إيقاعه المضمر، والمتفرد، الموسيقى الصامتة، والعميقة الدانية التي تتدلى من النص، والتي تفوق الموسيقى الصاخبة والسطحية. لا لأي سبب لا نجده لدى غيره؛ بل لأنه أخلص لموهبته، وتفانى في معالجتها، وتهذيبها، ونأى بها عن التقليد، والتشبّه، ويضاعف جهده من أجل غايته، فهو يبلل اللغة ويترك روحه ناشفة. ليست موهبته كامنة في ترصيع النص بالمفردات التي يستحدثها، أو يشتقها بشق الأنفس، ولكن يظهر الجمال والذوق الرفيع في الفسيفساء النهائية للنص؛ لقد اكتفى بنفسه، وبنفسه بني قدراته الإبداعية على قلق، ومن قلق (عصامية الإبداع)، فميلاده الثاني كان من ضلعه الأيمن!

يخرج اللغة من إطار القولبة والجمود، ويذهب بها بعيدًا، ليمنحها دلالات جديدة وصيغ مختلفة، لم تخطر على بال سابق، فتصبح حمّالة معان، لبلوغ قمة اللغة، وذروة المعنى = اللا معنى، بذا يكون الشعر هو سقف المعنى، والمعنى هو سقف اللغة. انه يسقي اللغة، أو يلتها بماء روحه، كي تقول لنا أنها كائن يعيش معنا ينمو، ويتمدد؛ بل ويسعى بيننا. دخل مكامن اللغة وتعهد أن يفجرها كي يخرج طاقاتها الإبداعية، وأقصى قواها الإيمائية، ويمنحها المذاق، لتغمرنا بمتعتها الجمالية وأن تدخل اللغة هو مغامرة معرفية مذهلة، أو يجنّس اللغة خالقا هجينا متجانسا؛ سواء من المعنى المتعالي أو المتواضع. في الشعر الحقيقي كثير ما المعنى (المضمون) يسبق قائله، قد يلحق به وقد لا يلحق، (الشعر يسبق معناه)، وهذا يرجع إلى أن الشاعر لا يتعمد قول الشعر، ولكن الشعر يتنزّل على الشاعر.

شعر العمّاري؛ لا تصح ترجمته، حيث سيفقد الكثير، كأي شعر بلغات العالم الأخرى، لأنه (شعر لغة)، ارتبط بها، وارتهن لمدلولاتها. الشعر دالة لغة، واللغة حارسُ معنى. وكما يقول المثل (ترجمة الشعر خيانة).

اللغة الموازية للمعنى، هي اللغة الجامدة التي لا تلتقي مع ما وصل إليه الفكر الإنساني، ومن الضمن أيضا اللغة النامية.. أسباب الإلهام والموحى..

القصيدة حالة ذهنية في عقل المبدع. عندما يكون الشاعر في لحظة الخلق. يزيد خياله اشتعالا، يتحدى المنطق ويتجاوزه، خيال تجيزه الحقيقة (منطق الشعر)

فن مغايرة المعنى لاستخلاص المختلف المتفرد، وفق الذائقة الممتعة (المنتجة) وليس المستمتعة (المستهلكة) تنويع موارد إبداعه/ فعل لا إرادي. لقد مر بتجربة مميزه/ مختلفة. يزن كلماته بفنيه ودقة، ويعايرها بلباقة محترف، يرفض أن يصنع تسويه، ولا يخون موهبته، يخالف الاتجاه السائد، يقاوم سلطة النص. يبدأ القول الشعري من الصعب الممكن، وينتهي عند السهل الممتنع، دون الخوف من خوض مغامرة التجديد والتمادي. نجد أن له ما له منذ بداياته في مديح اللغة. عندما تتعمق في اللغة تتعمق فيك. لقد داهمه الإلهام وأخذت تتخلق في رأسه قصيدة جديدة، لتتشكل فيما بعد. لينعش بها مخيلتنا ويمدنا بقوة تخيّل. مفتاح العمّاري، كشاعر جاد يترصد كل شاردة، ويتحين كل واردة، فلا تضيع منه فرص الاقتناص أو التقفيّ، وينتزع أنفاسه مما منحه له الله من حق في استنشاق هواء الحرية، يلمس ذلك المتتبع لسيرته عن قرب وانتباه، عندما نسائل النص في الحيز المتروك لاجتهاد المتلقي، وتكون مقابض النص ظاهرة، مغاليق الى أجل لا مسمى، وما تقع عليه أعيننا من أشباه أشباح، تزيد من تضليلنا. عند مفتتح النص تحديدا. الشعر سؤال شاف أم إجابة محيّرة.

الإبداع ذلك التفاعل الذي يقع في دخيلته، لا يمكن أن يأتي بمثله أحدا إلا هو، لذلك فبالتعبير الصحيح يكون الشعر لديه قراءة المتعة، وليس متعة القراءة! لا نقف أمام احتمالات معدودة أو محددة، لكن أمام احتمالات مفتوحة غير مغلقة، انه كالعطار الذي يعطر أرواحنا بخلطاته المميزة كي يمنحنا رائحة زكية ومنعشة ومبهجه. في متسع من البال، بأخذ القصيدة إلى متنفس لها، إلى الأرحب، أجمل ما في الشعر بساطته. الحضور اللغوي والجهوزية تحاشيا لذلك التعثر في صياغة الصورة والتقاط القبس قبل أن يتلاشى. الشاعر طاغور وصف اللغة البنغالية بالسكر. نقف على إلغاء الفاصل الوهمي بين الشاعر والمتلقي. عندما يتم التوغل في اللغة، وتظهر فتنتها تتحرر قدرات الروح المبدعة ويكون الشعر هو غواية اللغة في أرقى حالاته.

هذا مسح شمولي عام و(متعجل) لشاعرية مفتاح العمّاري كشاعر، عبر ما قرأت له من نصوص، وما تكون لدي من انطباعات تشكلت أفكارًا: – انجذاب صوفي، وصفي يميل- وليس بشكل كامل (جاد)- إلى النزعة التأملية، والتأويلية، هذا التجديد للغة يمنح الشعر شعرًا، لتصح معه كينونة اللغة وحيويتها. اللغة فهم وتفسير، ومن هنا تصبح اللغة أداة تفكير ومدعاة له قبل أن تكون وسيلة تعبير، مهما بلغت أهمية التعبير أو التفاهم.

مقالات ذات علاقة

يوميات المنفى

ناصر سالم المقرحي

تجارب نسوية في الشعر الليبي

المشرف العام

الذاكرة المهاجرة.. محاولة للنهوض بأحلام مؤجلة

عبدالسلام الفقهي

اترك تعليق