علجية حسيني – تونس
ظهر أدب ما بعد الاستعمار « Postcolonial Literature » مع بداية تحرر بعض الدول التي كانت تخضع للاستعمار الفرنسي والبريطاني، خاصة، خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ركز محتوى الرواية الما بعد الاستعمارية على مواضيع أساسية وهي حياة الأفراد قبل وخلال وبعد الحقبة الاستعمارية لبلدانهم. اهتم الروائيون بالكتابة عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للشعوب خلال فترة الاستعمار وبعد تحصلها على الاستقلال. صورت الكثير من الروايات معاناة السكان الأصليين لإفريقيا وآسيا وغيرها من القارات أثناء الاستعمار. لاستغلال وافتكاك الثروات الطبيعية، حاولت بريطانيا وفرنسا طمس هويات وثقافات تلك الشعوب. ونقلت الروايات الخطاب الاستعماري «Colonial Discourse» الذي كان سائدا ومبررا للاستعمار والهيمنة على الشعوب. وهو أن المهمة الإنسانية والحضارية للدول الأوروبية هو نقل الحضارة المتقدمة والدين المسيحي لإفريقيا وإخراج هؤلاء الشعوب من حالة البربرية والتوحش التي كانوا يعيشونها. إذ ظهر الرجل الأبيض كائنا متحضرا ويتفوق على الرجل الأسود الذي يشبه الحيوان في طباعه ولا يحمل صفات الإنسان مثل المواطن الأوروبي. وقد أسس لهذا الخطاب العديد من الكتاب الغربيين الذين برروا الاستعمار من خلال كتاباتهم ومن بينهم المستشرق الفرنسي جوزيف ارنست رنان Joseph-Ernest Renan. يرى رنان أن العرق الأوروبي متفوق على بقية الأعراق لتحضره لذلك يصبح مد الحضارة واجب إنساني لإحياء السلالات الغير أروبية والمتدنية. يقول رنان :« إن إحياء الأعراق المتدنية أو المنحطة من الأعراق الأرقى منها هو جزء من النظام الإلهي للأشياء تجاه الإنسانية». فيصبح الساكن الأصلي للأرض محتاج للمهمة الإنسانية للأوروبي لقبول حضارته الجديدة وعليه ترك وطنه للغريب لإرساء الحضارة. وهي الخطوة الأولى التي تجعل من بعد الساكن الأصلي » «The indigenous ثانوي » « Subaltern للغريب الآتي من خلف البحار ومُبعٙد عن الوصول لثروة وطنه. يحصل هذا بإقصائه عن المشاركة في القرار في شؤون وطنه. وللسيطرة على وإخضاع « subjugation » السكان الأصليين لتلك البلدان. استعملت الدول الاستعمارية العنف الجسدي والمعنوي لإخضاعهم وجعلهم عبيدا في خدمتها. وعادة هذا العنف المسلط على الكائن الإفريقي ينتج منه شخص جديدا يتناقض مع قيمه ومبادئه. اهتم الأدب الإفريقي آلما بعد استعماري بدحض خطاب المُستعمِر المزدري لثقافة شعوب إفريقيا وذلك بالاحتفاء بالحضارة الإفريقية الوثنية وبي٘ن الكتاب تماسك تلك المجتمعات وانسجامها مع رؤيتهم للعالم قبل مجيء الرجل الأبيض الذي دمر أساسيات حياتهم وأرغمهم على لبس نوعية الحياة الأوروبية الغريبة والمضادة لثقافتهم. فالمستعمر أراد تدجين الساكن الأصلي ليقبل نمط حياته ويسهل محو هويته والسيطرة عليه كليا. لكن دائما ما يُواجٙه المستعمِر بالمقاومة. فدائما نجد شخوص الرواية الذين يرفضون القهر والاحتقار ويبحثون عن الحرية لأنفسهم وتحرير أوطانهم برفض وجود المستعمر الطاغي والغريب على أرضهم فيحاولون إخراجه من بلدانهم. وفي هذا السياق يمكن اعتبار رواية سماهاني للكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن نصا ينتمي للأدب الإفريقي آلما بعد استعماري. إذ احتوت الرواية على أهم خصائص الرواية الإفريقية آلما بعد استعمارية. ففي الرواية اهتم الكاتب بالدمار الاقتصادي والاجتماعي والنفسي الذي يلحقه الاستعمار بالشعوب. ولئن اهتمت الروايات الإفريقية بنتائج الاستعمار البريطاني، فان عبد العزيز بركة ساكن أثار الجانب الخفي والمسكوت عنه دائما للاستعمار العربي لإفريقيا. تدور أحداث الرواية في زنجبار أثناء نهاية الاحتلال العماني خلال القرن التاسع عشر وبداية دخولها تحت الاستعمار الانقليزي. وتناولت الرواية شانها شان الرواية آلما بعد استعمارية خطاب المستعمر والخطاب المضاد له. كما ركزت سماهاني على تصوير شخصية وسلوك المستعمر المُضطهِد oppressor » « The المتسمتان بالغرور والتعالي والازدراء. هذا بالإضافة إلى تسليط الضوء على العنف المسلط، بكل أشكاله المهينة والمذلة، على السكان الأصليين وما يؤثر هذا العنف الوحشي في الفرد الإفريقي. واحتوت الرواية على بروز تحركات رافضة للنظام المهيمن والبحث عن الحرية عبر المقاومة « Struggle » وتحرير الذات واسترجاع الأرض المسلوبة ودحر المستعمر خارج الأرض. كما صورت الرواية المواطن الإفريقي عند تحصله على الحرية وتخلصه من “السيد العربي”.
