المقالة

الساسة ومنظومة الأخلاق

يمكن اعتبار التعتيم على التحرش أو العنف ضد النساء، ومحاولة تكميم أفواه الضحايا، سمة غالبة في مجتمعاتنا العربية، لعدة أسباب، لعل أهمها ذكورية المجتمع، واليأس من التوصل لحلول منصفة وعادلة، تحفظ كرامة المرأة وترد لها اعتبارها، هذا إن سلمت من عقاب الجاني كرد فعل على ما يراه تشهيرا به. المرأة دائما هي الأضعف والطرف الخاسر في مثل هكذا قضايا، تعتبرها مجتمعاتنا من المحرمات.

يُعرف التحرش بأنه: استخدام كلمات غير مرغوب فيها، أو أفعال وتلميحات ذات طابع جنسي تنتهك المشاعر أو تجعل، المُعَرض للتحرش، يشعر بالتهديد وعدم الأمان، أو الإهانة والإساءة أو أنه مجرد سلعة قد تنال الإعجاب أو اللفظ إذا قاومت واعترضت.
في اكتوبر من العام 2017انتشر الوسم #وأناأيضا (meToo #) حول العالم، كرد فعل من النساء لما يتعرضن له في هذا الموضوع، وكوسيلة لرفض الظلم والاستغلال الجنسي، كان الهدف أيضا تشجيع النساء، في كل مكان على الانتفاض والوقوف في وجه المتعدي. انتشر الوسم على نطاق واسع وحصد شعبية دولية كبيرة لدرجة أن تداول الوسم بلغ 4.7 مليون مرة بالإضافة إلى 12 مليون مشاركة.

تجاوب عشرات الآلاف مع الموضوع، ويبدو أنه حرك مياه راكدة، طال عليها الزمن. تم الكشف على عشرات الآلاف من القصص المسكوت عنها خلال الساعات الأولى من الحملة، استعرض الضحايا تجارب مريرة مرت بهم، بما فيها تجارب مع رجال الكنيسة. شارك المعنيات مآسيهن مع الآخرين وكشفن عن أحداث طال عليها الزمن لأكثر من عقدين.
تعد قضية المخرج والمنتج الأمريكي، هارفي وأنيستين، الأبرز والأكثر جدلاً وانتشاراً، فالمخرج حائز على عدة جوائز من بينها الأوسكار عن فيلم شكسبير عاشقاً. قَدمت أكثر من ثمانين امرأة ادعاءات ضده، مما تسبب في إقالته من مجلس إدارة شركته وتعرضه للوقوف أمام المحاكم ومطالبته بتعويضات مالية ضخمة، وسجن قد يصل لمدى الحياة في حال تمت إدانته بالتحرش. 

تسبب هاشتاق #وأنا أيضا في إقالة عدد من الشخصيات النافذة على مستوى العالم، ولا تزال المحاكم والصحافة الدولية تكشف اللثام عن المزيد من الاعتداءات، وجدت المعنيات بها، أخيراً، الراحة في الكشف عنها وتحميل المتهم مسئوليته أمام القضاء والرأي العام.
تبدو جريمة التحرش، الرديفة بالمرأة والمكبلة لطموحها، منتشرة بكثرة في بعض المدن وتقل بدرجات متفاوتة في بعضها الآخر. فوفقا لاستطلاع رأي لأكبر 19 مدينة في العالم ، جاءت مدينة لندن الأكثر أمانا للنساء من حيث سلامتهن من العنف والاعتداءات الجنسية ومتابعة المتهم حتى محاكمته، ورد اعتبار الضحية بطريقة عادلة ومنصفة ووفق القانون. على النقيض، وللأسف، جاءت مدينة القاهرة كأكثر المدن التي تتعرض فيها النساء للتحرش على اختلاف درجاته. كما عرف من خلال كتب السيرة لساسة في مجتمعاتنا، تجارب مختلفة للابتزاز الجنسي تقوم بها المخابرات مع الضحايا ومن يهمها فضحهم وممارسة الضغط عليهم، وهو أسلوب يمارس في معظم الأجهزة القمعية، مما يجعل المرأة، غالبا ما تتوارى في الظل خوفا من الخوض في مثل هكذا قضايا، ويجعل التعامل مع مثل هذه الأجهزة يحتاج حكمة وحذرا شديدين.
خرجت للعلن في ليبيا، عدة مرات، أشرطة مسجلة بأصوات شخصيات ليبية نافذة في صناعة القرار، أشرطة مسجلة تدين أصحابها بالتحرش بشكل صريح ومباشر، وجريء ومبتذل. الحقيقة لم نسمع عن أي إجراء اتخذ للتحقيق في الأمر، وإن كان الحدث، يندى له الجبين، وهو كفيل بهروب المعني لخارج الكرة الأرضية، خجلا واستحياء، ناهيك عن الحق القانوني. لكن الشخصيات المتهمة لازالت تمارس مهامها وتخرج للرأي العام، تصرح وتدعو للقيم وإعلاء شأن الوطن، هذا غير ذلك من الانتهاكات الأخرى المتعددة، التي تمارس في العلن، والتي منها تهم الفساد واستغلال الوظيفة.

تابع الوسم الأكثر انتشارا على مستوى العالم #وأنا أيضا، الملايين حول العالم، وتسبب في جعل قضية التحرش واستغلال الوظيفة كقضية مشينة ومخجلة، فما إن تَثبت القضية على أحدهم، حتى يسارع في الاستقالة ويعتذر وهو يشعر بالخجل يتوارى عن الأنظار كونه غير جدير بالثقة. تبدو مجتمعاتنا التي ترفع في مجملها شعار القيم والفضيلة، عاجزة عن البث في هذه الحوادث المخجلة، وبات المتحرش والمختلس والمفسد والمرتشي يسير وينام ويمارس واجباته في المجتمع ويصر على ما يفعل مطمئنا، ليس من جانب القانون فقط، ولكن من جانب الرأي العام الذي اعتاد المخالفات المشينة دون إبداء اعتراض أو مطالبة بمحاسبة المجرم. اقتران هذه المماراسات في أي مجتمع يكون في الغالب مؤشرا على سوء الإدارة والمشاركة الجماعية في الغنيمة وهدر المال العام والسرقة والفساد. للرأي العام دوره في استهجان هكذا ممارسات ورفضها ومقاطعة ممارسها، وعلى المسئولين صيانة الممتلكات العامة، بما فيها سمعة الدولة واعتبارها، واتخاذ ما يلزم حيال المنتهكين، وللجهات القضائية دورها في التحقيق وفرض العقوبات.

مقالات ذات علاقة

«بالتي هي أحسن»

فاطمة غندور

من مكة إلى هنا

أحمد الفيتوري

النقد يحتاج ناقد والناقد يحتاج أدوات

المشرف العام

اترك تعليق