سالم البرغوتي
تعودنا في روايات عائشة الاصفر أنها تدخلك في البدايات لنفق مظلم ومجهول وترميز متقن حتى إذا دخلت في عمق الرواية اتضحت لك مساربها واتجاهاتها وعمق دلالاتها ومواطن قوتها وغاياتها.
ليس من السهل أن تدور أحداث الرواية في حافلة نقل ركاب من طرابلس إلى سبها وبين إيشي وحبيب بطلا الرواية لتضع عائشة نهاية مشاهد الرواية قبل نقطة الوصول إلى سبها بعد بوابة برطمة بقليل وكأنها تقول إن القصص لا تبدأ كاملة ولا نتنبأ بنهاياتها.
في اعتقدي المتواضع وأنا في الحقيقة قارئ ولست ناقدا كشفت لي الرواية عن شجاعة الطرح في العلاقة غير الطبيعية بين حبيب وتوكه التي تناولتها عائشة الاصفر بغير إسفاف وهو ما يعبر عن احترام الكاتبة للقارئ وليس كما حدث في رواية (خبز على طاولة الخال ميلاد) بالرغم من أن الحدث كان أكبر وأعمق.
الرواية جمعت التاريخ والصحراء والعلاقات الاجتماعية والقبيلة والاسرة المتناقضة احيانا والمتجانسة في احيان أخرى والتي تكشفها خادمة بيوت أثيوبية.
يخيل إلىّ أن عائشة كانت حائرة في عنوان الرواية بين إيشي ورحيل المدن ليكشف ذلك أحد شخوص الرواية قبل خط النهاية بقليل.
وضعت بعض الخطوط حول عبارات غاية في الدقة وتقنيات اللغة جلبتها الكاتبة من عمق التاريخ وكأنها تريد قول شيئا تركت لنا تفسيره وتحليله حتى لا تقع في دائرة الاتهام.
(ما جدوى أن أبيض وهم يضعون أولادي في المقلاة)
وكأنها تؤشر إلى فناء الشباب في الحروب العبثية.
(هذه الصحراء يا صديقي تتباهى بامتداد أذرعها وتنسى أن القوة للماء وهي ربع قسوم كقضية الضرة في ميراثها الشرعي) وكأنها تؤكد أن الحضارة والثروات للشمال حيث البحر وما يلحق الجنوب إلا ما يلحق الضرة من الميراث الشرعي.
(عندما تنوي المدن الرحيل تنبش مقابر أوليائها. تأكل لحم ذرعانها. تبيع أولادها. تبتر أثداءها وتسلخ جلدها وتدمر كل شيء تسحقه وتعلن جنونها وترحل وهي في مكانها)
نعم وهذا ما يحدث الآن.
(إذا أقمت فاختر الوطن المختلط. النجع القائم على العصبة قد يحميك من الغريب لكنك فيه غريب إذا ما تعلق الامر بأهله. وستكون الحلقة الأضعف والشاة القصية إذا ما تعلق الأمر بثأرهم من أهلك. لا تأمنن رجلا أستمرأ الجوع ولا تتحزم برجل حديث النعمة وثق أن التراب ينتصر لأصحابه الحقيقيين واعلم أنك إذا تواضعت للكريم رفعك وإن لنت للخسيس أهانك وتعلّم أن النفس المستقيمة تسافر بالعقل فلا تميل. تفرق بين القاتل والتاريخ وبين أصابع الريح وأمواس الحلاقين)
ذكّرتني هذه العبارة السخية المتقنة بخطبة قس بن ساعدة في عكاظ بتقنية حداثية رائعة مما يؤكد على قوة اللغة في كل روايات عائشة الأصفر.
أنصحكم بقراءة الرواية.