إن بقيت جليساً فلن تكون حبيساً. الخندق له رحابٌ نحن من يمدُّها إلى أفق فسيح، يأتيك طوعاً عبر رفقة موصوفة. النغم قوة ضاربة لها قدرات تكسرُ حدود خندق الإقامة الإكراهية التي فرضها الفيروس الطاغية الذي يخترق مفاعل الأكسجين في الصدور، يخنق الأنفاس ويغلق الأبواب ويسدُّ الشوارع ويسدلُ الستائر على مسارب الحياة. الحدائق نور الدنيا الممتد وسط المدن، ينشر وهج الفرح، المسارح حلقات الوجود والوجد الإنساني، احتواها فيروس الصمت.
المدن جدران حزينة تجهش بدموع نافوراتها في غياب أحبتها الشباب، الذين يعزفون حراك العشق في أحيائها. البيوت صارت صناديق محكمة أبوابها في شوق حار إلى عابر يدخل أو يغادر، وصالات لقاء الأحبة بها، رانَ عليها صمتُ الخواء. المعركة مع المعتدي الغامض الذي يحاصر وجودَنا ويهدّدُ الأنفاسَ والنفوس، لها قوات قادرة على المواجهة تنطلق من خنادق الإرادة. الفرح درع تمتلك صلابة خاصة، تقاوم هجوم الجرثومة المتربصة بقوة إبداع الإنسان العابر للوجد والحزن والخوف.
الموسيقى قوةٌ قادرةٌ على تحويل الصندوق الخندق الضيق إلى قصر منيف، تشدو فيه أصوات ملائكية، وتصدح آلات الحياة بأنغام تجعل من الضيق براحاً، ومن العتمة أنواراً. في قصرك الباذخ يأتيك المغنون يزفون إليك أجمل الكلمات منسوجة في ألحان الحب والوصل والتلاقي. الأحبة يحتفلون معك زرافات رغم البعد. يهفون إلى حلقة الفرح كما يهفو الفراش إلى ضوء الرقص الساحر. سيأتي الحبيب في الميعاد مع أغنية أم كلثوم (حلم) التي أبدعها الشاعر بيرم التونسي، وصاغها لحناً الفنان زكريا أحمد. كل شيء فيها حلم يعبر بصوت أم كلثوم إلى دوائر الوجدان وفجاج الروح. بيرم التونسي تكوين تعشقه الكلمات، تندفع نحوه وتحتضنه في هيام معطر، يصوغها بحروف ترفرف في محراب جمال القول، أما حبيبه ورفيق عمره الفني زكريا أحمد، فهو وُلد نغماً وعاش كذلك طوال حياته. يكتمل مثلث الإبداع بصوت أم كلثوم حيث تصير الكلمات واللحن كوناً ساحراً يهيم فيه السامعون طرباً لذيذاً. في قصر الغرام يزفُّ إليك الثلاثي الساحر حلماً يكون نشيد الود الرسمي الذي تستقبل به الأحبة والندمان في إيوانك الرحيب. عندما تصدحُ الكوكب بصوتها الجميل على مقام السوزناك، وهي تغرد في ابتهاج بنغمات تحتضن الحبيب في حالة شوق للقاء بعد غياب طويل:
حبيب قلبي وفاني في معاده.. ونول بعد ما طول غيابه
قابلني وهو متبسم وطمني على وصله
وقال لي كلام القلب يرقص له
بقى يقول لي وأنا أقول له وخلصنا الكلام كله
هذا مفتتح اللقاء الحميم، كلام يرقص له القلب، تبادل الأحبة الكلام من دون توقف إلى أن أتوا عليه من ألفه إلى يائه. أليس هذا أجملَ ما نقول في حضرة الابتهاج بفيلق النغم الضارب، الذي تنادى إلى إيوان الطرب الجامع لمريدي الحياة؟ الأحبة الذين لم يصلوا إلى حفلنا الجامع الذي التأمت فيه جحافل المقاومة مدججين بقوات النغم الجميل، يشاركنا جمعهم برسالة حب يتألق فيها الفنان الليبي محمد حسن بأغنية مشحونة بشجن العشق الذي أبدعه الشاعر الغنائي سليمان الترهوني، في عمل متميز في البلاغة الشعرية والتصوير بكلمات تتدفق حيوية عاطفية، تألق فيها محمد حسن، يغني للجمع:
يسلَّمْ عليكْ العقلْ ويقول لك نَبّيكْ
أما خطاوي الرِجل صاعب عليها تجيك
أنت الغلا المقسوم وأنت الوفاء وأقداره
وأنت رفيق الصوب وانت اللي مشواره
يسلم عليك العقل أما الرجل ما طالت تجي
ولم لا يطوف حفلنا في دنيا الجمال العربي بتجلياته في حسناواتنا الجامعات لسحر الأنوثة المتفردة في ساح البلاد.. أغنية.. تعلق قلبي طفلة عربية، التي تُنسب إلى امرئ القيس، أشكُّ في ذلك كثيراً، لأنَّ الكلماتِ لا علاقة لها بلغته، كأنَّها كتبت في عصر قريب، لكن الأغنية جميلة بخيالها وكلماتها وألحانها. أبدع في لحنها طلال مداح، وأدَّتها أيضاً هيام يونس بروعة فائقة، وهي من مقام الرصد:
تعلق قلبي طفلةً عربيةً
تنعَّمُ بالديباج والحلي والحللْ
حجازية العينين مكية الحشى عراقيةَ الأطراف روميةَ الكفلْ
تهاميةَ الأبدان عبسية اللمى خزاعيةَ الأسنان ذريةَ الكفلْ
هكذا يطوف المزاج الاحتفالي بتضاريس الجمال العربي وبالذات مشرقياً. ولم لا يطير إلينا على بساط الريح، المدله من الأطلس في أقصى الغرب العربي الفنان عبد الهادي بلخياط، ويزفُّ إلينا قمرَه الأحمر الذي نمنمه شعراً عبد الرفيع الجوهري، وأبدع لحنَه الرائع الملحن الكبير عبد السلام عامر في مقام الرصد الجميل.
من الذي لا يحتفي بثالوث النغم الذي لا تغيب عنه عطورُ وأنفاسُ الأندلس التي لا تشيخ أبداً، وتعيش في الوجدان والإبداع؟ في محفل الفرح يتحفنا الأحبة من المغرب بأغنية الجبال والماء والجمال وتجليات الشعر والموسيقى، يطرزها صوت عبد الهادي بلخياط في القمر الأحمر، يحمل معه الجمال خجولاً وخشوعاً رفقة الفاتنة الشقراء:
خجولاً أطلَّ وراءَ الجبالِ
وجفنُ الدُّجَى حولَه يزهرُ
ورقراقُ ذاك العظيمُ
على شاطئيه ارتمى اللحنُ والمزهرُ
وفي موجهِ يستحمُّ الخلودُ
وفي غوره تَرسمُ الأعصرُ
هنا يحمل لك الصوتُ والكلمات والموسيقى دنيا من الجمال الحي الشامل المتحرك في رقصة يزخرفها العشق الشامل. الجبال أعمدة زبرجد ناظرة، وللدجى جفون ساهرة استمتاعاً شفافاً. رقراق ذاك النهر العظيم تقبِّله الألحان، وفي أمواجه يسبحُ الخلود، ويسبح معها بلخياط بصوته المتوج في مقامات الإبداع، إنه صوت يعوم في موجات سلطنة الطرب. كل شيء يحتفي بإطلالة ملكة الجمال في خجل وخشوع:
خشوعاً أطلَّ كطيفِ نبي
وفي السفح أغنية تزهرُ
توقّعها رعشاتُ الغصونِ يُصلي لها ليلُنا الأسمرُ
على الربواتِ استهام العبيرُ تعرَّى الجمالُ شذا الوترُ
زفَّ لنا كل ملكوت الجمال والفرح تصويراً وإحساساً في نغم فاق الأنغام.
هكذا نحن في قصر الطرب الفخم رفقة كل حبيب وكل جميل، التقوا في حفلة حب تقاوم ضيق صندوق الإكراه، وتخلق فضاءات الحياة عنوة وبقوة اللقاء. كل الدنيا أبواب ومدى لا يحده زمان أو مكان. الوجدان شفرة الوجود.
معزوفة اختتام مهرجان قوات النغم، تصدح بها المطربة نازك في أغنية أبدعها شعراً خالد زغبية أحد أبرز الشعراء الليبيين، وصاغها لحناً الموسيقار الكبير شيخ الموشح والمألوف الليبي الأندلسي حسن عريبي… تتنابز الفنانة مع الكلمات والنغمات بصوت يصدح ويرقص فرحاً باللقاء:
والتقينا لم يعدْ للحزن معنَى لم يعدْ قلبِيَ خفاقاً معنَّى
لم تعد أحلامنا العذراء وهماً وتباريحَ وأنَّاتٍ وحزنَا
نحن صيَّرنا الهوى في راحتينا ألفَ دنيا ألفَ رؤيا ألفَ معنى
قد كفانا أنَّنا اليوم التقينا
في قصر خندق الأحبة المسلح بجحافل الأنغام، يكون الوجود القاهر لكل فيروس يتسلل إلى محفل فرحة الحياة.
صحيفة الشرق الأوسط، السبت 25 أبريل 2020