الدستور :: حاوره/ إيهاب مصطفى
إن كان سيزيف قد حمل صخرته فوق كتفيه ليشقى بها، فإن الكاتب الليبى الكبير إبراهيم الكونى حمل الصحراء، ولكن فى جسده، وراح إذعانًا لعهد قديم يرتحل، طاف البلاد حاملًا معه ذلك التكوين البديع من رمل وأحجار وهسيس رياح، هو قطعة من هذا العالم الكبير والعظيم، قطعة من صحراء سكنت فى المدينة، لكنها فى الأخير تهفو بحنين الابن للأم.. للصحراء الكبرى.
وكأن الصحراء كتبت معه ذلك العهد منذ قديم الأزل، هو أحد أبنائها ولها عليه حق، وإن كان الارتحال قديمًا فى ذلك العالم لطلب الماء والزاد، فارتحال «الكونى» كان أيضًا طلبًا لزاد من نوع مختلف، هو زاد المعرفة، وهو الرسول بلا رسالة مكتوبة.
ارتحل لأن فى الارتحال ربما يجد الخلاص المنشود، وما الخلاص إلا بفعل الكتابة، والكتابة هنا ليست سوى نزيف للروح، يكبر حين يمتلئ بالأسئلة، وحين يكتب يصغر ويرجع فتيًا، تستصرخه الكلمات، فيعصف به الشجن، ليهرع إلى صحفه، صحف إبراهيم، لينشد الخلاص، ينشد الخلاص بالكتابة، فالكتابة هنا صرخة فى وجه العالم، الكتابة هى نشيد الروح التى تهفو إلى السلام والطمأنينة، صرخ «الكونى» كثيرًا، وتوزعت صرخاته بين أكثر من أربعين دولة ترجمت بها رواياته، وسكنت قلوب ملايين القراء.
حين تضع روايات إبراهيم الكونى، وإن شئنا الدقة حين تضع عالم إبراهيم الكونى المفروش على الورق، بجوار بعضه سيتشكل فى هيئة صحراء كبرى وطوارق ونبتة جن ومهرى أبلق وعدوس السرى وأوخيد.. ستشكل ريحًا وأحجارًا وقطاع طرق وليلًا باردًا وشمسًا حامية وغزالة. «الكونى» الذى نجا من كل خساراته التى لاحقت خبراته، لإيمانه بمقولته التى استعان بها فى إحدى رواياته: «كل خسارة لم نخسر فيها أنفسنا ليست خسارة»، لم يكن عجيبًا أن تصنفه مجلة «لير» الفرنسية بأنه من أهم خمسين روائيًا فى العالم، ولم يكن مدهشًا أن يسكن اسمه ترشيحات «نوبل» لعدد كبير من السنوات، ولم يكن غريبًا أن ترتسم فى الفراغ المحيط كل تلك الكلمات من لغة برية لعالم عظيم اسمه الصحراء الكبرى حين يذكر اسمه. شتاء ٢٠٢٠، ورغم تخطيه السبعين من عمره، ورغم وجوده فى إسبانيا، ومع ندرة أحاديثه للصحافة، اختص المبدع صاحب الخمسة وثمانين كتابًا، الذى ينتمى إلى قبيلة الطوارق بليبيا، «الدستور» بهذا الحوار الفريد من نوعه. ماذا يقول إبراهيم الكونى؟، وما الذى يكشفه فى حديثه؟، وكيف يرى قضايانا الثقافية؟.. تعالوا معًا لنقرأ.
