العيد فرح ملوّن يداعبني، يصبغ مشاعري بأطياف زاهية لا أدري من أين تنبع؟ أحاسيس تنتفض داخلي، تملؤني سرورًا، وغبطة، أولد معها من جديد…
أخترق مساحات الزمن المحيطة بي، اقبض على اللحظات الجميلة، أداعبها بين يدي كأنني أمسك بمجموعة من الفراشات الملوّنة، وأطلقها عبر الفضاءات لتنشر أجنحتها ممتزجة بشعاعات الشمس.
العيد شعور يتدفق داخلي مثل نهر ينساب في هدوء ليصبّ فيما لانهاية !.. لا أعلم من أين تنبع تلك المشاعر الفياضة. من وجوه أصدقائي الأطفال، الذين ينطلقون منتشرين وسط شوارعنا القديمة، يلونون الفضاءات الرحبة، يصدحون بأصواتهم الرقيقة، عصافير صغيرة تطير على الأرض تلونهم الملابس الجديدة…
أو ربما تجيء من وجوه الرجال الطيبين، تشع من أعينهم المسكونة بالودّ، أعينهم المؤتلقة ببريق يبعث على الطمأنينة والحبّ.. ولعلها تأتي من همسات نساء شارعنا، أو من ثرثرة عجائزنا الحازمات، وحركتهن الدؤوبة التي لا تهدأ.
للعيد رائحة خاصة، مميزة تتسرب إلى أعماقي مختلطة برائحة شوارعنا القديمة، تمتزج بأحاسيسي لا تفارقني.. وتشكلني فرحًا.. معانقًا كل الأشياء، متداخلًا فيها.
ليلة البارحة نامت المدينة القديمة متأخرة.. لم تسكن حركة العابرين في الشوارع إلا في ساعات متأخرة من الليل.. كنت أسمع وقع خطواتهم على الأرض، كأنها تستعجل قدوم العيد.. اسمع أصواتهم المتداخلة،مغمورة بالحبور.. حاولت النوم مبكرًا.. لكنه هجرني، ظللت يقظًا تحت اللحاف.. الانتظار، والترقب يتجاذبان مشاعري.. الخوف من أن يطل صباح العيد، وأنا نائم فلا استمتع بساعاته الأولى !
حرصت على النوم مبكرًا لاختصار الزمن، واجتياز بوابة الليل، للتعجيل بمجيء العيد !.. حيلة طفولية لاختصار مسافة الزمن، تقلبت على فراشي.. الشعور بالسعادة، دفع شبح النوم بعيدًا عني ! آلاف الخواطر تعبر رأسي المزدحم.. عشرات الصور تمر أمام عينيّ نصف المغمضتين…
قفزت من فراشي أكثر من مرة، متطلعاً عبر النافذة إلى الأفق الواسع، باحثاً عن شمس يوم العيد.. ذهبت إلى المكان، الذي أودعت فيه ملابسي الجديدة مرات، ومرات.. خطواتي الرحيل بين الملابس الجديدة، وانتظار الصباح أتفقدها، ارفعها بين يدي، أحملق فيها وبسعادة خوف.. اقلبها، أتشمم رائحة العيد منها.. وبعد أن اطمئن، أعود إلى فراشي من جديد !
كنت اخشى أن افقد قطعة منها، هذه الملابس التي اشتراها لي “جدّي” منذ يومين. وكانت فرحتي بها عظيمة. اغتبطت حين اصطحبني معه يجّرني، ممسكًا بيدي الصغيرة منطلقاً إلى السوق…
كبرت أفراحي حينما اختار لي ملابس العيد.. احتضنتها عانقتها، أمسكتها بقوة خشية أن تسقط مني في الطريق…
فمازلت أذكر الواقعة المؤسفة التي حدثت لي السنة الماضية.. حادثة لا تنسى.. علقت بذاكرتي، أتذكرها عند قرب موعد العيد، يرتجف لها جسدي، أحرص كل الحرص ألا تتكرر معي مرة أخرى !
قبل موعد قدوم العيد في العام الماضي ذهبت مع “جدّي” كالعادة إلى السوق، اشترى لي الملابس الجديدة. أودع في قلبي فرح الدنيا كله !.. عدنا إلى البيت متأخرين، في البيت كانت المفاجأة !.. نشرت الملابس أمام عينيّ “جدّتي” لأريها ما اشتريناه !.. اختفى القميص.. بحثت عنه بعينين غائمتين، فتشت الملابس، قلّبتها بين يديّ بقلب كسير، لم أجده !
صدمتني اللحظة المفجعة، فلقني الحزن، آلمني الموقف بكيت بكيت، ولولت بحرقة قلب ماتت فيه الفرحة قبل أن تولد.. انسكبت أفراحي راكضة بعيدة عني !.. احتارت الأسئلة برأسي كيف سأستقبل العيد؟ ماذا سأقول لأصدقائي الصغار، عندما يطرقون باب بيتنا صباح العيد؟ كل واحد منهم يرتدي ملابس العيد كاملة زاهية ! أأقابلهم بقميص قديم باهت فاقد البريق ! ليس لديّ قميص مناسب للظهور أمامهم يوم العيد، كلّ ما امتلكه مجرد قميصين قديمين، باهتين تضوع منهما رائحة الصابون السوسي، وقِدم السنوات…
جدّي ليس بمقدوره شراء قميص آخر. العيد فرحة متألقة بالنسبة إليّ، وكساء سنة كاملة بالنسبة لجدّي، شراء قميص آخر سيكلفه مبلغًا إضافيًا.. توسلت إلى جدّي أن يعود إلى الشوارع، يتتبع مسار خطواتنا لعله يعثر على القميص ! حمل تعبه وإرهاقه المتواصلين، خرج يجوب الطرقات، باحثًا عنه، وعن فرحتي الضائعة بين شوارع المدينة، وعلى أرصفتها…
انتظرته ممنيًا نفسي بأنه سيجد القميص، سترجع لحظة الفرح المسروقة مني قبل مجيء العيد. الوقت متأخر، الليل أكداس حزن في قلبي.. رجع ”جدّي”.. استقبلته عند مدخل البيت، تطلعت إلى عينيه، لاحظت انطفاءهما خيبةً، وانكسارًا، قال لي بصوت حزين، يمطه الأسف، وهو يسير نحو الحجرة:
– لا فائدة.. ضاع القميص.
شهقت جزعاً:
– ضاع…
قالت “جدّتي” بجدية واهتمام بالغين:
– أبحثت جيدًا.
أجابها مؤكدًا وهو يستلقي على الأرض متعبًا:
– أجل قطعت كل المسافة التي مشيناها، دققت النظر في الأرض، لكن لا أثر له، قميص جديد يرقد على الرصيف عشرات الأيدي تلتقطه، الميادين كانت مزدحمة.. أتمنى أن يقع في أيدي بائسة تستفيد منه.
هزّت جدّتي رأسها أسفًا.. تمتمت:
– خسارة، فليعوضنا الله.
أضاف جدّي بنبرات تشوبها الدهشة:
– لا أعلم كيف ضاع؟ بهته أن يفتح عينيه جيدًا وسط الزحام.. لكنه سقط منه ! ثمنه لم يدخله قرش حرام.. وبالرغم من ذلك ضاع.
قالت جدّتي مواسية:
– لا تؤنب نفسك كثيرًا.. فهو مجرد قميص.
– قميص ! لكنه سيكلفني مبلغًا آخر، استقطعه من مرتبي أنت تعرفين ماذا يعني ذلك.
– لا تقلق دعنا من هذا الأمر الآن.
قاطعت حديثهما باكياً:
– كيف استقبل العيد من دون قميص جديد.
قال جدّي:
– ارتد قميصًا آخر.
قلت باكياً:
– ليس عندي قميص يناسب العيد.
قالت جدّتي مؤنبة:
– إنه ذنبك على أية حال، كان عليك ألا تضيعه، ليس من السهل تعويض ما تفقده، سأفتش لك عن قميص قديم يليق أن ترتديه غدًا.
رحت أصيح، ضارباً الأرض بقدميّ محتجاً:
– أريد قميصًاجديدًا، أريد قميصًا جديدًا.
قال جدّي بحزم:
– أسمع يا ولد لا تصرخ هكذا، لا يمكنني أن أجد لك قميصًا جديدًا بدلًا عن الضائع، المحال أقفلت أبوابها، نحن على أبواب الصبح، لا تزعج الجيران ببكائك .. امض إلى فراشك.
كنت أطلب المستحيل وقتذاك.. الوقت متأخر، جدّي لن يستطيع أن يشتري لي قميصًا جديدًا وربما لا يملك ثمنه أيضًا.
اضطربت مشاعري. اختفت ألوان العيد من أفقي الذي تلبد بغيوم المرارة واليأس.. قفزت إلى مُخيلتي صورة أصدقائي الصغار مرتدين أثوابهم الجديدة ذات الرائحة المتغلغلة في لحظات العيد.. شعرت بالخجل قبل أن ألقاهم.. بكيت مرة أخرى ! بكت أحلامي في المنام…
***
جاء العيد مشرقًا في ضحكات الصغار، شمس ساطعة تسبح داخل أعينهم، رأيت ذلك كله عندما طرقوا باب بيتنا.. رفضت في البداية الخروج إلى الشارع !.. لكن جدّي وجدّتي أصرا على خروجي…
رتقت جدّتي القميص القديم، طرحته على الأرض حاولت إخفاء تجاعيده، مسدته بيديها المعروقتين دفنته تحت الفراش حتى ينبسط.. القميص ظل باهتًا.. سيسخرون مني ! تجاعيده لم تختف.. ارتداني القميص حزناً وكآبة !.. لبسني عنوةً بيدي “جدّتي” وحزمها…
خرجت حزينًا مهزومًا إلى الشارع حيث العيد، والصغار.. فوجئت بكل شيء يلمع ما عدا قميصي ووجهي !.. اغتربت بينهم، لم أشاركهم ألعابهم، لم أقاسمهم ضحكاتهم.. حرصت على أن أسير خلفهم متواريًا، كلما مشوا قاصدين بيتاً لتهنئة أهله بقدوم العيد كنت ظلًا خافتاً خلفهم !
أسير ببطء، حتى وصلنا إلى محل “عمي مسعود” العجوز الذي يقطن ذلك المحل وحيداً منذ أن هجرته زوجته، وتركه أولاده، عمي مسعود بائع الملابس القديمة، صديق كل الصغار !
استقبلتنا عيناه بفرح طاغ.. فتح ذراعيه على اتساعهما.. ضمتنا ابتسامته الواسعة المسكونة بأفراح العيد.. وزّع علينا حلواه المعتادة !.. التقطها الأطفال، صائحين، قافزين في الهواء مثل قطط…
لم أثب مثلهم، بقيت ساكنًا في الخلف ! لم أتحمس لالتقاط حصتي من الحلوى. ويبدو أن العجوز لاحظ عدم حماستي.. رأى امتقاع وجهي.. شعر بحزني، شق سرب الأطفال بهدوء، اقترب مني! سألني باهتمام:
– أراك مكتئبًا ياصغيري، أنك لست مرحًا مثلهم. ما بك؟
قلت له محاولًا الهرب من عينيه وتساؤلاته:
– لا شيء.. لاشيء.
ثنى ركبتيه، جلس على الأرض، صار مستوى رأسه قريبًا مني، قال ملاطفًا:
– لا تكذب، لا تكذب على عمك مسعود، الكآبة واضحة على قسماتك.. ما هو السبب.. هه.. أخبرني.. العيد يوم فرح، لا يجوز أن يكتئب فيه الأطفال…
لم أنطق غالبتني دموع اندفعت ساخنة من عيني.. تفحّصني بعينين مستريبتين، وكأنه أدرك الموقف، لامس القميص بأصابعه، هز رأسه وقال:
– هذا قميص قديم،أين قميصك الجديد؟
– ضاع مني ليلة البارحة.
صمت لحظة ثم نهض وهو يقول:
– “حسنًا لا تحزن أيها الصغير، العيد يكره أن نلاقيه بوجوه عابسة، انتظر.. لحظة.. انتظر.
ركض متمائلًا إلى محله، غاب برهة. عاد مهرولًا، ناشرًا ابتسامة عريضة على شفتيه، دفع إليّ بقميص، قال بفرح:
– خذ.. خذ هذا القميص، إنه ما يزال جديدًا.. اشتريته مع مجموعة من الملابس.. لقد أكد لي صاحبه أنه جديد.. جديد لم يلبسه أحد قط.. خذه.. خذه…
لم انتظر مددت يدي قابضًا على القميص.. تفجرت ينابيع الفرح في أعماقي سمعتها تهدر بصخب.. تسربت رائحة العيد إليّ، جاءت من ابتسامة عمي مسعود الواقف قبالتي، يتأملني بزهو وسعادة غامرتين. شممتها تغمر محله، لتضوع في كل الشوارع.. فطنت إلى أن الشمس مشرقة في ذلك اليوم.. وأن العيد يسكن عينيّ هذا العجوز الودود…
عرفت آنذاك من أين يجي العيد. العيد فرح ملوّن ينتظرني.. رائحته المميزة تتخلل كل الموجودات.. ملابسي هذا العام ترقد إلى جانبي.. لم أفقدها. العيد يعلن عن نفسه فرحًا مختبئًا تحت ألوانه، وفي كل الأشياء…
سأنطلق إلى عمي مسعود.. استنشق رائحة الفرح في محله.. أعانق عينيه المضيئتين بالود، والإشراقات، أتلقى حلواه.. أتحول إلى عصفور زاهٍ، يزّين الشوارع مع بقية العصافير الصغيرة الملوّنة.
* هامش/ من كتاب الحكايات الجزء الأول “ليل الجدّات” الصادر عام 2006. كما سبق أن أُذيعت عبر الإذاعة ضمن برنامج حكايات عام 1987.