لا أدري إذا كان ما قد حلَّ بغيري بعد هذا اليوم الذي دخل تجربتي العمرية قبل ستة وأربيعين سنة مضت 23-4-1973 سَيُبيح لي حق العودة لما تذوقته يومئذ من طعم المرارة ومشاعر الأسى، أم أن ما سبقني إليه من شرفاء المثقفين الذين رفعوا عقيرتهم استنكاراً لما لاحَ من سياسات فشملهم من الإشتباه ما دفع الطغيان إلى المسارعة بإيداعهم غياهب السجون وسَومهم سوء العذاب مما لا تزال آثاره على أجساد من كان على قيد الحياة ربما قبل ثبوت التهمة، وكذا الذين لحقوني على ذات الطريق ممن مرَّت على سجنهم العقود وليس الشهور تفرض عليّ الخوض في حديث غير هذا الحديث، إن الإجابة ستختلف بين نظرة ترى الأحداث تُكمّل بعضها بعضاً والدروس المستفادة توجد في قليل الزمن مثلما توجد في طويله، وكيفما كان تقدير غيري فلن أسأم العودة إلى ما حدث في ذلك الضحى الذي اِنْفَرَدَ بي إنسان لا يخلو من الوسامة وعرّفني بإسمه الذي لم أستطع الإحتفاظ به في حينه وصِفته الوظيفية التي حددها في المباحث العامة، وقد كانت حتى ذلك التاريخ تعني حسب معرفتي للواقع في ما قبل العام 69 تعني متابعة المجرمين، لأن السياسة كانت من مشمولات أمن الدولة، وليس كما نصح الخبراء المصريون الذين استعان بهم العهد في البداية، لأفهم منه أي مُحدّثي رغبته في التوجه إلى البيت مع نصيحة بأن أذهب بسيارتي إن وُجِدَت، لأفعل ذلك وباتفاقٍ معه أمُرّ بروضة الأندلس لأحمل إبني طارق وهناء ورجاء، كريمتي السيد موسى أحمد رحمه الله الذي دخل السجن في الأشهر الأولى من عهد الفاتح وحتّمت الصُدَف أن أكون جاراً لأسرته التي خصص لها المرحوم امحمد المقريف أحد البيوت المُسترَدَّة من الطليان. ليكتفي يومئذ بكتابٍ ليس أكثر، إذ أتاح لي تأخّر الإعتقال لمدة أسبوع بعد بدئ الحملة أن أُبعِد كل ما لدي من كُتب يمكن أن تشكل المستمسك، تفاصيل تحدثت عنها في الكثير مما تمكنت من تدوينه، ولا سيما ما أودعته كتابي “المولد” الذي وسمته بالرواية ونشرته ضمن منشورات مجلس الثقافة العام، واختير ضمن النصوص التي خُصَّت بقراءة بعض النقاد العرب في إحدى دورات معرض القاهرة للكتاب، كما خَصّته الجمعية الليبية للآداب والفنون بندوة شارك فيها الدكاترة حسن الأشلم ومحمد المالكي والطاهر بن طاهر “جامعة مصراتة” وكانت مشاركتهم غاية في الإثراء والإضافة كما أجمع أكثر من متابع، وكما لم نتردد في تثمينه عالياً وفي أكثر من مقام، وقد يتعين أن أوضح من جديد أن تجنيس النص بالرواية لم يأت من باب الرغبة في الإنتساب لقائمة المُتعاطين مع هذا النوع من الأدب وما أتاحه لمن سلكوا دربه من المزايا، ولا من باب الإستخفاف بشروطه، إذ كان الدافع الأول بالنسبة لي نابعاً من الحرص على تدوين التجربة ومن أيسر الطرق التي تُسَهِّل على الرقابة تمريرها من ناحية، وعدم الإلتزام بنقل كل ما جرى من الأحداث ووُجِدَ من الأسماء من ناحيةٍ أخرى، وهو ما أشارت إليه الكاتبة أنيسة التايب، حين أُوكِلَت إليها مهمة القراءة. وقد كان التاريخ الفعلي للتجربة بالنسبة لي قد بدأ في ذلك اليوم، أي بعد ما يقرب من أسبوع إذ بدأت حملة الإعتقالات يوم السابع عشر من أبريل أي بعد خطاب المولد