من أين نبدأ حواء؟
وفي كل قصيدة نفير حواس اجتمعت لترصد:
• سيرة البنت
• طرابلس التي تحب
• طرابلس التي تعيش
ولكن هل البداية تاريخها, مكانها, شخوصها, أو أبطالها مهمة في قراءة شاعرة تقدم قصائدها المختارة في مجموعتين شعريتين( وردة تنشب شوكها”) (بحر لا يغادر زرقته) ونحن نعرفها شاعرة قبل هذين التؤمين بزمن طويل؟ ونحن نعرفها طفلة قلبها كون عشق.
“أنا طفلة سرقتني الكلمة أغرتني بالجمال
يضيء
الفراشات تطوف
الزهر احمر من يفلت سحرك أيتها الكلمة أطلقي سراحي” “
*****
وأنا صديقة حواء القمودي لا ادعي نقدا و لا هم يحزنون ولكن اكتب حبا في شاعرة أحبها و أحب شاعريتها و أتلذذ بقضم قصائدها.
مريم سلامة
ونحن نعرف أن الوقت في الشعر ليس رقما, بل روح تخزن التفاصيل بأضوائها, و ألوانها, بأسرارها, و أخبارها وتتركها لذاكرة من بعض أدواتها يقظة الحواس, و مخيلة من بعض أدواتها الرسم بإتقان.” دعني ارقص و أدور ارسم مدينة شبق و اقبض بيدي عاصفة تنفض السرير”.
“يريدني أن اكتب شعرا حين تلمسه يد تحترق بلهب المعنى … أن الطم دفاتر الأيام بخيط ملون”.
وكان لها ما أرادت.
وهكذا كان. لا تواريخ تؤرخ القصائد, و هنا نستثني قصيدة عنوانها المكان و الزمان( طرابلس 94), بل شاعرة تنبش ذاكرتها بمنقار السنونوة, بفرح العودة إلى قرمبيولها الكحلي و جرد أبيها الصوفي, وتصعد بنا في لحظات النضج والمواجهة المنفردة مع الغرفة المظلمة و الباردة “حيت اكتشف الجسد مداه” وتهبط بنا على شواهد قبور الراحلين, وميادين غابت عنها البهجة وقد احتلها الموت وشهوة الدم, وتعاود الطيران والهمس جهرا والجهر عشقا. ونحن معها نتلذذ بكل قضمة من رغيف المعرفة التي نبتت شجرتها في سوق الجمعة بكل ارثها و حاضرها.
“الحبر يسيل من زوايا فمي. ليس هناك سعادة تضاهي سعادتي. أنا اقضم الشعر”
م ستراند
*****
في يدها حواء مرآة..ترى الأشياء بصفاء روحها و روحها عيون ماء و جسدها خيوط كتابة تغزل حكاية البنت, التي جعلتها أولى محطاتي في رحلة عبور إلى شاعريتها المتاحة للقراءة الشاعرة و ليس الناقدة.”أتدرين أيتها المرآة في هذا اليوم الأول من أكتوبر اشتهي أن انزع كل أقنعتي”
حتى نشرب من النبع الذي شربت منه, تكتب حوا عن طفولة كل شي فيها محسوس وملموس .. يدها مفتاح ذاكرتها تمدها إلى خبز ساخن وتفتح بها جرة الزيت وخابية السمن وتمحو بها وجوه فرغت من محتواها وتفتت بها أشياء ” اكنس ما علق من دخانهم في مطبخي” تربت على العراجين تمتطي واقعا بعيدا و تستحضره بثقة الشعر في البوح في الكتابة برمل السانية الذي شرب كثيرا من دلالها و صار غابة زيتون ولوز وحناء ونخل وياسمينة ومسك ورمان وخوخ و ذاكرة حاضرة .. في اتساع جرد القمودي ببياضه وحنانه ومخيلة ساردة في زرقة المتوسط و هو يلف خاصرة سوق الجمعة بذراعيه العاشقين.. حاضرة في غموض يلف الأبواب الموصدة و فضول يتوعد الكلمات بمزيد من الجمر وهتك الحكايات بطفلة “كانت عيناها الدهشة شعرها القمح ضحكتها الصهيل
تكتب قصيدة تشرب ماء الروح”