رسم عبد العزيز بركة ساكن إفريقيا، في روايته سماهاني، أنها كانت أرضا منتهكة ومسلوبة من جميع القوي الاستعمارية التي وطأت أرضها، “تم تصدير الأفيال، كعاج.. والقطط المتوحشة والزرافات والضباع الرقطاء والنعام، كجلود فاخرة..والطواويس كرياش..فلم يتبق من الفيل غير ذباباته الشهيرة، ومن القطط المتوحشة غير سيرتها في أحاجي الجدّات، ومن الزرافات غير صورها التي دُوّنت في الكهوف القديمة جنبا إلى جنب مع صورة الغول”. كل القوى الاستعمارية جاءت إلى إفريقيا لتستغل ثرواتها. فالعرب أتوا من عمان من أجل هدف استعماري ليقتلوا السكان الأصليين ويطردوا البرتغاليين ويستحوذوا على زنجبار، » إذا استطعتم أن تحاربوا العدوّ بشدة، وتسيطروا على الجنة التي أعدكم بنعيمها وحورياتها السوداوات، أو الجحيم الذي تحرقون فيه إذا تقاعستم. كان يقصد بالعدوّ السكّان الأصليين الذين صورتهم مخيلة الرحالة الأوائل وحوشًا أكلة للحوم البشر وسحرة ملعونين والبرتغاليين الذي يحتلون البرّ الإفريقي والجزر القريبة من الساحل، وكعادة البرتغاليين كانوا مشغولين بالبحث عن الذهب والفضة والماس «. للاستحواذ على خيراتها، عمد المستعمر العربي على إنتاج الخطاب الاستعماري الذي يخدم ويبرر فظاعة استغلاله إفريقيا. الخطاب يؤكد على أن الأفارقة، »سحرة متوحّشون، وبعضهم آكلو لحوم البشر «. كما اعتبروهم أغبياء، » كل الزنوج أغبياء وبهم بلادة.« ويرى المستعمر العربي أن له الحق الكامل في امتلاك زنجبارلأن السلطان يتحدث عن جدوده العرب هم من أسسوا زنجبار وتكبدوا العناء لإقامتها وليس الزنوج ولا غيرهم، »عملنا كل شيء بأنفسنا، ركب جدودنا البحر، وغامروا وضحّوا بحياتهم من أجلها. نحن من أتينا بأشجار القرنفل وزرعناها، واستصلحنا الأرض البور، وجلبنا الزنوج المتخلّفين من غاباتهم ليفلحوا الأرض «. كان الاستعمار الأوروبي يبرر الهيمنة على الشعوب عبر خطاب استعماري. لأنه كما ذهب إليه فرانتز فانون Frantz Fanon،الفيلسوف من جزر المارتينيك، في كتابه معذبو الارض The wretched of the Earth Theأن المستعمر يرى التاريخ السابق للشعوب المستعمرة متسم ب « البربرية والانحطاط والبهيمية». حسب رؤية ادوارد سعيد في كتابه استشراق Orientalism فان وسائل الإعلام وكتب التاريخ والأدب الغربية قامت بنشر وترسيخ هذا الخطاب التي صورت الشعوب الإفريقية والشرقية في حاجة إلى الحضارة. أصبح الغير أوروبي يلقب ب «الآخر /
Other The » في الثقافة الغربية. وأصبح تعريف الشرقي والإفريقي مبني على مقارنته بالمواطن الغربي. وهذه المقارنة مبنية على « متضادات ثنائية» «Binary Oppostions » : هم / نحن، متطور/ متخلف، أسود/ أبيض، عقلاني/ لا عقلاني، متحضر/ بدائي. سعت كتب الأدب والتاريخ لترسيخ الاعتقاد باختلاف الحضارة الشرقية عن الحضارة الغربية. هذا الاختلاف أسس لفكرة اللامساواة والتفاوت بين الشرق والغرب ليسهل الهيمنة والسيطرة الغربية الاستعمارية على الشعوب الغير غربية. ويسمح للقوى الاستعمارية بقمع وسحق الشعوب التي تحمل ثقافات تختلف عن ثقافة المستعمر. وهذا ما نجده في رواية سماهاني. يعتبر السلطان الاستعماري العربي أن أسر السكان الأصليين لإفريقيا وسلبهم حريتهم هو نوع من إنقاذهم من الحياة المتوحشة التي كانوا يعيشونها قبل أسرهم وجلبهم لزنجبار وللقصر، » أنت تعرف الضبع الأرقط جيّدًا، هو الذي صادك وابنك من الغابات والكهوف وأنقذك من حياة التوحش وأكل لحوم البشر والديدان والخنازير البرية إلى نور المدنية «. يحتقر السلطان في زنجبار نمط الحياة الذي كان عليها الساكن الأصلي للأرض ويعتبرها حياة وضيعة مقارنة بالحياة في قصر. ولم يهتم فقط بأن الأسير عنده كان حرا وسيد نفسه بل يطلب من صاحب الأرض أن يعترف له بالجميل، » أنت زنجي جاحد، كان عليك أن تشكره صباح مساء على نعمة حياتك في القصر، وعلى أنّك تُطعم ما يُطعم به سلطان عظيم مثلي، سلطان ابن سلطان ابن سلطان، من سلالة ملك الإنس والجان، سليمان بن داود علينا جميعا السلام «.
