حاد كالحقيقة وناعم كالحلم، فيه رعونة الشباب الدائم وسكينة الشيوخ، مسالم كنسمة العشية ومحارب كالحياة، الصدق فيه يشع بحدة من عينيه ومن لهفته لإغاثة الملهوف، لم يأخذ لأنه كمعطى ليس لديه وقت للتفكر في مسائل الذات، عاش من أجل أن تكون الحياة أفضل واتخذ ما اعتقد أنه السبيل لذلك، كان الآخرون هم أسرته والأبعد هو القريب ولم يأل جهدًا من أجل ذاك: كانت فلسطين مركبه الصعب ما عاش من أجله، حتى البعث جاءه لأجلها ومن أجلها عرف السجون وكلت منه في ستينات وثمانينات القرن الماضي، أما بلاده فانحاز إليها كخادم للمعوزين فيها، ولذا أسهم في تأسيس جمعيات عدة كجمعية الكفيف، وأما مدينته بنغازي فلم يتركها مرة كما يسكنها تسكنه وأن كتب القليل من القصص فمنها وإليها، وهذا القليل ترجم إلى الصينية لتعرف حكايا بنغازي ولو في الصين.
كنت في حي الصابري طفلاً تم تطعيمي ضد الكوليرا ونغزت الإبر في جسدي كلما مرضت في مستوصف حكومي عرف بـ”مستوصف بوخيط”، سي عبد الله بوخيط الممرض الرئيس للمستوصف ما عرف المستوصف باسمه منذ الستينات حتى الساعة، المفارقة أني عرفت مبكرًا قصصًا مميزة شدتني لرمضان عبدالله من سأعرف، لأعرف أخيرًا أنه رمضان بوخيط ابن ذلكم الممرض من كان متعصبًا للعلم أولاً وللصحة ثانيًا وكذا عرفت ابنه.
كأنما ولد هذا العصي لأجل الرحمة، هذا الشفاف كحد الشفرة، هذا العنيد من أجل أن تكون الحياة أسلس، هذا الرجل الرؤوف من أجل أن تكون المرأة حرة من ديدنه الحرية، من كان حيث الحاجة إليه لم يملك من الدنيا غير رمق الحياة، ولم يكن في أي ساعة في الضوء كان في الظل وهو الظل الظليل حيثما كان: ذات مرة في ستينات القرن الماضي أبعد من مدينته بنغازي إلى مدينة غريان، وكقوى ناعمة اشتبك في المدينة وجعل ما يفترض أنه منفاه مدينته فأعيد على عجل، كما عاركته الحياة عارك الدولة من أجل الوطن ما عنده مشروع: رمضان عبدالله بوخيط مسترسلاً يكتب قصته، أخال عبدالله القويري في المقهى وقد فاتني أن أسفل المبنى قد كان مقهى بازامه صاحب كراكوز بازامه الأشهر في خمسينات بنغازي، وهو غير بازامه المؤرخ وإن كان من عائلته، وأن عبدالله القويري: تدثر بالظلام وطاف وحده بالمدينة فيما النوافذ تتلصص عليه وهو يحوم حول هذه البنايات الكئيبة كطائر فقد عشه. انفض المقهى وبدأ النادل يلملم كراسيه المبعثرة على الرصيف تمهيدًا لقفله ودون أن ينظر إليه:
– أستاذ. تعاقب الليل أرجوك لملم كتبك أريد أن أجمع هذه الكراسي والمناضد داخل المقهى. تفرس فيه. حتى هذا يريد أن يتخلص منه. انتفض على صوت سيارة تمرق وسط الشارع. كان صوت موج البحر واضحًا في صمت الليل ممزوجًا بصوت حفيف الأشجار يسقط على الأسفلت مع وقع أقدامه. دخل الفندق وبالدور الرابع حيث حجرته الباردة، تمدد على سريره بكامل ملابسه. عقد يديه خلف رأسه محدقًا إلى فوق. إلى عنقود الضوء المعلق بالسقف. تحسس وجهه وبقفا يده اليسرى مسح دمعة كان يحس أنها تسيل على خده من غير صوت ولكن بقهر. رمضان عبدالله بوخيط مسترسلاً يكتب قصته: حكايات الماضي القريب في ركينة المقهى دون أن ينتبه أحد غير البحر الهائج، ما يحوط من أركان ثلاث بنغازي شبه الجزيرة الليبية.
بين هذه الأركان الثلاث أمشي وحيدًا مسورًا بالبحر، وفي البال خاطر ينسرب من خاطر، على يميني مصرف الأمة روما سابقًا، وقبالته شارع يسده البحر عند ثلاجة الميناء، في ركن الشارع شارع عمر المختار؛ المصرف التجاري الوطني، في منتصفه المصرف العقاري يحاذيه مصرف الوحدة فرع المختار، ما أكثر المال ما أقل الجمال في هذا الخيط الرفيع من هذا الشارع الذي في طرفه شرطة السياحة حيث كان البنك العربي، وفي نهايته في ميدان البلدية فرع للمصرف التجاري الوطني؛ غص عمر المختار مالاً كما رشق على الأوراق المالية ورشح هذا المال قبحًا في هذا الشارع المغمور بالورق والمغفور بأوساخها. أمشي الهوينا مسورًا بمبنى مصرف الأمة الحديث، مبنى وظيفي ملطخ بالورق تستمد البشاعة منه ملامحها فيخرج على مدرس سيارات ليوكد هذه الملامح ويصبغها بالعبث، محاذيًا المصرف الوطني ما يتمخطر في طراز إيطالي يصبغ حلة شارع عمر المختار، ولا شيء يقطع خيط الوصل بين ما يجوس النفس من خواطر وبين أحلام يقظة شرسة تنبش العقل الباطن والبراني.
الرتابة تندس في المكان وفيروس الوحدة القرين، مدركًا أن ليس بمقدورنا أن نفهم من نحن، نحن اللغز الذي لا يحرزه أحد، مدشنًا الخاطر بطلعة بهية مسافرًا منفردًا في الشارع ولا أحد يرانا أو يسمعنا، نحن فقط نرى أنفسنا: هو يحث الخطى وأمشي الهوينا، أقرب من الوجيب ولكن على خطوات مني، أرقبه وقد تخطى الشارع المندس بين مدرس السيارات والبحر في طرفه الأول المصرف الوطني، وفي الثاني كانت مكتبة عامة في الخوالي من الأيام، كنت من روادها أطالع مجلات الأطفال سندباد والليبي الصغير وسمير وأسرق ما أقدر من كتب الكيلاني ملخصات شكسبير وديكنز، وكنت تركت خلفي المركز الثقافي الليبي في تقاطع عمر المختار وجمال عبدالناصر وكان هذا: مركز مرتع الصبا ومطلع الشباب.
يكتب قصته: حكايات الماضي القريب في ركينة المقهى دون أن ينتبه أحد غير البحر الهائج، رمضان بوخيط قصة حية يعيش عقده الثامن في المدينة التي تنبه في قصة له كتبها في عقده الثالث أنها لم تعد عجوزًا، تنبه أن البترول فعل فعله في البلاد التي لم تعد البلاد، لقد خلَ المقهى من الخلان عقب اكتشاف النفط، الكل أعطى الظهر لبحر الماء الأجاج وتوجه إلى بحر الرمال حيث غاصت البلاد وناء الوطن.
كذا تنبه رمضان بوخيط وهو يكتب قصته أو حكايات الماضي القريب في ستينات القرن الماضي أدرك المآل.