لازلتم تتعاملون مع الكتاب وكأنهم يكتبون بأسلوب واحد، رغم درايتكم التامة بتعدد أساليب السرد لكل منهم، والسبب هو أن المدرسة الطاغية على آرائكم هي مدرسة واحدة، وتدعى بالمدرسة البنائية، إذ ترى هذه المدرسة أن كل شيء يهتم بالبناء ويلغي الواقع والشخصية ويهتم بالعلاقات الرمزية داخل بنية الرواية أو القصة، وترى أيضا على أنها تمثل شكل أو علامة وحسب، إلى درجة غريبة حتى كتابنا صار يكتبون على نهج مدرستكم خوفا منكم فإنكم لأشبه بأبراج مراقبة عسكرية تراقب تمرد السجان – الكتاب – وأما الذين يخالفونكم في طرق السرد فتعذبونه أشد التعذيب بنظرياتكم وتستبعدونه من التصنيف الأدبي، أو لنقل إنكم تضعونه في خانة غير الخانة التي يرى الكاتب فيها نفسه، كأن تخرجوا سجينا من سجن جماعي وترمونه في سجن انفرادي عقوبة له حتى يتوب عما كتب، ويطلب الصفح والالتزام بتعاليمكم مرغما لا رغبة؛ سبق وقلت أن أساليب السرد متعددة، فبالبناء النحوي عند الكتاب يكون إما مبني للمجهول أو مبني للمعلوم، وطرق السرد تكون إما متسلسلة أو إنشائية أو سرد متداخل أو سرد اعتراضي إلخ، وأما العلاقة في داخل بنية الرواية أو القصة تكون إما علاقة زمنية متعاقبة أو منطقية أو سببية مكانية زمنية؛ يا أيها السادة النقاد أنتم أخذتم نوعا واحدا فقط وتجاهلتم بقية الأنواع، لكن لسان الرواية حين يروي فإنه يتحرك وفقا لدمقرطة العالم الذي يبنيه، عالم يوزاي العالم الحقيقي الذي لا ديمقراطية رأي فيه، لا يماثله بالضرورة ولا ينفصل إنفصالا كليا عنه، فالمادة الخام هو الواقع مهما حاولتم فصل الكاتب عن الواقع فهو لا يستطيع أن يستلهم الشخصيات إلا من واقعه غصبا عنكم، بل يرى الكاتب نفسه إلها في عالمه الروائي أو القصصي، لأنه هو الذي يخلق الشخصيات ويخلق الأحداث، وهو من يقرر موتها أو مرضها، وهو من يصنع الخير والشر في داخل عالمه الخاص، بما يترتب على ما يراه هو، لا على ما يراه غيره؛ بصراحة إني أتفق اتفاقا تاما مع نظرة جورج لوكاتش للأدب رغم أن الكثير منكم لا يعتبرونه أديبا بالقدر الذي يعتبرونه سياسي مؤدلج، يرى لوكاتش أن الكاتب لا ينفصل أبدا عن بيئته أو مجتمعه، فهو يكتب وفقا للمؤثرات السياسية والثقافية سواء كان ذلك بوعي منه أو من دون وعي، لكنكم لا تتفقون معه، وقد أغرتكم اللغة الشكلية في تصويرها الفني، وأخذتم بها بعين الاعتبار، واستبعدتم المفاهيم الفلسفية منها وفصلتم علم الاجتماع وعلم النفس من حقلها تعصبا لنظرياتكم الأدبية (( الأدب لأجل الأدب الفن لأجل الفن )) ما أسخف هذه العبارة!
يمكنني القول أنكم أنتم أيضا لستم منفصلين عن الحقل الفلسفي فالنظريات التي تجعلون منها معيارا لتقييم الأعمال الفنية، هي مستخلصات من نظريات فلسفية لأرسطو إلى رولان بارت إلى ميشيل فوكو وشتراوس نهاية إلى هنري جيمس وهنري لويس وصولا إلى غريسمان ونورتروب فراي، وخلطتم ما بين النظريات القائمة على دراسة بنية الشعر وبين دراسة بنية القصة والرواية، وجعلتم من النظريات القائمة على دراسة النص الشعري معيارا أساسيا يقاس به البناء القصصي والروائي، وركزتم على الصوت والإيقاع والرمز والتشبيه والاستعارات الجمالية وهمشتم المضمون أو العمق الفلسفي للشخصيات والأحداث داخل الرواية والقصة غريب أمركم والله!، ثم بقيتم سائرين في هذا الدرب حتى صنعتم زنازين مظلمة مثل الحكام العسكريين الذين يقمعون أي مظاهرة للتمرد، وفصلتم الحقول الأدبية عن بعضها بعضا بما يلائم نظرياتكم ، القصة في جهة والرواية في جهة والشعر في جهة، ثم حين لا تجدون قدرة على نقد عمل روائي مثلا تستنجدون بالنظريات التي وضعتموها للشعر وتسقطونها على الرواية لتبرزوا عيوب الإيقاع والصوت وأنتم على علم أن الرواية لا تهتم بالإيقاع والصوت والقافية النثرية والبحر والوزن وغير ذلك مثل الشعر، فكيف تنتقدون إن كان منهجكم نفسه يخلط بين موسى والحاج موسى!
أخيرا يا نقادنا الأفاضل: إن النظريات الأدبية التي وضعها أسلافكم مهما حاولت أن تكون نظريات فلن تكون كذلك البتة، فهي ليست رياضيات ولا فيزياء حتى تحكموا على اللغة كإنتاج ذري مادي، إن طبيعة اللغة تتجاوز حدود الممكن، حدود المكان والزمان، إنها تسرع من عملية البناء وتشابك الأحداث بما يجعلها لا منطقية أحيانا وأحيانا منطقية، وهذا في ذاته مبني على طبيعة الكاتب وتشبعه بالأفكار وقدرة اتصاله مع القارئ بحسب مقدرته لا بحسب ما يملى عليه، فالاحتكاك بين الكاتب وقارئه هو احتكاك مباشر على غراركم أنتم الذين تصرون على البقاء في قاعات الجامعات وتعتبرون من هو خارج كنيسة الجامعة ليس بمقامكم يا بطريارك المعرفة الكهنوتية.