*****
في انشغال متيم باستدعاء الذاكرة و أيضا استحضار المخيلة, تنكب الذات الشاعرة في ثنائية راصدة تارة (أنا) و تارة (هي) تدعوها بأسماء كثيرة فهي الوردة الناشبة شوكها ..والمأدبة العامرة .. وسنبلة مثقلة.. و البنت الفضة.. و بصقة.. و دودة.. والمحاربة الشرسة.. في رحلة طويلة ” الرحلة كانت طويلة شاقة كأنها دعوة نبي” تعود إلى زمن قصي تلتقي فيها بالبنت في طفولتها في مكانها مع صويحباتها, مع حقيبتها, مع كتبها, مع أحلامها, مع قمرها العالي, تفتش بحواس مدركة لفداحة الكلمات زوايا خفية وتقول لقارئيها ها هي كما هي كما أنا .. بحذافيرها من ساعة ملامستها رمل ألسانية إلى وقفتها وهي “عند عتبة السادسة و الخمسين”
” كنت مشغولة بنزع الأظافر التي ترسم شوارع وجع”
شغلي الشاغل هو المحيط
الشاعرة اميلي دكنسون
ومن سيرة البنت إلى سيرة المدينة طرابلس كما تحبها وتتمناها و طرابلس كما تعيشها وتراها. وفي هذه الرحلة لا تقسم الزمن و المكان, كما افعل أنا ألان, بل تترك المهمة لقلبها وما فيه من حب وجسدها و ما فيه من حس. ” كل الأصوات خافتة فقط صوت جسدي”. تكتب حواء بحرارة جسدها بعنفوان حواسها بفداحة عشقها للحرية و الطبيعة. تضوع بشوقها “يا لشوقها البنت جسدها لغة لا تخون” برحابة كونها الشعري برشاقة العشاق الذاهبين إلى حبيباتهم ..”حين يدها تطير اليك .. حين نهداها يتضرعان .. حين فمها .. حين شفتاها ..حين روحها حين هي تعد مآثرك…” تارة تحبو وتمشي وتارة تطير و تتسلق ذاكرة شاهقة لا يكفي ما تبقى من العمر لكب محتوياتها, و كأنها (علاقة), على حصيرة الحاضر حتى ننعم برحلة مدهشة في زمن يتراوح بين الأمس واليوم و الغد” سابحة في ازرق البحر السماوات قريبة الأرض عاشقة”
“لا تعجبني الأوقات الأسماء الألوان إذا اسمي البحر شمسا و الشمس قرنفلة و اسرد حكاية بنت تحلم تبحث عن سر الأسماء”
“الفسحات تضيق كلما الجسد بزغ”
*****
الشعر هو أول و أخر المعارف كلها وهو خالد مثلما قلب الإنسان خالد.
الشاعر وليام ورذورث
تتعفر طويلا في رمل السانية و تخرج حواء إلى مدينة في سعة البحر تريد الحقيقة تنشد الجمال.. “في حمام درغوت تندى جسدي
نهر يسيل الآم عذاب قهر تحررت روحي نبتت أجنحة
فقط أريد أن اغتسل في حقيقيتي
وأنت ترقب البنت تلك المرتجفة الخائفة صارت قربك
البنت تتلمس يديها و ترقبك”
تريد البقاء تنشد الحياة تطرح أسئلة كثيرة وتصبر على أجوبة حاضرة و لكنها ليست في مستهل الكتابة و أجوبة عصية ذهبت مع الذين ذهبوا. ولكن يبقى السؤال هو الغاية هو الجوهرة مفتاح الكنز. من ينتظرني عند احمد باشا؟ هل الوحشة هي غيابك؟ ماذا اسمي هذه الوحشة؟ “ماذا يتبقي من البحر عندما تغادره زرقته؟”أين الذي معناه أني هنا ” هنا حيت أنا سجينة وهم كبير هل اسمه الوطن؟أم اسمه الحب؟؟”
تسال الأزرق لماذا أكون وحدي و الكائنات لي”
“المدينة فارغة و جسدي عاطل دون يدك”
تمشي دربا محفوفا بالأسئلة.. مرتدية فرمبيولها الأكحل و على ظهرها حقيبة تنوء بجوع حميم إلى الحرية
*****
بكل هذا الشعر تقف في مواجهة العالم. “ارقب هذا العالم الخرب ينهار الدم يغطي البياض و الصلوات لم تعد تعرف أين تذهب “. تحصي على أصابعها خيبات عديدة.. وطن سرقوا منه أحلامه. تبكي طفولة لم تعش أوقاتها و لم ترفع بالوناتها. شتاء يودع طرابلس بالمطر في أرجوحة الحالم والندم حيث تغدو الحرية غولا تفتك بالأسئلة البريئة في حقيبتها المدرسية.