■ تنهل رواياتك من البعد الأنثروبولوجى وتعبّر عن ثقافة ذات خصوصية تعكس حضارة الطوارق، فكيف ترى حدود استخدام التاريخ والتوثيق فى الفن الروائى عمومًا ولديك خصوصًا؟
هبة المجّان
– الأنثروبولوجيا ملاذ يُعفى من عناء البحث عما تسميه نظريات الأدب «النكهة المحلية» التى كانت، وما زالت، حجر الزاوية فى ارتياد الآفاق العالمية، لأن العمل الروائى أحجية جدلية يتقاطع فيها البعد الخاص، المعبّر عنه بالنموذج، مع البُعد العام الذى تستطيع كل نفس بشرية أن تجد فيه روحها الضائعة. فالواقع الأنثروبولوجى هنا يلعب دور الهبة المجانية التى تجيرنا من مغامرة اختلاق واقع بديل، مُتخيَّل، نحمّله أوزارنا الثقيلة الظامئة إلى بيئة تحقق لنا الحرية المأمولة، كى نتخلص من الحمل العصىّ، ولذا فإن العمل الروائى فى واقع ذى خصوصية أنثروبولوجية، رسالة مزدوجة الهوية، البعد الأنثروبولوجى فيها يهدّد بُعدها الجمالى، فى حال أخفقنا فى ترويضه كما يجب، لأننا كلنا مُحَمّلون بجنين نفيس، كما يقول «أفلاطون»، وكل همّنا طلب الواقع المناسب كى نستودعه ذلك الجنين. ولكن المجازفة ليست بلا ثمن، لأن تحييد الرسالة الأنثروبولوجية فى السرد مخاطرة ليست بلا عواقب، كما أن تجاهل الحمولة الأنثروبولوجية مخاطرة أقسى، لأنها تُفقِد العمل ذخيرة الخصوصية، وهو ما يستدعى حرصًا لا يختلف عن حرص البهلوان الذى يخطو على حبل معلّق بين السماء والأرض.
أما استثمار التاريخ فى الرواية، فمهمّة أيسر منالًا، لأن الرواية ليست فى الأصل سوى تاريخ، كل ما هنالك أن المؤرخ يتحفنا بالنتيجة فى السيرة، فى حين تكمن رسالة الروائى فى التفتيش عن الأسباب التى أدت إلى هذه النتيجة.
أى ما يهم هنا هو السيرورة فى السيرة، وليس الواقعة كنتيجة. وإذا شئنا أن نبرهن على هوية الرواية كتاريخ، فيكفينا أن نلقى نظرة خاطفة على تاريخ الآداب العالمية، كى نكتشف أن جميع الأعمال الروائية المرجعية فى عالمنا إنما تعالج على نحو ما تاريخًا، إلى الحد الذى نستطيع فيه أن نقول إنها أعمال تاريخية، بداية بالإلياذة والأوديسة والإنيادة وأعمال شكسبير كافة والحرب والسلم ومائة عام من العزلة والدون الهادئ والحياة والقدر وسلامبو، وذهب مع الريح.. إلخ.
بالقدر نفسه نستطيع أن نقول إن أعمالًا تاريخية كثيرة استطاعت أن تنتزع هوية الرواية عن جدارة، مثل تاريخ «تيتوس ليبيوس»، وتاريخ «هيرودوت»، لا فى المحتوى وحسب، ولكن فى استكمال شروط العملية السردية فى بُعدها الروائى، كالتقنية، حيث نجد «هيرودوت» يلجأ لتعميد ملحمته المرجعية بأسماء آلهات الفنون التسع، فينصّبهن عناوين لكتب هى فى عرفنا اليوم فصول، ثم يعتمد الأسطورة سبيلًا، يسرى فى عروق كل تلك التحفة الأدبية الخالدة، وهو ما فعله خلفه «تيتوس ليبيوس» «الليبى» فى ملحمته المتعددة الأجزاء عن تاريخ روما منذ نشوئها فى القرن السابع قبل الميلاد، وحتى الحروب البونيقية.