اهتمت بعض الروايات الإفريقية آلما بعد استعمارية بتصوير اضطهاد وقهر المستعمر البريطاني للسكان الأصليين ومحاولة نشر الدين المسيحي عن طريق التبشيريين. لأنهم يحتقرون رؤية المجتمعات الإفريقية للعالم ويرونها مبنية على الجهل لأنها وثنية لا تؤمن بالديانة السماوية المسيحية. فيتجه المستعمر الى محاولة هدم الثقافة الأصلية للشعوب الإفريقية. جسدت رواية الأشياء تداعى Things Fall Apartللكاتب النيجيري شنوا اكيبي Chinua Achebe تعمد الاستعمار البريطاني احتقار رؤية سكان قبيلة ايغبو Igbo للعالم وفكرتهم عن الله فقاموا ببناء الكنائس وبدأوا في نشر المسيحيةو هي ديانة سماوية تتنافى مع ديانة سكان اغبو.ماثلتها رواية سماهاني، إذ جاء العمانيون لزنجبار لاستغلال ثرواتها وسكانها واعتمدوا الحجة لتبرير الاستعمار وهو نشر الدين الإسلامي لإنقاذ السكان الوثنين من الجحيم في الآخرة. فقاموا بأسرهم ووإرغامهم على اعتناق الإسلام غير آبهين لما يعتقد ويؤمن به السكان الأصليون لزنجبار، « وأكرمك بدخول الإسلام، فالعبيد أيضًا يدخلون الجنة مثلهم مثلنا نحن السادة ». وبذلك يكون العمانيون أنقذوا الأفارقة وجنبوهم الجحيم. ويرون انه جميل على السكان أن يعترفوا به دائما رغم أنهم لن يستطيعوا في دواخلهم التخلي عن معتقداتهم واستيعاب الأفكار التي ينبني عليها الإسلام وأهمها وجود الاه في السماء وأنبياء يبلغون رسالته، « لم يستطع عقله استيعاب فكرة وجود رب غير الربّ الإفريقي الذي يعرفه، ولا أنبياء غير السحرة المعلمين المقيمين في بعض القرى بالدغل». لكن الخطاب الاستعماري الفوقي للمسلمين يصر على أهمية إدخال هؤلاء الزنوج للإسلام وإرغامهم علىالاعتراف به لأنه سيجنبهم العقاب، » نحن من نشرنا فيها الدين وعرّفناهم بالربّ «. يصبح استعمال الدين الإسلامي خطاب استعماري وأداة لتبرير الاستعمار والهيمنة، «مُطَيِّع الأسرى أو مُؤدِّبهم، وهو مخلوق عنيف ثرثار عليه إدخال الأسرى في الإسلام أوّلاً، ثمّ تلقينهم ما يحفظه هو من الدين الإسلامي، وهو عبارة عن قلّة من الأحاديث ومقولات ينسبها إلى الرّسول العربيّ تخدمه في السّيطرة الرّوحيّة على الأسرى،أو ما يُسمّيهم العبيد، بتخويفهم ممّا ينتظرهم يوم القيامة إذا لم يكونوا طائعين، أو إذا أَبقوا». يجعل من السلطان في المرتبة العليا لأنه من أصل عربي ومسلم أما الزنوج فاصلهم إفريقي وثني لا يمكن المساواة بين السلطان المسلم العربي ,الذي لا يتكلم ولا يقرأ العربية، مع السود حتى في الجنة. وهو ما يجعل السلطان المستعمر كائن مغرورا ومتعالي،» السُّلطان سُليمان بن سَليم الذي باركه الربّ مؤخَّرًا، الحاكم الأبدي والأوحد لجزيرة أنغوجا وييمبا وما بينهما وما جاورهما، وحسَبَ ادعائه الشخصي فإنّه يحكم كل ما في السماء ماعدا الرب. « يصبح الاستعمار كحقيقة أبدية ولانهائية وتخنق أهل زنجبار. ثبت الساحر عمر السلطان مما يجعله لن يتقدم للموت، “استطاع الساحرُ الملقّبُ بِهاروت أن يُثَبِّت عمر السلطان الذي باركه الربّ مؤخَّرًا، في 54 عامًا وشهرين وأسبوع واحد وثلاثة أيام وخمس ساعات فقط،”.