الذي اختيرت له زوارة، وكانت أيام الإنتظار لا تقل في أثرها على النفس أكثر من الذين طالهم التطبيق من البداية، ممن كانت متاعبهم أشد، لإنعدام الإستعدادات المتعلقة بالإيواء، فاستُعِين بالسجن العسكري فعومل المعتقلون من طرف الإنضباط العسكري معاملة المُذَنَّبين الذين يباشر معهم “بالفلَقَة” ودامت ثلاثة أيام، كان آخرها يوم الأحد، فطُبِقَت على الأستاذ على بو زقيَّة الذي كنيته في كل ما كتبت عنه بِإسم “أبو حسام” فقال السجَّان للحرس “عطيه غداه وحسّنه قرعة وخلّصه ثلاثة أيام فلَقَة”، فما كان من العسكري إلا أن فعل ذلك كله، وإذ كان من بين الذين شملهم الإعتقال السيد عبد الرزاق ابو حجر الذي تربط بينه وبين آل الغزالي صلة الخؤولة وقد تزامنت الإعتقالات مع موت أبيه فتمكن شقيقه محمود بأخذ الإذن له كي يحضر الجنازة، فكان أن وصلت المعلومة في وقتها وعلِمَ بها المرحوم منصور الكيخيا فأبلغ به جُلّاسه لتأتي لنا لاحقاً مع المرحوم عامر الدغيّس في سجنه الكيدي وقد دعوته في المولد بالطاهر أي اسم والده من قبيل الرمز وكذلك كان دأبي مع الأعزاء الأكارم علي المعلول، محمد الهادي كريدان، سعود المنصوري، محمد عبد الله الغالي ويوسف عبد الله حمَّاد الذين ضمني معهم عنبر واحد في القسم الأول بالسجن المركزي عندما جاء بنا المرحوم عبد الله بوديب من الإدارة العامة للمباحث، ليستلمنا آمر السجن المركزي الذي هو السيد فرج الوحيشي أو بوسليانة ومساعده المبروك القويري، فنُقيم معاً بعد سبعة أبواب أُقفِلَت عقب مرور على المكتب الذي عَلَتهُ لافتة كُتِبَ عليها الآمر بداخله أكثر من منضدة، فوق إحداها كُتِبَ في لافتة صغيرة اسم الملازم المبروك القويري، خَمّنتُ أنه شقيق اوقريب الحاج مسعود الذي طالما مرَّ مُتَفقّداً عبد الله أو داعياً إياه على وجبة من وجبات السمك التي اشتهر بها عند أقاربه، مما دفعني إلى التوتر، حين لم يكتف بحجز المصحف ومعجون الأسنان، وسألني بلهجة غير مريحة وهو يقول “أنت مستعد..!”، لنستوي في العنبر بعد فترة وجيزة من خروجنا مجتمعين من المباحث العامة الشيخ علي المعلول، الأستاذ سعود المنصوري، الأستاذ محمود بريون، الشيخ محمد الهادي كريدان والمهندس يوسف عبد الله حمّاد وكان الوقت غداء فقُدمت الوجبة ولم نكد نبدأ حتى دخل علينا ذلك الشاب النحيف مُقدم اسمه محمد عبد الله الغالي، ولم يتردد في القول “اُظهروا لهم الجَلادة”..! وكان يوماً طويلاً قُطِعَ في الساعة العاشرة ليلاً عندما أُخرِجنا إلى الساحة لملء البيانات الشخصية لمن لم يملأ في المباحث، وكان أهم الأسئلة متعلقاً بالسكن ومكان العمل، فسّرناها سريعاً للإطمئنان على الأُسَر، لنبقى أياماً لم يقطعها سوى دخول الرائد الخويلدي الحميدي مرفوقاً بالضابط عبد الله بوديب وآخرين، حفظت له مخاطبتي بإسمي وسؤالي بين الجِد والهزل، فأجبته بما دَوَّنته في تجربتي المكتوبة باعتباره وزير للداخلية، حرصاً على سوء الفهم، خاصةً وأنه لم يبخل بمخاطبة كُتَّاب تونس عندما رافقتهم لمقابلته بشهادة طيبة لخّصَها في أننا كُتَّاب لنا مواقف، سُجِنُوا في العهد المُباد “كما هي التسمية” وسجناهم إحنا.. كانوا