.
اعتاد أن يجلس على الركابة* بجانب محل الحاج الهاشمي الذي يتجزأ إلى محل لبيع المواد الغذائية ، حلوى و علكة من الطرازِ القديم و جزء أخر عبارة عن حصيرة و مجموعة من السلتات* الموزعة دون انتظام و عالة* شاهي تتوسط الجلسة لتصبح عبارة عن اجتماع لشيابين المنطقة يتحدثون فيه عن موسم النخيل و عن الحاج فلان المتوفى و بعض الأمور التي تتعلق بكبار السن ، اعتاد أن يجلس في ذاتِ المكان … لا مكان غير ذاك المكان ، رجُل في الأربعينات من عمره ذا وجه ممتلئ ، جسم مليء ، يدان غليظتان، و عينان تفيضان دوماً بالشرر و الغضب لا تكادُ تتفتحان ، ترتسم على جبهتهِ خطوط تجهمٍ أو قرف من الدنيا الغبرة .
هل كان خالد النّعاس –والذي تربطني بهِ علاقة قربى بعيدة– لي مجرد كائن يأكل و يشرب و يرمي بالأحجار على الأطفال المشاكسين؟، هل كان لفظ ” عككز* ” الذي التصق به –منذ لا أدري متى– كالقُرَادْ يحاول أن يتملص منها دون جدوى … فيرمي بالمسبات و البرطمات و الأحجار الكريمة منها واللئيمة كل طفل أو مراهق يحاول أن يفسد عليه وحدته / سكينته؟، هل كان مريضاً؟… هذا ما يقوله الجميع “خالد مريض”، خالد روح تائهة وقفت عند مفترق الطرق فلم تستطع الحراك… غادرها الطريق، غادرها الزمن، غادرها كل شيء و لم يبقى لها إلا هيْ … خالد ضحية “توحد” أو أي مرض نفسي يجعلك تتقمص نفسك و تعادي كل من حولك .
لا أعلم كيف عرفت أنّ خالد “عككز ” كان خطراً بالنسبة لي كطفل، و لا أعلم كيف بدأت حكاية خوفي منه … لربما بدأت بالطريقة الاعتيادية، كنتُ سأكون –كأي طفل– قد خرجتُ صحبةَ طفل أخر يحب أن يشاكسه … لفظ الطفل بلفظة ” عككووووووز ” و أطلق رجليه للريح و وجدتني أطلق رجلاي معه قبل أن تتفادني ببضعِ سنتيمترات “رشادة”* يخبئها خالد في جيبِ سترتهِ تحسباً لأي هجوم طفولي كهذا … على ما أعتقد أنّ هذا ما حدث ، لا يمكنني أن أعرف أنّ خالداً كان يمتلكُ سلاحَ ” التحديف بدقة ” إذا لم أتعرض لهذا الموقف منذ البداية . المهم أنّي خفته لدرجة كنتُ أراقب فيها مكانه المعتاد عن بعد ، إن وُجِد فيه أتخلى عن فكرة الدخول لعمي الهاشمي محيياً إياه و موصلاً سلام جدي المريض له ثم آخذاً بضاعتي لأنصرف على وجهِ السرعة قبل تواجده .. أتخلى تماماً عن فكرة المرور من السليطة المؤدية للجزء العلوي من شارع النعاعسة حيثُ يقطن عمي عثمان و حيثُ الحلاق و حيثُ ” الحياة ” حياة ، أو إلى أسفل الشارع حيث يقطن عمي عبد الوهاب إذا وُجد خالد في الجهة الأخرى من السليطة ، الجهة التي يمكنه أن يراني فيها و أنا أنحدر يساري بسرعة نحو منزل عمي عبد الوهاب أبحثُ عن طريق أبعد و أأمن لي متأففاً .
أحياناً تأتيني الشجاعة على أن أشاكسه كما يفعل غيري ، و لكن تلك الأحيان كانت قليلة جداً … قليلة بدرجة أنّها لم تتعدى العشر مرات ، كنتُ أخافه حدّ أني كنت أحلمُ به يقذفني بالحجر قابضاً بيده متوعداً أياي بالقتل – رغم أنّي لم أسمع صوته إلا في مناسباتِ قليلة – . أتذكر أنّي كنتُ ألعب الكرة مع أبناء الحيْ و كنتُ حارسَ المرمى عندما تمثل خلفي جرم خالد الضخم ينظرُ نحونا غاضباً … نظرتُ إليه في رعب ، غادرت مكاني ببطء حتى لا يشكك بأنّي أخافه – هكذا كنتُ أعامله عندما يفاجئني … أمر بجانبه ببطء شديد و عند ابتعادي عنه قليلاً أطلق رجلاي للريح – .. تمتمت خائفاً هامساً بـ ” عككز ” و التي لا أعلم كيف وصلت لأذنه ، لم أتقدم بضع خطوات حتى شعرتُ بأنّ شيئاً ما قد ارتطم بظهري ! . كانت أولى إصابات خالد لي … عندما صحوت على وقع الضربة ، التفتُ خلفي لأراهُ واقفاً يبادلني نظرات ملؤها الشرر … لا أتذكر ماذا حدث بعدها ، و لكنّي أتذكر أنّ الأمر لم يكن طيباً .
بعد تلك الحادثة لم أحبذ رؤية وجهِ خالد في حياتي أبداً ، و قد مرت سنوات لم أمر بها من ذاك الشارع لأي سبب من الأسباب لا لعمي الهاشمي – الذي كنتُ أحياناً أتحصل منه على طاسة شاهي بالكاكوية أشربها على عجل – و لا لعمي عثمان و لا للحلاق حتى ، عندما أصبحت في السادسة عشر نبأني ابن عمي أنّ ” كوكز ” كما كان يلقبه تزوّج ، ضحكتُ ملء فايْ … و سألته سؤال غبيْ : كيف يتزوج ؟ ، كنتُ صغيراً … كان خالد كبيراً ، الآن عندما أمر بجانبه لازلتُ أحتفظ بذاتِ النظراتِ المرعوبة إليه ناظراً إلى جيبِ سترته لعلّ حجراً طائشاً أو غير طائش قد يضع علي علامة ما ، لأتفادى شرّه أقول له ” السلام عليكم .. كيف حالك يا خالد ؟ ” ، ينظر إليْ بذاتِ النظراتِ التي اعتدتها منه .. بتجهم ، يردُ السلام بصوت غير مسموع ، ” و يتوكل علي حاله ” و أحمد الله أني خرجتُ من لقاءه سالماً ! .
__________________________________________________________________
الركابة : جزء خارجي – شبيه بالدُرج غير أنّه مرتفع قليلاً – من بعضِ الأبنية بتاجوراء يُجلسُ عليه .
السلتات : جمع ” سلتة ” و هي الفراش الغير محشو كثيراً .
عالة الشاهي : من التراث الليبي في تحضير الشايْ ..
عككز : من ” عكاز ” ..
رشادة: حجر صغير.