ونظرا لدونية ووضاعة الإفريقي عرقا ولونا ودينا، حسب رؤية الخطاب الاستعماري، فان القوة الاستعمارية المتفوقة بعرقها ودينها السماوي حاولت امتلاك إفريقيا وسكانها وتحقيق أحلامها الاقتصادية تحت غطاء نشر الإسلام، “أما السكان الأفارقة الأصليون فقد أصبحوا العُشب الذي أُوقد نارًا ليطهو عليه العمانيون طعامهم في الجنة الموعودة؛ أنغوجا ». واعتمد المستعمر على حجة أنهم أنقذوا الأفارقة من حياة التوحش الذين يعيشوها وعلموهم كرامة العمل في الأرض بدل الكسل. العرب المسلمون لم يستعمروا زنجبار ويستغلوا ثرواتها فقط بل أيضا أصبحوا يتاجرون في العبيد وإرسالهم لأوروبا. فهاجموا كل القرى التي تحيط بزنجبار للحصول على العبيد وهدموا القرى وقتلوا أهلها بحثا عن العبيد، «أصبحت القرية خرابة كبيرة، وبيوتًا فارغة خاوية على عروشها، صامتة وحزينة، الأصوات الوحيدة الصّادرة عنها هي أنّات المرضى والمحتضرين، ونداء العجائز المُعوّقين عن الحركة، ونعيق البوم،وصراخ النسور وهي تنتظر الأجساد الحية لتصير جُثثًا طازجة». فازدهرت تجارة العبيد التي كانوا يديرونها نخاسة عرب من زنجبار. حيث كانوا يصطادون السود من القبائل المجاورة لزنجبار وبيعهم للعالم المتقدم وذلك لأن الرجل الأسود الإفريقي عاجز عن التفكير وتأسيس حضارة في أرضه.فوجب بيع الكثير منهم عبر المُحيطات لتستفيد البشرية الأرقى منهم،« حين كانت الحاجة إلى العمالة المجانية في أوروبا وأمريكا مُلحّة، نحتاج إليهم من أجل آلة الصناعة والزراعة وبناء الطرق والموانئ العملاقة، ومن أجل البحوث الإنسانية داخل المختبرات في مجال الأدوية، كما نحتاج إليهم في الخدمة المنزلية، لكي نتفرغ نحن السادة الأشخاص الأقدر على التفكير والإبداع، للتمتع بالحياة التي نستحق، والتركيز على ما يُفيد مستقبل البشرية، طالما كان الزنوج لا يفعلون شيئا ذا بال في أدغالهم وغاباتهم الاستوائية في إفريقيا المعتبرة أرضًا بلا سكان( No man land)، ماذا يفعلون هناك غير الصيد والتقاط الثمار من الأشجار ومطاردة القرود والرقص والضجيج والنكاح والنوم والكسل وممارسة البلادة الحيوانية والسحر الأسود البغيض؟!»
من لم يباعوا كرقيق صاروا خدما وأسرى لدى العرب والغرباء. وهم دائما من يفلحون الأرض ويقومون بالأعمال اليدوية الشاقة،« جعجعة المطاحن اليدوية التي يديرها زنوج غلاظ مملوكون بأياديهم الجافة المتشققة الحزينة». كما أنهم يعملون في ظروف لا إنسانية ومهينة تخلو من أي درجة كرامة إنسانية، « “في ركن قصي على الأرض يجلس الخادم الذي يعمل في نفخ الكير، رجل كثّ الشعر، تميزه عضلات مفتولة بارزة، ويكشف نصفه الأعلى العاري عن صدر عريض خال من الشعر، أو لعلّ الرماد والأوساخ المتراكمة عليه لم تجعل رؤية شعر صدره ممكنة، يلف أجزاء جسده السفلى بقطعة جلد بنية متسخة، يعمل في صمت” ». يعيشون حياة البؤس ويتلقون أشنع معاملة لأتفه خطا من أسيادهم العرب وغير العرب « ولم ينس الهندي العجوز الغاضب في نهاية اليوم أن يضع خطين جديدين بمكواة الحديد المُحمرة، وتُستخدم أساسًا لتشكيل الفضة، على ظهر الزنجي الذي أصبح مثل شبكة صيد مهملة من آثار الكي ومشق السياط». الإفريقي تُفتك منه أرضه ويصير خادما عند سيد غريب ويُحرم من الوصول إلى ثروات أرضه والحصول على حياة كريمة في وطنه، « هل تعلمون من ينهضون بأعباء الحياة في أنغوجا، ويفعلون كلّ شيء، وهم جوعى ومربوطون بالجنازير، يأكلون بقايا ما يتركها أحفاد الّذين دفع بهم البحر إلى بلادنا، نحن الّذين نزرع، ونحن الّذين نحصد، ونصطاد الأسماك والغزلان، ونجلب العسل، ونصنع السّمن ونرعى الماشية، ونحن الّذين نأكل بقايا الموائد، ونحرم من تذوق السّمن والعسل! ».