أما إذا تعلق الأمر بحضارات صحرائى الكبرى، فهى حضارات شمال إفريقيا كلها. فالعالم يجهل أن كلمة «آفرا» التى استعارت منها القارة الإفريقية اسمها، تعنى فى الليبية القديمة «صحراء» كما تجرى على ألسنة أخلافهم الطوارق اليوم، لأن العلامة الخارقة فى طبيعة هذه القارة هى ظاهرة التصحّر المبكّر الذى جعل منها أعظم صحارى العالم، وإلا لما سُمّيَت «الكبرى». والدليل على ثراء حضاراتها هو شهادة أبى التاريخ «هيرودوت» الذى يتغنى فى عمله المرجعى بأفضال ليبيا على اليونان التى استعارت منها ثقافتها الدينية والدنيوية بدايةً بمعتقداتها، ونهايةً بعاداتها. حتى ربة الأرباب «أثينا» هى ربّة ليبيّة، وكل عادات النساء اليونانيات مستعارة من عادات الليبيات، والعربات المجرورة بأربعة جياد أيضًا اختراع استجلبه اليونانيون من الليبيين. ليس هذا وحسب، ولكن العالم يجهل أن أول رواية كُتبت فى العالم هى «الجحش الذهبى» للمؤلف الليبى الذى عاش فى مدينة صبراتة فى القرن الثالث قبل الميلاد، «أبولايوس»، وهى الرواية التى لم تكتفِ بأن تتفوق بتقنيات هذا الفن المستحدث، أو فى خلق القوانين التى اعتُمدت منذ ذلك التاريخ، ولكنها اعتمدت أسلوبًا حداثيًا ما زال مدرسة فى عالم اليوم. وعلّ فكرة التحوّل، أو ما اعتدنا أن ننعته بالأدب الكابوسى، الذى نصّبنا «كافكا» رائدًا له، أو النزعة السحرية فى آداب الحداثة، إنما كانت كنزًا مستعارًا من فحوى تلك الرواية الرائدة. ولسنا فى مجال يسمح لنا بالإسهاب فى مسألة كانت فى عرف العالم القديم مُسَلّمة، كدور وطن مغبون مثل ليبيا فى تشكيل الوعى الإنسانى فى بدايات عهده بالتكوين، لأن هذه المُسلّمة لم تغترب تاليًا إلا بسبب ستور التعتيم التى استُنزلت فى حقها، فظلّت تسرى إلى اليوم استجابة لأمرٍ فى نفس يعقوب.
■ مزجت بين دماء الحيوان والإنسان والجماد، بل نبتة الجنّ، كما فى «التبر»، فهل قصدت أن أصل المخلوقات واحد.. وأن الإنسانية ليست مقصورة على الآدميين وحدهم؟
وحدة الكائنات
– كل الموجودات فى يقينى شركاء لنا فى الوجود. وعلاقتنا بهذا الواقع، الثرى بحضوره قيد الوجود، هو وحدة قياس تحدد مدى استجابتنا للإحساس بحقيقة كائنات هذا الوجود. وقناعتى هى أن كل كائن لم يوجد عبثًا. وألا يوجد عبثًا يعنى أنه مُحَمّل برسالة، على عاتقنا، نحن كحرّاس لهذا الوجود، أن نستنطقها كى تتمكن من قول كلمتها. أى أن واجبنا ان نستدرجها كى تنطق بحقيقتها كرسول غيوب. خلق العلاقة مع الطبيعة رهين الإيمان بقيمة رموزها التى تهبها لنا مجّانًا، لكى نكون أهلًا لأمومتها، وجديرين بالانتماء إلى ملّتها، وهو ما يستنزل فينا الامتلاء. وما هو هذا الامتلاء إن لم يكن الترجمة الحرفية الأمينة للُقية تراها الفئة المغتربة عن حرم هذه الأم، بمثابة عنقاء مغرب، كما هو الحال مع السعادة.
فالواقع أننا معجونون من الطينة ذاتها التى عُجنت منها الكائنات حولنا. وهى كائنات ليست مكمّلة لنا، ولكننا جزء لن يستطيع أن يدّعى الامتلاء ما لم يعترف بالانتماء إليها. فالحجر المكابر المنتصب معزولًا فى الخلاء، ليس مجرد جلمود صخر يضيق بمعدن الحديد، الحديد نفسه الذى يسرى فى دمى، الذى يراهن على حضور هذا العنصر النفيس فى الدم، الذى يلعب دور العَصَب فى كيان جسدى، ولكن لأن الحجر فى وقفته يجاهر برسالة لا يفكّك طلسمها، ولا يقدّر كلمتها، إلا من عرف التّيه يومًا، فتولّى النصب فى طريقه دور الدليل الذى قاده إلى النجاة. أما الشجرة فلا تكتفى بأن تجود على شخصى بالترياق، فتنقذنى من مرض مميت لتُحيينى، ولكنها تنبت عميقًا فى وجدانى لتُلقّننى درس الجذور، التى ستنزف وتنزف حتى ألفظ أنفاس النزع الأخير فيما لو انتزعتها غصبًا لأغترب عن الوطن. وما تشبّثها بالأرض، بالوطن، بطينة الجذور، إلا وصية مجانية فى حياة كلٍّ منّا، ولا نكتشف عادةً حقيقتها إلا عندما نقوم بقطع الجذور. فكيف لا نستجيب لنداء هاجس المجهول، ولا نشطح وَجْدًَا مع معزوفة الريح، التى تمسّ فينا أوتار بُعْدِنا المفقود، بوصفها غنيمة الروح؟ وكيف لا نرتحل فى ركاب الزمن الضائع دومًا، المترجَم فى حرف مياه الجدوَل، التى لم تكن يومًا سوى أغنيةً فى عروق الجسد، الملفّق من يبيس دمنا؟
فكائنات الطبيعة لا تكتفى بإثراء وجودنا بمثل هذه الذخيرة الجمالية، ولكنها تتحفنا بمزيّة نفعية أيضًا. والنفع هنا هو، كصفقة، رأسمال العلاقة: علاقة لا فضل فيها لإنسان على حيوان أو على نبات أو على جماد، لأنهم كلهم فى فلك الوجود يَسبَحون، وفى ملكوت أمّ اسمها الطبيعة يُسبّحون.
■ قلت إنك كتبت «التبر» فى ثلاثة أسابيع، و«نزيف الحجر» فى أربعة، فكيف يصدّق القارئ أن تُكتَب هذه الذُّرَر الأدبية فى أقل من شهر؟
دَيْنٌ اسمهُ الواجب
– وهل العبرة بالمُهلة؟ أين موقع الإلهام إذن، أو ما نسميه إلهامًا، فى صفقة رأسمالها دومًا رهين رؤيا؟ فالكثيرون لا يدرون أنى لا أكتب كى أستمتع، ولكنى أكتب كى أتحرر. أتحرر من النص أولًا، لأن فى تحرّرى منه يكمن إحساسى بأداء واجب. وأتحرر أيضًا فى حمى هذا التحدى الموجع، لكى أحقق حلمًا آخر عسير المنال دومًا، وهو التغيير. فالكتابة بالنسبة لى ضرب من تصفية حساب. ولا أستحى إذا اضطرّنى غموض اللغة الأبدى أن أصفه بالتطهّر. فالنزول إلى ساحة الأعراف يبدأ لحظة تناول القلم، بل ربما لحظة ميلاد النواة التى تبدأ فى التململ رويدًا لتنسج لنفسها شَرَكًَا، ومهمتى هى الارتماء فى أحضان هذا الشرَك! وكلما طال أمد المبارزة، انتابنى تبكيت الضمير. ولهذا السبب أشطح وَجْدًَا طمعًا فى الوصول إلى سدرة المنتهى بأقل الخسائر، ولكن بأسرع وقت، لأحقق الشفاء من مرض رافقنى حتى فى حياتى الدنيوية، وهو أداء الواجب.
وليس عسيرًا على دهاة القُرّاء أن يدركوا أنى أكتب لاهثًا، مما يقطع بأنى فى عجلة من أمرى دومًا، لأن رهانى على الخلاص، رهانى على الخلاص من النص، لأن الوقت بالنسبة لى دائمًا مقصلة تتوعّدنى بالقصاص فى حال تلكّأت. فالهرولة هنا تلبية لنداء طينتى البرية التى لا تعترف بالوقوف صنمًا فى منتصف الطريق عند الخروج. فالورقة البيضاء حينها امتداد لصحراء بلا حدود، وأفضل ما أفعله هو أن أعبرها ركضًا. إنه عُرف سباق المسافات الطويلة، مسافات البطل فيها عَدوسُ السُرَى.
■ كثيرون فى مصر قرأوا رواياتك فى البدايات سيما «نزيف الحجر» و«التبر» مُهرّبةً إلى القاهرة، بسبب الرقابة فى ليبيا رغم توفرها فى المعارض فى إصدارات بيروتية، فما تعليقك؟
ملاذٌ اسمه النصّ
– تاريخ مصادرة كتبى يرجع إلى عام 1970، أى لأول كتاب صدر لى عن «نقد الفكر الثورى»، ثم كتاب «ثورات الصحراء الكبرى»، الصادر فى العام نفسه، لتتواصل سيرة المنع لتشمل كل أعمالى التالية، ولم تتوقف حتى نهاية عمر النظام. والمدهش أن سدنة الرقابة حاولوا أن يذرّوا الرماد فى العيون فى سنوات التسعينيات التى شهدت انفراجًا بسبب الحصار الدولى، فكانت وزارة الثقافة تتظاهر بطبع بعض كتبى، ولكنها تعمد لمنعها بحيل صبيانية، حيث تتعمد إخفاءها فى المخازن، فكان أصحاب المكتبات يشتكون لى، قائلين إن القائمين على الثقافة يرفضون تزويدهم بالمؤلفات لبيعها لجمهور متعطّش لاقتنائها، ولكن الإنسان الذى عانى القمع الثقافى، ثم القمع العرقى طويلًا، لم يكن ليستسلم بسهولة لإغواء الدخول مع السلطة فى معارك هو فى غنى عنها، وهو الذى زهد فى استثمار مثل هذه المواقف التى يسوّقها الكثيرون كبطولات مزعومة أضحت فى حياتهم الأدبية بمثابة رأسمال، ليقينى كمبدع أن الخوض فى مثل هذه المعامع سوف يشغلنى عن أداء واجب أسمى كمعاندة رسالة هى إنقاذ تراث إنسانى ثرى ومجهول لأمة عظيمة، اغتربت عن العالم بفعل عزلة ألوف الأعوام، فإذا كان عالم الأناسة «كلود ليفى شتراوس» يتغنى دومًا بأن وفاة شيخ فى قبيلة إفريقية يعادل موت القبيلة كلها، فكيف أسمح بأن نتسامح مع فناء أمة بأسرها، والتى يعادل زوالها زوال الجنس البشرى بأسره؟
بلى، جرم النظام السياسى القائم آنذاك ليس فى محاولاته تكميم فمى، وليس حتى فى نيّة تصفيتى جسديًا، كما حاول الرئيس الجزائرى الأسبق «هوارى بومدين» أن يقنع رأس النظام بشأنه، بسبب خطورة مزعومة لكتاب لم يقرأه، ولكن لمجرد الاستجابة لنداء تقرير تلقاه من استخبارات بلاده عن «ثورات الصحراء الكبرى»، ولكن الجرم هو استماتة النظام فى إلغاء هوية أمة عريقة، وفوق ذلك فى الوطن الليبى أصلية، بقطع عرقها من الوجود، من خلال منع لغتها الذى لن يعنى سوى نفى حضورها فى هذا الوجود، ما دمنا قد آمنا مع من آمن، منذ أرسطو حتى هايدغر مرورًا بديكارت، بأن لا وجود لفرق بين اللغة والوجود.
لقد اكتشفت سنوات عراكى مع الإبداع، أن كلمة السر فى إنجاز العمل هى الانضباط بشأن الوقت. وأكبر خطيئة فى حق أى مشروع رسالى هو الاستهانة بالزمن، سيما احتراف، أو استمراء المعارك مع الأنظمة السياسية، المهووسة بالتحدّى المجانى. فالاستسلام لإغواء مثل هذه التحديات، هو ما أجهض مشاريع كم كانت ستُثمِر فيما لو تجنّبنا إغراء المواقف العبثية مع أجهزة الأنظمة السياسية، ناسين أن صحيفتنا الحقيقية الجديرة بأن نعوّل عليها هى النص، وليس مبارزات الشخص، لأن النص هو ما ينيب عن المبدع، هو ما يمثّل المبدع، هو الوديعة التى ستخلف المبدع، وموقفه من الوجود ومن أشباح هذا الوجود، إنما يسكن هذا النص، ولكن الشخص هيهات أن يمثّل النص، لأن الشخص يفنى، ولكن النص يبقى بعد فناء المبدع كشخص، ذلك أن التغيير الذى ننشده من وراء العراك مع الأنظمة هو فى ناموس الإبداع، وَهْمٌ صريح، ما لم ينطلق من أنفسنا، لتغيير ما بأنفسنا، إذا شئنا ألا نندم، لأن الذهاب لتغيير ما بالعالم مخاطرة طائشة لمبارزة الظل، ما دام العالم هو انعكاسًا لنا نحن، ونحن وحدنا فى المعادلة أصل، شخصيًا لم أرَ خلاصًا للمبدع سوى الاختلاء بنصه، لأنه الشفيع الوحيد فى شأن كل ما متّ بصلة لشخصه، سيّما فى عالم اليوم الذى لم يعد يعترف بالإبداع فى بُعده الإنسانى، الذى يتغنى بالقيم الخالدة، ولكنه نصّب روح الأدب المسكون بروح الواقع فى بُعده الحرفى، المهووس بالهامش بدل المتن، ليكون على الواقع حكمًا، كما الحال مع ظاهرة لئيمة كالسياسة، لتنتهى المغامرة الطائشة إلى تغريب ما كان هَمَّ الجنس البشرى منذ الأزل، وهو الحقيقة، لتنتصب الأيديولوجيا فى المعادلة بديلًا ولا تقنع بمنزلة البديل، ولكنها تأبى إلا أن تغتصب منزلة المعبود.