يقولوا علينا عسكريين واحنا نقولوا حزبيين، وضرب عليّ بوِد وبلهجتنا الشعبية “توَّة خلاص تسامحنا”. توالت بعد ذلك الساعات الطويلة، الأيام، والشهور في تلك التجربة والسنين بالنسبة لغيرها وغيرنا حفلت بالكثير، وما من مرة حلَّ فيها شهرنا هذا أو يومنا هذا إلا وأطلَّت وجوه الذين طالما امتلأت بهم ساحات ذلك السجن قبل أن يسقط النظام في بِرَك الحقد ومهاوي الإنتقام بدل ما بدرَ به من اللين أو لنقل الحياء وعدم المفاخرة بالإنتقام عندما كانوا يُنَفّذون ما يُكَلَّفُونَ به خجلين، فترانا تذكر أخلاقيات عبد الله بوديب وابراهيم الموشم والبرَّاني ناجي، “بِنِسَب بالطبع” كما نستدعي وجوه من سبق ذكرهم إلى جانب الشيخ فاتح والشيخ يوسف نصير ومحمد حفاف وعمر التركمان ،ومحمد وعبد الحكيم العارف البشتي، وعبد العزيز الغرابلي وعامر الدغيّس وكامل عراب وجمعة نصر وعبد الحكيم الدنَّاع والهادي الغَنّودي وأكرم بن خيَّال وعبد الرحمن الجنزوري ومحمد هويسة، ممن إن غابوا الآن فسيكون لهم حيّزهم الآخر لِذِكر الكثير مما حملت الذاكرة عنهم، نتوقف أمامها ليس حقداً أو مفاخرة، إذ كلما حلَّ الثالث والعشرين من أبريل، كان له بالنسبة لذاكرتي المتواضعة ما له مما يستحق من سرد، عسى أن يجد فيه المشتغلون بالسرد ما يحفزهم لمزيد العطاء حفاظاًعلى تاريخنا الذي سطروا فيه أنصع الصفحات. كان العهد في بداياته الأولى وتأثره بما يتناوله الناس في جلساتهم ملموساً والتواصل معه بخصوص من هم في وضعنا ليس صعبا، ومن هنا فعلى الرغم من الضجة الإعلامية التي رافقت التجربة ولم يمض على إغلاق الأبواب سوى أشهر ثلاثة، حتى فُتِحَت للزيارة، وأُخطِرنا أن ثمة من سيزورنا من الهيئات الدولية، والمرغوب عدم الحديث بأي شيء يستفز السلطة، وقد كان السرور كبيراً بما قام به الأصدقاء تجاه الأسرة من حيث التفقّد والزيارات الأسرية، ومثل ذلك موقف الأقارب، وكم كان سروري شخصياً بما أحاطني المرحوم الزوي مبكراً أن ما كان تذيعه إذاعة المغرب عن أسمائنا لم يكن إلا نتاج ما يقوم به صديقنا الصغير في تلك الأيام الصدّيق كشلاف، الذي اتخذ من رحلاته شبه الأسبوعية إلى جربه فرصة لمراسلة إذاعة المغرب، وإحاطتهم بأسمائنا كسجناء سياسيين، الأمر الذي أزعج السلطة وفرض نوعاً من القلق وربما الخشية، فبضل تلك المحاولة المبكرة تَبَيَّنَ أننا لسنا وحدنا وأن كل تجذير للعلاقة مع غير الأقارب ومع غير أصدقاء الرأي كثيراً ما تكون أجدى مما عداها وأقدر على ردع الظلمة، فرأيتنا في عداد الذين لم يكونوا قد سارعوا نحو مكاتب التعويض، ولم يحملوا بطاقة سجناء الرأي، فقد ثبت سريعاً أن الخروقات متأصلة في النفوس، وأن الكثير من طالتهم تلك المحن لا يقلُّون عمن أساء إليهم من الإجحاف بمن عرفوا ولو بتجاهله وحرمانه من أن يحمد ما لم يفعلوا، فلا يكون من عوض سوى قول ذلك الشاعر العظيم في ميميته الشهيرة… أَغْشى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْد المَغْنَـمِ. ويغشى ويعِفُّ لمن قرأها بضمير الغائب، وفي كلٍ خير، وشرفٍ وبركة.
المنشور السابق
المنشور التالي
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك