من أعمال التشكيلي عمران بشنة
قصة

امرأة على حافة العالم


تركت كل شيء خلفي.. أدرت مقبض الباب الخارجي وقررت السير دون وجهة محددة.. شعرت أن العالم لي وأنني قطعة منه وما علي إلا الاستسلام لقدميّ في جولة حتى ينخزهما إنهاك لذيذ وتقرران العودة…
لمحتها تجلس على كرسي من البامبو وتبتسم.. هل تبتسم لي؟ جاوبتها بابتسامة.. فعاودت مرة أخرى حتى ابتهجت أساريرها وكأنها زهرة قررت التفتح للتو…
كانت ترتدي قميصا أزرق مزخرفا يغطي أسفل ركبتيها وبنطالا فضفاضا أزرق ساده.. اللون الأزرق يفيض حبا للحياة أو هكذا رصدته عدستي.
نَهَضَت.. ثم اقتربت ببطء حتى حافة الشرفة المنبسطة أمام بيتها.. انزلق غطاء رأسها نحو كتفيها فحاولت بأصابعها أن تبقي عليه في آخر لحظة وفي ذات الوقت أغمضت يدها الأخرى في إشارة لي أن تعالي.. كررت ذلك أكثر من مرة…

من أعمال التشكيلي عمران بشنة
من أعمال التشكيلي عمران بشنة


كنت قد قررت السير رفيقة نفسي ولا رغبة لي في حديث، لكن صوتها تسلل ناحيتي، بلحن ليس لأهل البلد “Come.. come”
ترددت لكنني تذكرت نصيحة أمي أن عليّ بجبر الخواطر.. كان البراح ينتظرني أن ألقي بنفسي إليه حتى أتعب.. لكنها منعتني وطلبت لقائي فلبيت…
أستدرت ناحيتها، وجرجرت قدميّ نحوها…
Hello my dear
حييتها.. أمسكت بيدي وطلبت أن أجلس إلى جوارها على الكرسي البامبو المقابل…
جلست…
إلى أين أنت ذاهبة؟..إلى أين وجهتك؟…
ابتسمت والقيت بردي بتلقائية “إلى حافة العالم..”
فتحت عينيها على اتساعهما فاكتشفت أنهما خضراوتان.. كما تمعنت فيها فإذا ببشرتها حليبية ناعمة رغم التجاعيد المتشابكة فوقها كالنباتات المتسلقة على وجوه البيوت، وتحت غطاء رأسها لمحت شعيراتها الحمراء.. وكأني بها اكتشفت استطلاعي فكشفت عن شعرها القصير الأحمر…
“ابنتي تصبغ لي شعري بالحناء.. أقيم معها”
ثم كررت السؤال بما يحمل إجابتي.. “هل قلتِ لي أنك ستذهبين إلى حافة العالم؟”
هززت رأسي بنعم…
رأيت حيرة كبار السن في ملامحها.. طفولية بريئة يملأها الفضول ويشع منها التطفل…
“هل تقصدين بلدي؟.. بلدي يقع على حافة العالم.. بعيدا.. بعيدا جدا”
ضحكت.. وسألتها ومن أين أنتِ؟
وبذات الحيرة العميقة التي رأيتها في مقلتيها أجابت…
“حقيقة لا أدري.. ولدت في افغانستان وعشت في بيشاور وتزوجت بنغالياً واستقررت في دكا.. لكن لنقل أنني بشتونية.. هذا أفضل بالنسبة إليّ.. يريحني من عناء الغوص في الذات…”
أردفت.. “تلك المنطقة على حافة العالم.. بعيدة جدا.. لم تعد صحتي تسمح لي بالسفر إليها.. أما أنت فما تزالين شابة…” نثرت حبات فضول أخرى وهي تتمعن في وجهي.. “هل أنتِ ذاهبة إلى هناك؟”.
كانت في العقد السابع، محنية الظهر، ثقيلة الحركة، لكن مسحة الجمال وأناقة الملبس أفصحت عن الكثير..استمرأت الحوار…
“نعم ذاهبة إلى هناك…” حينها فقط فهمت مزاحي.. فاستراحت…
“ليس للعالم حواف.. كنت معلمة في بيشاور”.. ثم قهقهت بنبرة رنانة صادقة.. ورددت بإعجاب واستغراب وهي تهز رأسها وتحدث نفسها “الذهاب إلى حافة العالم”!…
ران صمت فغصت في جملتي التي نطقت بها دون تفكير.. وشعرت فيها رغبة جامحة للفرار من العالم.. إحساس كأن قدميك تسوقانك إلى حافة جبل شاهق لتأمرك بالتوقف والتأمل والحلم…
تخيلت نفسي أجلس على حافته وأؤرجح ساقيّ.. أن يصبح العالم خلفي والفراغ أمامي.. أن أقف ندا له وأنا أحاول التملص من الرهبة.. أن أرقب الطيور تبسط أجنحتها ثم تميل بزاوية حادة وهي تستعرض أمامي.. أن تكون قدماي على الأرض فيما أشعر بأنني أعلى منها.. هو ذاك الشعور الصحو والزائف في آن واحد أنك تقترب من السماء.. أن يتخللك السحاب فلا تراه.. وأن تواجه قرص الشمس وهو يصحو بكامل عنفوانه وأناقته ثم يتحلل ويتلاشى عند غروبه…
استفقت على كلماتها…
“ابنتي تعمل طوال اليوم.. تصر على أن أبقى بالداخل” أشارت إلى باب البيت.. “لكنني اليوم خرجت الجو صحو ودافئ.. وها أنا أجدك…” ثم ضحكت.