لم يعد في مكنتي يا طرابلس أن افتح قلبي للشمس
كل الأشياء نايلون بارد ملتو وتخشخش
تفر من واقع ميت إلى ذاكرة حية.
ربما حان وقت المحبة. اللغة تهبها الضوء الذي تكتب به طرابلس “حلم الكلمات تقودني إلى النشيد أين هي طرابلس شوارعها غزالتها تتنعم بحمامها المسائي”
*****
على الشاعر واجب تجاه الكلمات فللكلمات القدرة على فعل أشياء رائعة. ج بروكس
الشعر حواء لا يفصلها عنه قبيلة ولا أسماء مستعارة بقدر وهجه جرأتها و بقدر حقيقته نصاعتها وبقدر عطائه محبتها وبقدر رسالته بوحها السادر وبقدر فعله قولها “أقول سلاما لبلاد أهبها روحي فتهبني ركنا قصيا” “لماذا هذا لاحمر يتكاثر يملا الزوايا و الحواشي”و أقول سلاما لفبراير إذ تقود جحافل ثوار ومشاعل الأولاد لا تضيء و طرابلس تبكي بنغازي و بنغازي تبكي موتاها و تبحث عن مفقود لا اسم له من أين يا مصراتة نجد وطنا من أين يا تاورغاء نجد أرضا و البلاد التي أردناها سماء لبالونات الفرح ترشنا بالدم”.” الحرية لا باب لها الباب في قلبي.
قلبي الذي صار ملوثا و الدم لا لون له”
“أخربش خطا مستقيما و اكتشف للظلمة نورا”
تتجلى روحي أتلو صلاة عبقا يجيء الياسمين الهج بثنائك ليبيا زين على زين”
“تضئ شوارع كسيحة
قالت الوقت يحين
الشوارع تعبر إلى الشمس فهاتي يدك لنعبر معا”
المنشور السابق
المنشور التالي
مريم سلامة
مريم أحمد سلامة.
مواليد طرابلس/ 1965.
إجازة اللغة الانكليزية / جامعة طرابلس/ كلية التربية 1987. ماجستير في الأدب الانكليزي من جامعة طرابلس/ 2015. شهادة اختبار كفاءة التدريسTKT / من جامعة كمبردج/ 2016.
لديها الكثير من المساهمات في مجال الترجمة والسياحة. كما شاركت في عديد المناشط والملتقيات الثقافية والأدبية.
إصدارات:
أحلام طفلة سجينة – شعر – دار الفرجاني 1992.
لا شيء سوى الحلم – مقالات – دار الفرجاني 1993.
الطريق إلى المدينة البيضاء – دليل سياحي – على نفقتي الخاصة 1995 مطابع الثورة العربية، نص إنجليزي. والطبعة الثانية مزيدة ومنقحة عن دار الكلمة 2005.
معجم الحمامة – نصوص – المؤتمر 2003.
الورد المنسي – نثر – مجلس الثقافة العام 2008.
من الباب إلى الباب - قصة قصيرة صدرت باللغة الانجليزية في كتاب "ترجمة ليبيا" للمؤلف إيتن تشورن – منشورات دار الساقي 2008.
الحديقة المقفلة - نص في اللابيع الليبي, منشورات الهيئة العامة للصحافة,2013.
ست وردات وناي- شعر, وزارة الثقافة,2013.
للغصن هذا الكلام – شعر, وزارة الثقافة,2013.
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك