أدركت المنية التي لا مهرب منها لكل ابن أنثى، مهما طالت سلامته و طال عمره، الكاتب الكبير أحمد إبراهيم الفقيه، الأديب الذي كان له دوماً من خصوصية قلمه، و تميّز عطائه ما يغنيه عن كل صفة لا تشكل أي إضافة لحقيقة وجوده الأصيل، حدث هذا الخطب الجلل بقاهرة المعز فجر الأول من مايو الجاري، و أمكن حمل جثمانه من هناك جواً مساء اليوم الثاني بحيث لم تغرب شمس هذا اليوم حتى ووريَّ جسده الطاهر تراب مقبرة سيدي منيذر بالعاصمة طرابلس، في موكب خرج من جامع ميزران تقدمه حشد من عارفيه الذين تيسّرَ الإتصال بهم.
لقد لفظ الراحل أنفاسه الأخيرة بالقاهرة أحب المدن إليه و أكثرها حضوة بإقامته ليعاد إلى هذه الربوع التي شهدت الأسس الأولى لنموِّه و مقومات شخصيته، منذ مجيئه لطرابلس على هيئة طالب في المرحلة ما بعد الإبتدائية في المعهد الفني الكِتابي، حيث الدراسة و الإقامة للقادمين من خارج المدينة أمثاله، إذ لا يُقبل سوى أصحاب المجاميع و من لا تعوزهم الأهلية الإجتماعية، و قد تجسدت يومئذ على الصعيد العملي في حصوله على فرصة عمل مؤقت بمسعى من خاله المرحوم بلقاسم التير، عضو المجلس التشريعي و أحد المشهورين بحسن العلاقة مع الكتل المتصارعة في ذلك المجلس، و في هذا الحي المزدحم بأكثر من مؤسسة، أشهرها فرقة الأمل للتمثيل والتي تأسست بأكثر من خلفية فكرية.
خطا أحمد الفقيه خطواته الثقافية الأولى ليواصل رحلته القائمة على معالجة النص المكتوب وقارئ جميع مواطن الإصطدام الناتجة عن الخوض في ما يتجاوز السهل الممتنع، حتى أنه لم يكمل سنوات الدراسة التي لم تزد يومئذ على السنوات الثلاث، و دخول الحياة العملية من باب الوظيفة التي أذكر أنها كانت في العمل والشئون الإجتماعية بالولاية، مع الإقتراب من عالم الصحافة، حتى جاءت الفرصة متمثلة في دورة تدريبية ضمن برامج الأمم المتحدة بالقاهرة ليكون ضمن الذين تواصلوا مع ذلك الوسط في وقتٍ مبكر و من جُبّة الكاتب يوسف إدريس الذي هيأت له مكانته وتكتيكات الناصرية على الأرجح أن يبقى بمنجاة من حملات الإعتقال المتلاحقة لمشاهير كُتَّاب مصر و مثقفيها وفنانيها، فلم يتردد في رعاية الكاتب الليبي الذي لم يضيع وقته و لم يعجز عن تطوير أدواته خاصةً و أن مجموعة الصحف الخاصة التي توالى صدورها في الستينيات لأكثر من مؤثر قد أوجدت من الفرص ما اختلف عن الماضي، فكانت مقابلات الفقيه الشهيرة لعديد المرموقين من الكتَّاب العرب الذين تسنى له التقاؤهم أثناء حلوله بمصر متدرباً في مركز سرس الليان و منخرطاً في الصحافة الليبية، عندما قرأنا له المقابلات المطولة مع أمثال صلاح عبد الصبور و أحمد عبد المعطي حجازي و سهيل إدريس و يوسف إدريس و غيرهم الذين اختار لهم صحيفة الميدان و هي تصدر في العام 64، وآخرين مشهورين في مجال الإقتصاد اختار لهم شارع النجاح، اتسعت لها مرونة المرحوم فاضل المسعودي صاحب الجريدة، ابتغى من ورائها على ما يبدو تحييد أولئك المشمولين بالنشر، إذ كانت الصحيفة المذكورة في حاجة إلى قاعدة شعبية تخفف من الحساسية التي كثيراً ما لحقت صاحبها و هو يشغل إدارة تحرير صحيفة الليبي و صاحبها الأستاذ علي الذيب المعروف هو الآخر باصطدامه بعديد القوى، فكانت المقابلات المشار إليها عربون تحييد بارع، و الحق أنه المسلك المُحبب لأحمد الفقيه عبّرَ عنه التألق السريع لإسمه، حتى لقد رأينا الأستاذ كامل المقهور الذي لم يخف تحفظه حول قصة الفقيه “الطاحونة” عندما تناول -أي المقهور- عدداً من أعداد مجلة ليبيا الحديثة و يورد من المقارنات ما بين “الطاحونة و المكنه” من التشابه الذي قد يتجاوز التأثر ليرد الفقيه من جهته و يستمر في عطائه فيفوز بأول مسابقة للقصة القصيرة رسمياً بالترتيب الأول و تزكية كامل المقهور رئيس اللجنة، فإذا ما لاحَ ما يزاوج بين الإبعاد و الإيفاد في أعلام ما بعد العام 67 و ضمن جملة من المُنح الدراسية البريطانية يختار الفقيه هذا النوع من الدورات و العمل على تمديدها الفترة تلو الفترة، دون المضي في العمل بحقل الثقافة و الصحافة، كتابةً و إدارة، ولا سيما في السبعينيات و الثمانينيات لتترسّخ قدمه السنة تلو السنة، و يحظى بالإعتراف الحقبة تلو الحقبة، ليكون جديراً بكل ما بلغ من تكريم بالجوائز و الأوسمة، و مسئوليات بالداخل و الخارج و علاقات غاية في الهدوء و الجدوى و ابتعاد مستمر عن الإيذاء، و معرفة غير عادية لكل الأعلام الذين عرفتهم المرحلة، و على الأخص أولئك الذين طالما ضاقوا ذرعاً بكل من استهوته الجوقة الإعلامية المبالغ فيها أو حاول الإبتعاد عنها و بأقل درجات الخسارة، و المهم أن الفقيه من حيث هو كاتب لم يستهن يوماً بوقته و لم يحرم مدونته من أي نص قُدِّرَ لقلمه أن يكتبه، فكان له هذا الكم الضخم من النصوص القصصية و المسرحية و الملاحم الروائية التي احتل فيها المكان المرموق بامتياز.
إلى جانب أوراق العمل التي طالما قدمها لعديد الندوات و المؤتمرات و التي كانت على مدى العقود الخمسة بل و أكثر، ممثلة لعمر حضوره القوي، تُمثل في مجملها ما سيضمن له البقاء في قلب البحث الأكاديمي لما يوفره عطاؤه من صنوف التناول الكفيلة بإثارة الكثير من دواعي الحوار و دوافع المناقشة ليس فقط من حيث الأجناس المحددة في القصة و الرواية و المسرحية إلى جانب المقالة، و إنما من حيث التناول التفصيلي القائم على الجزئيات الموضوعية و الشروط الفنية، و المواقف السياسية، أخذاً في الإعتبار أن كاتبنا كثيراً ما أكد أنه يكتب نصوصه لتوفير المتعة أو تحقيقها، أو كما تحدث للخلّص من أصدقائه حول ما تعلّم من يوسف إدريس، إنجاز النص الذي يقرأه اليمينيون فيقولون أنه لهم، و يقرأه اليساريون فلا يشيحون بوجوههم عنه، و هو ما جعل كاتبنا يتجنّب كل ما طالَ غيره من الضربات، و من هذا المنطلق نرى تجربة الفقيد تعتبر أكثر من غيرها، تحتاج إلى الكثير من الدراسة و الكثير من التمحيص لما تنطوي عليه من كثير الدروس المحتاجة للفاحص الجيد و الدارس المدقق الذي يميز الإيجابي فيدعو للإقتداء به، و يهتدي لما دون ذلك فينصح للإستفادة من قصوره و تفادي الوقوع فيه، ذلك أن ما أنجزه قلم الفقيه إبداعاً هو الأبقى، و ما سوى ذلك فالكمال لله وحده، و هو القادر على العفو و الرحمة و حسن القبول، و تسخير من يوسع هذه المقاربة.