بدت لي كطفلة أمسكت بسمكة وهي فرحة رغم يقينها بأنها ستفلت وتنزلق من بين أصابعها وتغادر بعيدا أو تنتفض حتى تموت قريبا منها فتشعر بالذنب ثم تنسى..
“لم أسافر في حياتي.. لكنني حين سافرت كانت رحلة إلى حافة العالم..” ثم قهقهت وهي تضيف “هذا البلد بعيد”.
وافقتها وأنا أهز برأسي لكنها تداركت بالقول..”أحيانا يختلط عليّ الأمر فلا أعرف هل هذا البلد بعيد أم أنني أتيت من بعيد..لم أعد أدري”.
تكاثف صمت ثقيل.. يبدو أن الضجر علا قسماتي، وقرأت في حركة أصابعي على ذراعي الكرسي رغبتي في النهوض ذلك أنها تحركت في كرسيها ودنت بجسدها النحيل نحوي وقالت “فلنحكِ على حافة العالم” ثم انفجرت ضاحكة فاستدرجتني لضحك مطول…
ما أسهل أن يستدرجك الضحك كما طفل يلهث في حقول الذرة وهو يقهقه دونما سبب سوى ذلك الشعور بالتخفي والحرية معا.. ورددت مرة أخرى “فلنحكِ على امرأة تقف عند حافة العالم..”
“ماذا عنكِ.. هل شعرت ذات يوم أنك تقفين على حافة العالم”..
كأنني فاجأتها بالسؤال.. عدلت من غطاء رأسها وأطلقت نظرها في الفراغ وقد استغرقها التفكير حتى استحوذ عليها…
انتظرت.. فعادت بنظرات مترددة نحوي..
“لا لم أقف قط على حافة العالم.. وقفت مطولا في المطبخ وأمام حوض الغسيل.. وقفت مطولا أمامه هو.. كان ضخما حاد القسمات.. يمنعني من الخروج حتى إلى الشرفة”…
شبكت أصابعها وأرخت ذراعيها على حجرها.. هب نسيم مسائي أنعش ذاكرتها وأطلق عنان بوحها فأسترسلت دون سؤال “شيء واحد لم يمنعه عني.. الهواء، ملأ فمي بالنقود حتى ثقلت حركتي وتحشرج صوتي ثم خبا.. واستكنت، وحين استكنت دُجنت واصبحت غايتي رضاه ولم ارض عن نفسي”.
زاغ بصري وشعرت بالحرج.. لم أكن أنتظر ما سمعت منها.. توقعت أن يستمر جو المرح.. وأن تهديني بعض الحكايات الطريفة والصور الملونة من مخزونها القديم وموطنها البعيد…
“هناك من يذهب إلى حافة العالم بقدميه.. وهناك من يجد نفسه هناك بمحض الصدفة وهناك من يأخذونه إليها.. المهم الوصول في الوقت المناسب، وأنا لم أكن من بين هؤلاء المحظوظين…” “تعثرت حياتي منذ أن رافقته إلى دكا.. لم أحب بلاده لأنني لم أخرج منها إلا إلى هنا”…
“لكنك خرجتِ…”
“نعم متأخرا جدا.. جدا.. لم أعد أملك من الصحة ما يكفي حتى للمشي إلى منتصف الشارع”.
حاولت أن أغير مسار الحديث بكل ما أملك من مهارة وكأنني أقود شاحنة في زقاق…
“ماذا عن ابنتك؟”
تنهدت.. “ترفض الزواج.. لكنها تعمل طوال اليوم.. تعود منهكة.. تتناول الطعام ثم تدفن وجهها في شاشة هاتفها وبعدها تنام…” “تردد أمامي أنها لا تستطيع السفر ولا الغياب بسببي.. تخيلي.. كم يؤلمني هذا القول”…
شعرت أن جلستي هذه وما بثته من كلام أخذاني إلى بقعة مظلمة من العالم عكس وجهتي التي كنت أنشدها.. وللمرة الثانية لاحظت السيدة البشتونية ضيقي فقطعت عليّ أفكاري…
” نا لا أشكو.. لكنني أقول لكِ فقط..اذهبي إلى حافة العالم.. لا تتوقفي أبدا عند عتبات الأبواب”…
فجأة اعتدلت في جلستها وبدأت خفيفة كحمامة تتأهب للطيران.. اتسعت عيناها حتى رأيت صورتي في حدقتيها فخفت…
“كان عنيفا رغم طيبة قلبه واعتذاره في كل مرة.. لكنه يعاود صنيعه”.. تنهدت وأردفت “لماذا بقيت معه؟”.
رددت مجددا بصوت خفيض وهي تهز رأسها “الذهاب إلى حافة العالم”، ثم باغتتني بابتسامة…
“لو كنت أعلم بحافة العالم لكنت غادرت إليها.. أتيت إليّ متأخرة جدا”.. ثم قهقهت مجددا.
ارتبكت ولم أعد أعلم فيما إذا كان عليّ مجاراتها في الضحك.. كان ضحكها رغم علوه واسترساله مريبا وبدا لي مفتعلا…
نهضت إيذانا بالمغادرة.. تبعتني بصعوبة وهي تحاول أن تمسك بيدي.. فتمهلت…
“إلى أين تغادرين الآن؟” ابتسمت وأردفت “هل ستغادرين إلى حافة العالم؟”
نظرت في حدقتيها اللتين بدتا لي كزجاج مزخرف عاكس رأيت فيهما وجهي مبتسما وقلت وكأنني أخاطب ذاتي “ليس بعد”.. وغادرت…
___________________________________
8 سبتمبر 2019

مقالات ذات علاقة

الْمنْجَل

أحمد يوسف عقيلة

الشاهد

أحمد يوسف عقيلة

من وحي حياة وشخصية وروحانيات الراحل الكاتب الصحفي بشير كاجيجي

أحمد إبراهيم الفقيه

اترك تعليق