تهتم رواية سماهاني بقسم أخر من السكان الأصليين الذين تعرضوا لأفظع ممارسة عنف في تاريخ الاستعمار وهو الخصي. الخصي، اقتلاع العضو الذكري للرجال، يسبب تشوها خلقيا ونفسيا. فهو أفظع طريقة لسحق هوية الرجل الإفريقي بإفقاده جزء من جسده يعجز عن استرجاعه يوما ما. اعتمد عبد العزيز بركة ساكن في سماهاني لتناول هذا الموضوع على شخصيتين أساسيتين وهما مطيع وسندس، الأب والابن تعرضا لعملية خصي شنيعة ومما يزيدها مأساوية فقد، «وتَمّ خصيهما في حفلة وحشية واحدة». وهدف المستعمِر جعل الكائن المستعٙمر يفقد هويته كليا. فلا يمكن أن يكون رجلا ولا امرأة،« وهذه ميزة الخصيّ، ليس برجل وليس بامرأة، إنه بقوة الرجل ولكنّه أشبه بالنساء في الوقت ذاته لافتقاره إلى ذلك العضو». هذا الانشطار في الهوية يفقد الرجل الإفريقي ثقته بنفسه وتنقص احترامه لذاته. وبخسران قوته يعترف بضعفه وعجزه ويقبل الخضوع،«قد تسأل يا بُنيّ نانو: لماذا عليك أن تصبح أسيرًا؟ لأنك الأضعف وهو الأقوى». المستعمر يعتمد على عملية الخصي لأنها تكسر الذات الإفريقية بسهولة وهو ما يسهل سلب حريتهم، «لم تكن قضيّة الأسر لتمرّ بسهولة في عقل الصغير سُندُس، ولم يستطع أن يستوعب مسألة سلبه حريّتَهُ بالتزامن مع سلبِه عُضوَهُ الذكري. لم يفهم العلاقة بين الاثنين».هو ما عرض سندس إلى صدمةأفقدته المقدرة على الكلام. ويترك الخصي آثار مرضية مهينة تلازم المخصيين،«في حين مكث الخدم المشكوك في طهارتهم في الخارج، فالمخصيّون تسيل إفرازاتهم على أجسادهم عندما يتبوّلون، كما أ نهم يتبوّلون أحيانًا لا إراديًّا». وهو ما أكده فرانتز فانون إن المستعمر يحرم الخاضع له من،« كل الصفات الإنسانية». المستعمريجرد المستعمر من إنسانيته ويتحقق ذلك بممارسة العنف الجسدي والعقلي عليه وزرع عقلية ذليلة في ذات ونفسية الساكن الأصلي. مطيع، النساء بعد أن كان سيدا وزعيما في قبيلته، أصبح أسيرا ومخصي ويرغم على تنظيف مؤخرة السلطان بعد قضاء حاجته. كما يحضر في غرفة السلطان ليساعده في ممارسة الجنس مع، «أحدَ أعيان قريته في الساحل الغربي من جزيرة أنغوجا، ولقد تم صيده هو وابنه نانو الذي أُطلق عليه فيما بعد لقب الأسير سُندُس».
وليسيطر الاستعمار العربي على زنجبار يقع إبعاد السكان الأصليين من مركز القرار السياسي في وطنهم. فلا يوجد إشارة في الرواية لإمكانية رجل أسود في إبداء رأيه في شان ما. فمجلس السلطان لا يحوي السكان الأصليين في الصفوف الأولى وإنما يبقون في الأطراف. ينقسم المجتمع في زنجبار تحت الاستعمار إلى عدة أقسام غير متساوية » يجلس السلطان على مقعد وثير،بينما يلتف حوله الأعيان، في شبه دائرة، وفقًا لمقاماتهم السامية من كبار التجار، والأقرباء من الأمراء، والقبطان الأعظم وهو المشرف على السفن والبحار والبحارة وحركة التجارة المائية، يجلسون على مقاعد منخفضة يقدمها لهم أسرى القصر. ثم يأتي الصف الثاني ويجمع المواطنين الأثرياء، يجلسون على مقاعد صغيرة من الخشب أتوا بها من منازلهم. ثم الصف الثالث ويضمّ الوافدين مؤخّرًا من المواطنين المهاجرين والباحثين عن ثروة لم ينالوها إلى حين عقد المجلس، وسيتدرجون إلى الصفوف الأولى وقتما يحصلون على المال والجاه والملابس اللائقة بعظمة المجلس…. وفي الصفّ الأخير على الأرض يجلس الشحّاذون وأصحاب الحاجات من المهاجرين، وعلى مقربة منهم يصطف الشحاذون العجائز والمرضى والمعتوهون من الأسرى المعتوقين من قبل سادتهم بالمدينة «. وهو ما يبين غياب السكان الأصليين من السود في الصفوف الأولى أمام السلطان. وهذا دليل على إقصائهم من المركز وإبعادهم عن مناقشة قرارات الحاكم. كما أن السادة يميلون إلى اختيار الخدم الصامتين في القصر إلى رغبة المستعمر في السيطرة على أفراد لا يعبرون عن آرائهم أو رفضهم للظروف المهينة التي يعيشونها. ويرغمون الأسير على الصمت إن تكلم حتى لا يبد رأيه ويتدخل في قراراتهم،« فالسادة يحتاجون إلى آلات عمل وسيمة لا إلى آلات كلام. والأسير الخاص عليه أن يحفظ الأسرار، ويتحقق ذلك بصورة مُرضية في حالة صمته، فَصمتُ الأسير عبادةٌ. أما الصفات الأخرى؛ مثل الوفاء والأمانة والصدق، فهذه، دائما ما يوفرها السادة في خدَمهم عن طريق الكي بالنار، أو الضرب بالسوط، أو السجن الانفرادي والحرمان من الأكل والشرب». الصمت يمنع المستعمر من التحدث عن ماضيه وتاريخه. السيد يفتك سلطة الكلام من أسيره ويحرمه من التعبير عن مشاكله. فيسكته ليتكلم بصوته لأن الإفريقي جاهل ولا يعرف كيف يتحدث عن مشاغله، « وليس لهم الحق في مخاطبة مجلس السُّلطان أو حضوره ولو كانت لهم مسائل معقدة، فذلك شأن أسيادهم ومالكيهم، ثم ما هي مشكلة الأسير طالما كان عنده سيد يقوم بواجبه ويعبر عنه!». نجد هذه الرمزية في رواية Foe ل ج.م.كوتزي J.M.Cotzee الكاتب الجنوب إفريقي الذي صور شخصية Friday،الرجل الأسود في الرواية، قد اقتلع لسانه ولا يستطيع أن يحكي من شوهه أو ما هو ماضيه وتاريخه.