■ رُشِّحتَ لنوبل.. هل ترى أن الترشيح فى حدّ ذاته جائزة، أم هو تتويج لمشروع كبير؟
دين اللهو
– للإجابة عن هذا السؤال جدير بنا أن نطرح سؤالًا غاب فى واقع هذه الجائزة طويلًا، وهو: لماذا صاحب الفوز بجائزة الأدب بالذات من دون كل جوائز نوبل فى بقية المجالات هذا الصخب، إلى الحدّ الذى غدا فيه مطلع أكتوبر من كل عام مناسبة ينتظرها الكل كأنها الميعاد المجّانى المخصص للتبارى فى تبادل الاتهامات، فاستمرأت لجنة الجائزة هذه الهبة لتحوّلها عيدًا يبدّد سأم روتينها الإدارى، فما كان منها إلا أن انساقت للإغواء، لتستبدل الاستحقاق بالنكاية حينًا، بل تعمّدت التحلى بروح الدعابة أحيانًا، عندما قلّدت هذا الوسام الذى كان شرفًا حتى وقت قريب، لهواة لا علاقة لهم بالأدب، كالساسة والمهرّجين، والمغنين، كأنها تسخر من مهمتها التى قامت من أجلها وهى إعلاء شأن أمر كان مُهانًا عبر كل الأزمنة، كما هو الحال مع الأدب، فقررت أن تدلى بنصيبها فى تغريب عنقاء مغرب هذه، لأن قدرها أن تغترب، كأن الجائزة، أو سدنة الجائزة، يحتفون باغترابها عن هويتها؟، ويتباهون بضلالها. الواقع أن لجنة الجائزة لم تكتفِ بتدنيس حرمة الأدب، وحسب، عندما طرحت الجائزة فى بلاط الساسة، ظنًّا منها أنها تشرّفها بمنحها لبهلوانات هذه الملّة، ولكنها أبَت إلّا أن تنصّب هذه السعلاة حَكَمًا فى فحوى أى عمل إبداعى جدير، متجاهلةً وجود جائزة أخرى مكرّسة لهذا المجال وهى جائزة السلام.
فعندما تهيمن روح العبث لتكافئ الموقف السياسى وتنصّبه متنًا على حساب الهامش فى معادلة الوجود فيها رأسمال، ليس لنا أن نستنكر اغتراب القيمة، وأن تغترب القيمة يعنى أن تغترب الحقيقة. تلك الحقيقة التى لم تعد تعنى أحدًا فى عالم مسكون بروح النفاق كعالمنا، نفاق هو عدوى مستعارة من محافل الساسة التى كان فيها هذا الطاغوت «النفاق» حكمًا بالسليقة، ليتغلغل فى دنيا ظننّاها حتى وقت قريب معصومةً من الدنس، كما هى الحال مع الأدب، الذى لا يجب أن ننسى مدلوله المزدوج فى لغة عبقرية كالعربية عندما يدل على الإبداع من جانب، كما يدل على الأخلاق من جانب آخر.
فهل يكمن سرّ الاغتراب فى تلك الخصلة التى ميّزت الأدب عن كل العلوم الأخرى، وهى الذائقة الجمالية التى تبيح حرية الخيار كما لا يبيحه أى علم آخر؟
قد نعترف للسدنة بهذا الحق فيما لو كانت الفحوى فى الآداب هى ما يعنى محفل الكهنة. ولكنهم فى الواقع برهنوا فى العقود الخمسة الأخيرة، على أنهم مغتربون نهائيًا عن كل ما متّ بصلة لحارس الوجود هذا، المدعو فى لساننا أدبًا. مغتربون لا عن روح التجديد، المؤهلة للنطق بكلمة جديدة فى العلاقة مع الواقع الإنسانى الثرى وحسب، وإلا لمنحوا وسامهم لجويس أو بروست أو كافكا، ولكنهم مغتربون عن حقيقة الأدب فى معاييره الكلاسيكية أيضًا، التى تتغنى بالقيم فى بُعدها الإنسانى، لأن الشرط أو القياس فى عالم اليوم أضحى البُعد السياسى، لا البُعد الوجودى أو الإنسانى.
فاعتناق دين اللهو فى أى عمل، كفيل بأن يستنزل هالة تكاد تكون غيبية فى نتيجة العمل، مصحوبة بالطبع بنصيب سخى من روح المؤامرة التى تلعب فى الحبكة دور البطولة، فلا تعود الحقيقة فى الطقس هى الغاية، ولكن المنتظر مما سيتمخض عنه المحفل فى عيده السنوى هو الإثارة، والإثارة لا تستعير سحرها أو بالأصح مجدها، من عروة وثقى كالحقيقة، ولكن من مدى شذوذها عن الحقيقة. أى ما يُسهم فى إشعال فتيل الفضول فى الكرنفال. ذلك أننا نحيا اليوم فى عالم يأبى إلا أن يسفّه كل عمل نبيل، ما لم يخضع لناموس المهزلة.
والواقع أن هذا هو حال الجوائز كلها، كل ما هنالك أن مجد نوبل ناجم عن أسبقيّتها، وعن المراسم المرافقة لكل تقليد مشفوع ببصمة الزمن هو بحكم العادة مُهيب، لأنه منسوج من خيط نفيس هو الخلود. وهو ما يعنى أن الجوائز حافز نبيل ما ظلت مكافأة عن قيمة، ولكنها تتحول إلى لعنة ما إن تنقلب غاية تستثنى جناب القيمة.
فكل مراسم التكريم، كل الجوائز، كل الأنصاب التى تُشيّد على شرف المبدع، ما هى إلا محاولات يائسة لشراء التضحية التى لا تُشترى بحطام دنيا، لأنها تجربة لا أرضية، مشفوعة بطبيعتها بالنزيف الأعظم شأنًا من نزيف الدم، ألا وهو نزيف الروح!.
وأفلاطون لم يخطئ عندما أوصانا بأن نعتنق فى دنيانا اللهو دينًا. والجوائز بعض الملاهى التى يروقنا أن ننفخ فى صورها كى تتبدّى فى نظرنا أحلامًا.
■ بعد عهد القذافى توقّع الكثيرون إشراقًا فى ليبيا، بعد القمع وكتم الأصوات، فى رأيك ما الذى أدّى لأن تكون ليبيا على ما هى عليه الآن؟ وما الطريقة الأسلم للخلاص؟
لُقيةُ العدَم
– نحن نتجاهل السبب دومًا كلما تعلّق الأمر بأخطر عصب وجودى فى كل التجربة البشرية، ألا وهو التغيير، ولمّا كان الإنسان ميّالًا لخداع نفسه بالسليقة، فإنه اعتاد أن يحتال على الحقيقة، فيضحّى بالصواب الذى يقود إلى هذه الحقيقة، لمجرّد أنه أيسر منالًا. لهذا السبب نذهب لتغيير ما بالعالم، بدلًا من أن نغير ما بأنفسنا، متناسين أن الحقيقة برمّتها، التغيير تحديدًا، إنما يسكننا نحن، ما دمنا قد سلّمنا بأننا إنما ننتمى لهوية أحجية اسمها الإنسان الذى نصّبه محفل الحكمة مقياسًا لكل الأشياء، ثم شرّفه حكيم الأزمنة الأحدث «كانط» عندما نادى به وحده غاية هذا الوجود، كترجمة حرفية لوصية ديانات الوحى التى اصطفته ليكون لله خليفة فى الأرض.
أما العالم، فى المحك العملى، فليس لنا فى صفقة الوجود سوى ظل. أى أنه بمثابة مرآة نرى فيها تلك الحقيقة التى تسكننا، لأنها فى المعادلة هى الأصل. وبدلًا من أن ننشد الحلم الذى يهدهده كل منا فنُحدث التغيير المأمول فى أنفسنا، حيث يسكن الأصل، نشمّر على سواعدنا ونذهب لنصطاد الظل، ظلّنا، الذى يسكن العالم، كى ننال الخلاص، لماذا؟ ببساطة لأنه السبيل الأسهل منالًا، برغم تجربتنا المكرورة بأنه مخيّب للآمال دومًا.
أما تغيير ما بالنفس فهو المجازفة التى لا نأمنها، لأن الرهان فيها على جواد محال كالحال مع الحرية. فأن نغيّر ما بأنفسنا مجازفة تستدعى أن نحرّر ما بأنفسنا. وهى تجربة دموية بقدر ما هى بطولية. والمدهش أن لا أحد يريد أن يحدّق فى عين الحقيقة مهما تبدّت فى واقعنا واقعًا صريحًا، فيعجزنا أن نواجه أنفسنا بالسؤال المستوجب بأن يُسأل وهو: لماذا نخفق دومًا كلما حاولنا إحداث تغيير بالعالم؟ لماذا ننهزم فى كل خصومة لنا مع هذا البعبع الزائف المدعو عالمًا؟ لماذا تفشل كل الثورات منذ فجر التاريخ إلى يوم الناس هذا؟ لماذا نستهتر بالتاريخ، ونأبى إلا أن نُلدَغَ من ذات الجُحر لا مرّتين وحسب، ولكن مرارًا وتكرارًا بلا أمل فى تحقيق حلّ، كأننا نصرّ على خداع أنفسنا بروح صبيانية، برغم أن التجرية الزهدية لم تخذل مريديها على المستوى الفردى، وإن خذلت الأمم على المستوى الجمعى؟
لقد أمهلتنى الأقدار كى أكون شاهدًا على النظام الملكى فى ليبيا، ثم النظام الجمهورى الجماهيرى فى ليبيا، ثم النظام السوفيتى فى عز أمجاده، ثم النظام المكبّل بقوانين حلف وارسو فى بولندا، بما فى ذلك فترة نشوء حركة التضامن التى كانت الورم الذى افترس المنظومة الشيوعية بأسرها، ثم عدتُ إلى موسكو لأكون شاهدًا على القيامة التى أودت ببرج بابل على ذلك النحو الميلودرامى، ثم شاهدًا على قيامة من جنس السخرية السوداء التى حاقت بوطنى لتتفوّق فى ميلودراميّتها ومأساويّتها وهزليّتها أيضًا كل ما سبق، لأزداد قناعة بحقيقة عدم وجود نظام مثالى على هذه الأرض، وملهاتنا أننا لا نريد أن نقنع بأن الأنظمة السياسية غير معنية بإحلال ما نسميه عدالة، لأن هذه العنقاء هى حكرٌ على الربوبية وحدها، وليس لنا، نحن الفانون فى هذا المنفى، إلا أن نقبل بالممكن من هذه القسمة المستحيلة. وهو ما تحاول الأنظمة أن تهبه لنا فى حدّه الأدنى على اختلاف سياساتها، سيّما بعد أن برهنت التجربة على وجود أنظمة شمولية كثيرة أفضل من أنظمة ديمقراطية كثيرة، كما دلل «غونترغراس» فى روايته الشهيرة «ذاك حقلٌ واسع» التى تزامن صدورها فى بداية التسعينيات مع وجودى فى سويسرا، لأشهد وقائع الجدل الحامى الذى أثارته فى الأوساط الثقافية الغربية، بسبب هذا الرأى المنحاز لتجربة ألمانيا الشرقية، ليُفاجأ الغرب بانحياز لجنة نوبل لهذه النزعة الشجاعة، عندما توّجت «غراس» بجائزتها فى ذروة ذلك الصراع. والليبيون لم يقترفوا فى حق أنفسهم سوى الخطيئة التى اقترفتها الأمم التى سبقتهم يومًا، لأن الثورة هى الشرّ الذى لا مفرّ منه، فى واقعنا الإنسانى العاجز عن تغيير ما بنفسه، ظنًا منه أنه يحاول أن يستعيد أحلامه القتيلة التى لا يهنأ بال نظام شمولى إلا بالقضاء عليها، فإذا بالليبيين يجنون مقابل وثبتهم لا الندم وحسب، ولكن العدم حرفيًا، لأن ما لم يخطر ببالهم هو أن يفقدوا الوطن نفسه مقابل تلك المغامرة الطامعة فى استرداد الفردوس المفقود، كأن اللعنة تصاحب حلم التغيير، لأن الأقدار تريد أن تلقّننا وصيّةً تقول: إن تغيير ما بالواقع البشرى شأن حكر عليها وحدها، ونصيبنا من القسمة هو فى تغيير ما بأنفسنا، ما دمنا نحن الأصل، وواقع العالم لنا مجرّد ظل.