المقالة

21 نوفمبر سبعينية ليبيا

الشرق الأوسط

نوفمبر (تشرين الثاني) 1949 كانَ محطة الانبعاث لليبيا في زمن التحولات الكبيرة في العالم. انتهت الحرب العالمية الثانية ودخلت الدنيا في خلقة جديدة من صناعة القوة.

ليبيا


الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي. في مؤتمري بوتسدام ويالطا قامت القوى المنتصرة برسم خريطة لتقاسم تركة المحور المهزوم، لكن تموضع القوات العسكرية المنتصرة كان مقياس الرسم الذي حدد خطوط الخريطة الدولية الجديدة. كانت ليبيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية موزعة بين بريطانيا التي تمركزت قوتها في كل من برقة وطرابلس، في حين سيطرت فرنسا على إقليم فزان. ليبيا البلد الفقير آنذاك والقليل السكان، تكمن قوته الناعمة والمهمة في الوقت ذاته في موضعه الجغرافي الاستراتيجي، إيطاليا المستعمر المهزوم ضمن أطراف المحور ولها جالية كبيرة في ليبيا، والشاطئ الليبي الطويل المقابل لها، يدفعها إلى الحفاظ على وجودها فيما كانت تسميه بالشاطئ الرابع. بريطانيا التي ترى أنها محرر ليبيا من الفاشية الإيطالية والولايات المتحدة الأميركية مع زخم الحرب الباردة وتأسيس حلف شمال الأطلسي، اعتبرت الأرض الليبية المرتكز العسكري والأمني في ساحة المواجهة مع الكتلة الشيوعية. كانت ليبيا أرضاً لمعارك دامية بين الحلفاء والمحور التي ساهمت في صناعة انتصار الحلفاء من العلمين إلى تونس ومنها إلى اليابسة الإيطالية. تصارعت السياسة الدولية على ليبيا بعد الصراع المسلح. وضع السؤال الكبير على مائدة القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وهو: ليبيا لمن وكيف؟

هي البلد الوحيد في المنطقة الذي كان خاضعاً لقوة هُزمت في الحرب. شرقها مصر والسودان وهما تحت هيمنة قوة منتصرة، بريطانيا. غربها تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وكلها بلدان تخضع أيضاً لقوة منتصرة وهي فرنسا. بدأت معركة سياسية شكلت ارتداداً لزلزال المعارك العسكرية، مجالها ليبيا. الاتحاد السوفياتي المنتصر في الحرب يصر على أن يكون له نصيب من تركة إيطاليا المهزومة، في حين تتمسك بريطانيا بالبقاء في كل من برقة وطرابلس، حيث تتمركز قوتها العسكرية، أما فرنسا فإقليم فزان التي تتمركز فيه قوتها العسكرية؛ فقد كانت ترفض التنازل عنه بأي ثمن. وجودها في الجزائر التي تعتبرها جزءاً من فرنسا، وكذلك استعمارها لتشاد والنيجر التي لها حدود مع إقليم فزان، تجعل بقاءها في الإقليم خياراً غير قابل للتنازل، بل حتى للتفاوض. البريطانيون ركزوا اهتمامهم على إقليم برقة المجاور لمصر، حيث وجودهم السياسي الأهم خارج المملكة بعد استقلال الهند وحيث قناة السويس برزخ الاتصال بين الشرق والغرب، وكان خيارهم تأسيس إمارة في برقة ترتبط ببريطانيا سياسياً وأمنياً واقتصادياً وعسكرياً. بسبب الإصرار السوفياتي على أن تكون له حصة من التركة الإيطالية وطرحه لمشروع الوصاية الفرنسية على فزان، والبريطانية على برقة والسوفياتية على إقليم طرابلس، عرض البريطانيون مشروعاً مشتركاً مع إيطاليا، مضمونه تقاسم الوصاية على طرابلس، عرف بمشروع بيفن سفورزا، وزيري خارجية بريطانيا وإيطاليا. لم تكن فكرة دولة ليبية واحدة مطروحة بجدية على موائد الدول الكبرى التي تمتلك القرار بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الوصاية على الأقاليم الثلاثة هي الأبرز لمدة لا تقل عن عشر سنوات، وبعدها يُطرح الوضع النهائي للبلاد.

