قصة

خمسـة نجوم

.

يركضُ الولد الصغير في الطريق الضيقة بين سانيتي الحاج احمد و الحاج المهدي ، يختفي بين سرب أشجار البرتقال في سانية الحاج احمد التي أحضرها أجدادهم المورسكيون معهم من أندلسهم المفقودة إلى هذه الأرض المزاجية التي تقبل من و ما تشاء و ترفض ما تشاء ، يمر قافزاً فوق الطريق المُحرم المرور منه و المصنوع من التحام عرق الحاج بفأسه لكيْ يؤسس لنبات البرسيم مملكته الخاصة و التي تتكرر في مربعات غريبة شبه متماثلة ، يتلطخ حذاءه بالطين يسحب قدمه في تأفف و مرح ، ينظر أسفله لعل سرواله تلطخ ، يحمد الله أن خرج نقياً … يتوقف عن الركضِ قليلاً ليميل بجسمه نحو الصنبور القديم الصانع حواليه مملكةً من النعناع البري تتغذى ببهاء من قُطيرات الماء الساقطة . يفتح الصنبور بعنف الطفولة ، يغمس رأسه تحته ينظرُ إلى حوض الصنبور الذي تغزوه كمية لا بأس بها من الطحالب المثيرة للاشمئزاز ، عندما ينتهي من تبليل رأسه المجعد قليلاً … الناعم بتأثير الطفولة ، تتلألأ عيناه السوداء كقطعةٍ من الحجر المقدس بالكعبة . يمدُ كلتا يديه منحنياً بفمه الصغير ليملأ عطشه ، يمتدُ سمعه إلى صوت نقيق لجرانة تتقافز بجانبه ، يحاول العبث بها و الإمساك بطرف إحدى قدميها دون جدوى … ضفدع أخضر كبير يميل إلى الأسود يبدو مبللاً يختفي td مملكة البرسيم حيث سيصعب الإمساك به لسببين … الأول أنّ مملكة البرسيم مترابطة ممتدة حتى ربع متر إلى الأعلى يصعب رؤية ما بداخلها ، الثاني أنّه إذا أمسكه الحاج بهذه الوضعية فسينال قسطاً من المسبات هذا إن نفذ بجلده .

عندما ينتهي يتقدم للخروج من باب السانية بسرعة ، البابُ الحديدي الذي يصدر صريراً يُكمل بها موسيقى المكان ، يغلقُ الباب بحذر ، و رغم حذره يشاكسه الباب بصريره المزعج ، ينظرُ يميناً ، يساراً ، محاولاً طمأنة نفسه … يسحب نفسه و بسرعة إلى اليمين نحو الطريق الإسفلتي الضيق جداً و الذي يمر بوسطه مجرىً للمياه يذكرك كتلك التي تعبر طرقات الأندلس أو طرقات القاهرة القديمة ، يسار ، يمين ، إلى الأمام عشر خطوات ، يسار … و إلى اليمين مباشرةً بعد أن يخطو خمس خطوات يقابله باب خشبي قديم تخلله مطر الكآبة و صنع منه تشققات كعجوزٍ أعياه الزمان ، يطرقُ الباب بعنف حتى يسمعه من بالداخل ، طرقة … اثنتين ، ثلاثة ، و ينفتح الباب ليكشف جرماً لرجلٍ عجوز قصير القامة ملتحفاً الجرد بمعرقةٍ بيضاء غالبها الاصفرار ، أسنان قد اختفى بعضها وسطَ حربٍ ” ضروس ” مع جنودِ الشاي و الدخان و اللا اهتمام  … ” أوو ! ، ولد لطفية ؟ ” ، تحمر وجنتا الفتى .. يبتسم في وجه العجوز ” مرحباً عمي الحاج …” ” تبي بوك ؟ ” ” آه ” ” خشله “.. يعود الرجل العجوز أدراجه مصدراً ضحكات و تعليقات ساخرة ” ريت ولد لطفية …  ولد لطفية و إلا صمامة أنتَ ؟ ” ” الزوز ” … تتورد وجنتا الفتى مرةً أخرى ، ” لازم تكون واحد بس .. صح و إلا يا حسين ؟ ” يسأل الرجل العجوز والد الفتى في تعليقٍ ساخرٍ منه … يضحك الوالد المنشغل في طرح الرومينو ، يتجاهل سؤال صديقه العجوز ليسأل الفتى ” أيوه محمد شن فيه  ؟ ” … في دقيقة أو دقيقتين يرتحل الولد بعيداً عن سؤال والده ، ليكتشف المكان الذي لطالما كان لُغزاً غريباً … و الذي كان يتخيله بحسبِ اسمه جنةً أخرى على الأرض ، زريبة بها بعض الأغنام المثقلة بالصوف الكثيف … بعض الدجاجات و ديك أحمر يمشي في تكبر معلناً سيطرته على الزريبة ، الكثير من الخردوات المتراكمة فوق بعضها البعض … كرسي دون أرجل ، طاولة مكسورة ، براميل … عجلة دون دولاب ، أشياء غريبة لا يحفظ أسماءها ، معدات زراعة ، خراطيم مياه ممزقة … و خرطوم مياه أخر ينسحب من نهايته الملقى على مملكة صغيرة من مملكات البرسيم حتى يصل إلى طرفِ صنبور مثبتاً به بتل ستة حتى لا ينزلق فور اندفاع الماء القوي … شجرة ليمون تتوسط المكان ، و ” خمسة نجوم ” الدار التي أعيت ذاكرته بالتخيل عبارة عن سقف من ألواح و ألمونيوم و خردوات لتزيد من دعامة الدار ، وكالة من غير باب … أستمر في تقدمه حتى داخل الخمسة نجوم ؟! ، الدار التي دائماً ما تلقيه التساؤلات عن ماهيتها .. ” وين ماشي يا بوي؟ ” ” ماشي خمسة نجوم !! ” … دار عبارة عن سرير موضوع فوقه لوح فوق اللوح مصيدة لاصطياد الجرذان في المصيدة طماطم في الطماطم يوجد السُم ، حصير … و فرش بسيط جداً ، تلفها سحابة من دخان النرجيلة و السجائر ينفثها الجميع ، براد شاي و مجموعة من الأكياس متعددة الأحجام … ” حشيش ” شاي ْ و سكر ، ” خمسة نجوم ” المضيف هنا هو الحاج المهدي أفضل من يصنع الشاي على رأي الوالد ، رجل صاحب صوت مضحك … أعين تدل على أنّه كان من أكثر الشباب وسامةً ، جسم هزيل أعياه كل شيء ، و ذاكرة مشبعة بإيطاليا الفاشية و الموديفيكات و الأنجليزي و الاستقلال … رجل شهد ما لم يشهده الكثير ، والده هو أصغر الجماعة … كلهم ” شيابين ” و كلهم يهوون أشياء كالتدخين بشراهة ، الشاي بشراهة ، الرومينو بشراهة ، و إلقاء الكلمات النابية في أوجهِ بعضهم بشراهة ” ألبس الشدادة يا طحّان ! ” ” شن حال مرتك ؟ ” و تعليقات أخرى تبدو نابية لكنها عادية جداً فيما بينهم ، و الحديث عن أي شيء يمكن أن يقطع الحاجز الزمني الذي تضايق الخلوق به .
” بوي هي تروح بينا ؟ ” … ” مزال شوي … خلي نكمل الطرح هذا ، أشرب شاهي من عمك المهدي ” .

مقالات ذات علاقة

ما وراء السور

إبراهيم دنقو

البرقية

إبراهيم دنقو

طـابور الــتوتــة

كامل المقهور

اترك تعليق