كانت هناك حقائق حاكمة فرضت نفسها على العملية السياسية الإقليمية والدولية، وهي، إصرار القوى الوطنية الليبية على الاستقلال وقيام دولة ليبية واحدة بأقاليمها الثلاثة، والرفض الشعبي القوي لمشروع بيفن سفورزا، ومعارضة الكتلة الغربية لأي وجود سوفياتي في شمال أفريقيا. هكذا كانَ المشهد العام الداخلي والخارجي حول مستقبل ليبيا، بل ومصيرها.

كان البريطانيون يمسكون بالملف الليبي بيد سياسية وعقلية استراتيجية، فقد كانوا الأكثر إلماماً به بحكم وجودهم في مصر، حيث تجمَّعت القوى الوطنية الليبية السياسية والمقاتلة، وتواصلهم المباشر مع إدريس السنوسي والنخبة الليبية بجميع أطيافها. قام البريطانيون بدعم تحرك الرموز الليبية السياسية نحو منظمة الأمم المتحدة للمطالبة بالاستقلال وقيام الدولة الليبية. لكن المعارضة لهذا الطلب الوطني الليبي كانت واسعة دولياً؛ فليبيا لم تكن أكثر تأهيلاً للاستقلال من مستعمرات كثيرة في أفريقيا مثل تونس، والسنغال، والجزائر، وغانا وغيرها من البلدان. موجة تصفية الاستعمار في أفريقيا لم تندفع بعد، فرنسا وبريطانيا المنتصرتان في الحرب هما المسيطرتان على المستعمرات مباشرة أو تحت مظلة الوصاية؛ ولذلك كان استقلال ليبيا مشروعاً شبه استثنائي في تلك المرحلة.

في 21 نوفمبر 1949 صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باستقلال ليبيا، ونص القرار:
1- أن ليبيا التي تشمل برقة وطرابلس وفزان ستكون دولة مستقلة ذات سيادة.
2- يسري مفعول هذا الاستقلال في أقرب فرصة ممكنة وعلى ألا يتجاوز أول يناير (كانون الثاني) 1952.
3- أن يقرر دستور ليبيا وبما فيه نوع الحكومة بواسطة ممثلي السكان في برقة وطرابلس وفزان الذين يجتمعون ويتشاورون على شكل جمعية وطنية.

وتضمَّنت بقية المواد العاملة في القرار التفاصيل الإجرائية للخطوات العملية لتجسيد خطوات قيام الدولة الليبية المستقلة بمساعدة الأمم المتحدة التي عينت الدبلوماسي الهولندي ادريان بلت لقيادة عملية تنفيذ القرار. كانت المدة التي حددتها الجمعية العامة لإقامة الدولة قصيرة جداً؛ مما جعل بعض السياسيين يشكون في قدرة الليبيين على تجسيد ذلك القرار. العامل الحاسم الذي غلب قبضة الزمن كان إرادة الليبيين الصلبة التي أدارت تلك الحلقة المصيرية في التاريخ الوطني. التفاهمات والتسويات والتنازلات بين الأطراف التي قادت عملية قيام الدولة على المستوى الوطني صنعت زمناً جديداً حقق الحلم الذي قدمت من أجله الأرواح وسالت في سبيله الدماء على مدى عقود ضد الاستعمار الإيطالي. لقد أنجز الدستور في مدة قياسية، واتخذت الترتيبات السياسية والإدارية وفي يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) 1951 قامت المملكة الليبية المتحدة، أي قبل التاريخ الذي حددته الجمعية العامة للأمم المتحدة بأيام قليلة. استقلال ليبيا وتأسيس الدولة ولدا من رحم الجهاد الطويل والإرادة الوطنية والتوازنات والصراعات الدولية التي حكمت حقبة بدايات الحرب الباردة. يوم الخميس الماضي مرَّت سبعون سنة على ذلك الحدث التاريخي العظيم الذي أحمله في كياني ومسيرة عمري، لقد وُلدتُ في اليوم الثاني لصدور ذلك القرار الأممي.

مقالات ذات علاقة

ما يُسمى بعصر (الإلحاد العلمي)

قيس خالد

التغريد خارج السرب

عمر عبدالدائم

الصادق النيهوم تشخيص شجاع لواقع مضطرب

المشرف العام

اترك تعليق