لو نعتمد المقاربة »النسوية Feminism» « » لرواية سماهاني فإننا نجد الاستعمار الإسلامي همش المرأة ة واضطهدها. المرأة أيضا تمثل الثانوي ولا تتمتع بحقوقها كانسان في زنجبار، مثل الأفارقة في أرضهم. فهن بلا قيمة في مجتمع زنجبار. تحرم المرأة من التعلم لأن تعلم الكتابة والقراءة امتياز خاص بالرجال السادة ويمكن أن يجعل المرأة تعي باضطهادها وتهميشها فترفض قمعها وتبحث عن تغيير واقعها،« ويظنّ زوجها أنهما( القراءة والكتابة) مفسدتان للمرأة، وتصيبان روحها بالتمرّد». كذلكهن مشوهات جنسيا مثل الكثير من الأسرى بقطع البظر لأن الإسلام حسب الرجل المسلم بزنجبار أمر بقطع البظر لقمع غرائز المرأة، « وعلى المرأة أن تتخلص من ذلك الجزء النجس الشيطاني النابت في جسدها، لأنّه يقودها إلى الشر والرذائل والشهوات العارمة. « تصوير المرأة في الثقافة العربية بزنجبار الرواية دونية وتساويها بصورة الشيطان وتمثل مصدر خوف للرجال، «فإنّ كيد النساء حسب قوله أكبرُ من سُلطة الجن والأبالسة، وقوّتهن تأتي بعد قوة الربّ مباشرة، والرب نفسه قد يستجيب لهن ويتجاهل الرجال». وتعتمد الأديان السماوية في احتقار المرأة واعتبارها كائن ناقص وضال ومذموم،« وأفهم أيضًا النساء، قيل عنهن في الأسفار المقدسة إنهن ناقصات عقل ودين، وإنهن يتبعن أهواءهن، لذا سيكن في الآخرة من أغلبية سكان الجحيم، هن والحجارة بالطبع». المرأة دائما يقع استغلالها جنسيا وتتعرض للعنف الجسدي مثل الخدم والأسرى، «جند والدها الّذين يعتبرون أيّ تحرّش أو اغتصاب أمرًا عاديًّا وطبيعيًّا، بل إنّ والدها لم يكن يخجل منها إذ يحكي أمامها أنّ نكاح الأسيرات لا حرمة فيه فهو حق مكتسب، بل إنه طبيعي جدا ومن حق المنتصر أن يقطف ثمرة نصره». امتلاك النساء والنظر إليهن كسلعة جنسية أمر طبيعي وهو حق رجالي متفق عليه في الدين الإسلامي. يستطيع الرجل أن يمتلك ما أراد من النساء،«ذلك أنّ لهم حقًّا مقدسًا في تعدد الزوجات ونكاح كل ما ملكت أيمانهم من أسرى وجوارٍ». يرى الرجل بزنجبار أنه متفوق على المرأة كما تفوق على الساكن الأصلي الإفريقي بالإسلام لأنه كرمه وسخر له النساء لمتعته « وقد كرمني الربّ بأن أكون رجلا، وأعطاني حق الزواج بمن أشاء مثنى وثلاثًا ورباعًا وما ملكت يميني ». وهذه الثقافة الذكورية ينظر بها لجميع النساء والجواري والفقيرات وبنات السادة،على حد السواء. فالسادة يهبون بناتهم للسلطان محاباة وتقربا منه وتصبح المرأة شيئا يهدى ويباع ويشترى. لا تمثل أهمية أولى في تفكير الرجل في زنجبار،«الحياةُ عنده تتمثل في الثروة والسُّلطة وتتمركز حولهما، ومنهما يجني كل أحزانه وأفراحه وسعادته وبؤسه، وما عداهما كل شيء ثانوي ولا يستحق الاحتفاء».
الاستعمار العربي أنشا شخصيات معقدة نفسيا داخل الأفراد الأفارقة. سندس بخصيه يفقد عضوه الذكري ويصبح شبحا يحس به. كما انه كائن معقد الهوية الجنسية لا رجل ولا امرأة،« وهذه ميزة الخصيّ، ليس برجل وليس بامرأة، إنه بقوة الرجل ولكنّه أشبه بالنساء في الوقت ذاته لافتقاره إلى ذلك العضو». ولا يعرف نفسه ان كان وثني أو مسيحي أو مسلم لأن الإسلام فرض عليه فرضا. وهذا ينتج من سندس إنسان متأزما نفسيا لوجود التناقضات المربكة في شخصيته. فهو لا ينتمي لأي هوية،«أنا كلّ شيء سيّئ، وكلّ شيء قبيح، كلّ شيء اُخيف منه، وهذا حظّي في الحياة؛ مخصيٌ لعينٌ ناقص الروح في عُرف قومي الأفارقة، وآبقٌ كافرٌ سأدخلُ الجحيم في عُرف المسلمين بأنغوجا، لعنتي عليّ!! ». يؤمن فرانتز فانون أن الاستعمار بظلمه المتواصل والمؤثر في نفسية من المضطهد يجعل منه يفكر في نفسه بشكل سيء، « المضطهدون دائما يعتقدون الأسوأ عن أنفسهم ».
مَواَنَا وا إمْبُوا الشخصية الضحية الأكثر تشويها في الرواية. إذ يعاني من اضطراب في الهوية فهو يهوه مثل الكلب عندما يضحك لأنه رضع كلبة في صغره«ضحك مَواَنَا وا إمْبُوا ضحكة أشبه بنُباح الكلب». وأصبح يلقب ب’ابن الكلبة’ بعد أن أختطف النخاسة أمه وماتت جراء اغتصاب السلطان لها وهي حديثة الولادة. فهو يحمل صفات الإنسان والحيوان في داخله. ومن الآثار النفسية المدمرة لموانا هي أنه يعاني من اضطراب جنسي جعلت منه “بهيمي” “bestial” فهو يضاجع الكلاب،« ولكن لا أخجل أن أقول لك، أنا أضاجع الكلاب أيضًا، قد تكون هنالك سُلالة من الكلاب من صلبي «.
أكثرالمواطنون الأفارقة الذين كانوا عبيدا وأسرى وخدما عند السادةبعدما أطلق الانقليز سراحهم لم يستطيعوا فهم المعنى الحقيقي للحرية التي كانوا يحلمون بها. أنتجوا صورة مشوهة للحرية. فارتبط مفهوم الحرية عندهم بالفوضى،« كان معنى الحرية يختلط لدى الجميع، بل يتطابق في كثير من الأحيان مع كلمة الفوضى والتّمرّد أو عدم المبالاة». وبرهنوا أيضا على صحة نعت الاستعمار لهم بأنهم مجرد سود كسالى ولا يحبون العمل،« وكان العُتقاء أيضًا يرفضون العمل لساعات طويلة، فحالما يشعرون بالملل يغادرون أعمالهم. كما أن غيابهم المتعمد غير المبرّر أحدث مُشكلة كبيرة في استمرار عجلة الإنتاج. ثمّ إ نهم لا يقبلون المحاسبة، لأ نهم أحرار في ما يقرّرون، وطالما كانت لديهم نقود تكفيهم لقضاء يومهم في البيت، أو في الخمارات البلديّة». كما أنهم قاموا بالقتل باسم الحرية،« بعدما مارس أربعة من الشّباب المعتوقين ما أسموه حريتهم في نهب أحد تجّار القَرَنْفُل، وعندما قاومهم التّاجر، ضربوه وطعنوه عدة مرات بخناجرهم المسمومة فأردوه قتيلا في الحال »
أحكم المستعمر السيطرة بالقوة والعنف على سكان إفريقيا. السلطان والسادة يمارسون العنف على الأسرى والخدم وافتكوا منهم كامل حقوقهم لقمعهم واستغلالهم. لكن دائما توجد، في روايات ما بعد الاستعمارية، مقاومة وثورات لطرد وإخراج المستعمر من الأرض. يقول فرانتز فانون : « بالنسبة للشعوب المستعمرة القيمة الأكثر أهمية… هي الأرض : الأرض التي ستجلب لهم الخبز، وقبل كل شيء الكرامة». باسترجاع أرضهم يمكنهم تحقيقالحرية وتحرير الذات المستعمرة من سيطرة المستعمر. مثلما يرى ايمي سيزار Aimé Césaire،الشاعر والكاتب والسياسي الفرنسي من المارتينيك أنه،« لا أحد يستعمر ببراءة. كذلك لا أحد يستعمر ويفلت من العقاب. ان الامة التي تستعمر والحضارة التي تبرر الاستعمار _ وبالتالي القوة _هي بالاساس حضارة مريضة، حضارة معتلة أخلاقيا… تدعو إلى هتلر، أعني عقابها». افتتح عبد العزيز بركة ساكن رواية سماهاني بفصل يشير لوجود حرب بين صاحب حق وعدو. ويكتشف القارئ أن الحرب كانت بين الأفارقة وجنود السلطان،« ومع الساعة الثانية صباحًا ظهر لنا الأعداء ثانية، وكنا على أتم الاستعداد للمواجهة. لم نتعرض لهم حتى وصلوا قريبًا من مخازنهم وفي أقل من سبع دقائق فتحنا عليهم النار وأنهينا كل شيء. فرّوا مخلّفين وراءهم مائة وخمسين قتيلا. أما خسائرنا فلا تذكر، قُتِل منّا اثنان فقط. عُدنا إلى مخيمنا بعد نزال ومطاردة دامت ساعتين ». كما يوجد كثيرا من الإشارات أن الأفارقة لم يتوقفوا عن المقاومة ومهاجمة المستعمر لاسترداد أرضهم المنهوبة. ولم ينس السكان الأصليون اضطهاد وظلم السلطان. فحاولوا تنظيم وتجهيز أنفسهم لمهاجمة العدو، «سيأتون إلى القرية يوم ظهور الهلال للمرة العاشرة، يأتون في ظلمة الليل، إنهم من عشيرتك الأفارقة أصحاب اليابسة، لديهم مهمة خاصة جدًّا، ويريدون مساعدتك، فكن معهم، نحن نريد أن نحرر بلدنا من الأغراب الذين استعبدونا وقتلوا حيواناتنا واستولوا على أرضنا كلها، لا يمكن أن يحدث ذلك في ليلة وضحاها، يحتاج الأمر إلى تجهيز، انظر يا نانو؛ أنا الآن أعمل دون أجر أسيرا في أرض أجدادي الذين هم أجدادك، وأنت مملوك للسلطان وأبوك أيضًا، كلنا مسخرون لمصلحة الأغراب».
التجأوا للعنف لمواجهة العنف الذي عانوا منه ليصبح بذلك ممارسة العنف على المضطهد ضرورة تنفيس عن المعاناة.و هو ما ذهب إليه فرانتز فانون الذي دعا إلى ممارسة العنف لنيل الاستقلال.و كذلك لممارسة العنف للتخلص من آثار الإذلال العقلي الذي مورس على المستعمر ليسترد احترامه لذاته ويصر العنف وسيلة لتطهير الروح من الشعور بالإهانة التي تلقتها. يقول فرانتز فانون :« على مستوى الأفراد، العنف هو قوة تطهير. انه يحرر الساكن الأصلي من عقدة الدونية ومن يأسه وعجزه. انه ينزع منه الخوف ويسترجع احترامه لذاته. العنف هو إعادة خلق الرجل لذاته». وهو ما التجأ إليه المساجين في سماهاني عندما التقوا السلطان في القبو. مارسوا السلوك الذي كان يستعمله المستعمر تجاههم. أهانوه،«كان السّجناء لا يعرفون ماذا يفعلون بالسّلطان بالضّبط، لقد فاجأهم بوجوده بينهم، فأخذوا يضربونه بصورة عشوائيّة، ويبصقون عليه». ثم قاموا بخصيه،« ولكنّ عجوزا مريضا نصحهم بدقّ بيض السّلطان وذكره بمؤخّرة البندقيّة على أرضيّة القبو الحجريّة : « دُقّوا مذاكيره حتّى تتساوى مع الأرض » لم يكترثوا لعويله ونواحه، تركوه على البلاط يئنّ من الألم». وأظهروا استمتاعهم بانتقامهم ورد العنف الذي مارسه السلطان عليهم، «المساجين المُنتشين بانتصارهم العرضيّ العبثيّ عليه، ولو أ مّهن اتّفقوا جميعًا على أن الربّ هو الّذي أتاح لهم هذه الفرصة، لكي يحقق العدالة الّتي انتظروها طويلا»
أوهورو تمثل كتاب رواية ما بعد الاستعمار. الروائيون ينددون بأفعال المستعمر الفظيعة في بلدانهم. أوهورو تهاجم المستعمر وتنادي للثورة بالغناء والرقص،«أمّا أوهورو فكانت من القلة الّتي استعصى على السّادة تدجينها، بل لقد كانت تغنّي ما تشاء، وترقص كما تريد، ويحمل فنّها وجسدها إشارات الثّورة». مثلما لفتت الروايات انتباه العالم لوحشية الدول الاستعمارية، حركت أوهورو الإحساس بالذنب في وعي الأميرة لأنها ابنة السلطان المستعمر، « كلماتها مؤلمة جدًّا، إذ تصف فيها المغنية أوهورو هجوم النخاسة على قريتها، واغتصابهم النساء وسبيهنّ، وكانت تحفظ كلماتها عن ظهر قلب بلغتِها السواحيلية ولكنةِ قبيلة كايموندي». استعملت الأسطورة لصد ومقاومة استغلالها جنسيا وبقائها حرة، » ويمكن القول إنّ الأسطورة التي حاكتها حول نفسها، هي التي حمتها من النخاسة والرجال المصابين بالشبق الدائم ». وبقيت تحلم بالحرية واسترجاع أرض الأفارقة باستعمال العنف وكل أشكال المقاومة التي يمكن استعمالها للتخلص من المستعمر، «وتعلّمت منه كيف تكون مستقلّة وحرّة أيضًا. والأهمّ هو كيف تحافظ على حرّيّتها، لا بالسّلم والتّسامح كما تعلّم جدوده من المسيح، بل بالمَكر والعنف والسّحر، علّمها أنّ كلّ الأنبياء طيّبون، ولكنّ أتباعهم أشرار، فإذا شئت العيش بينهم، فلا بدّ من أن تكوني أكثر شرًّا منهم وألعن». أوهورو تتعدى الأحلام العادية للنساء في مجتمع استعماري فهي تتساوى في طموحاتها مع الرجال الأحرار، «أمّا هي، فكانت تحلم بحرّيّة شعبها، وتحلم بالزّعامة والملك.تريد أن تقود جيشًا، وتحكم شعبًا، وتهزم أعداءها وتسترد أرضها«.
الأميرة أيضا رفضت الثقافة الذكورية لمجتمعها وتمردت. تعلمت الكتابة والقراءة وطلبت من زوجها أن يتخلى عن كل جواريه. كما أصبحت تحلم بأن تكون سلطانة. ورافقت سندس الأسير المخصي وتشبثت بالعيش معه لأنها سبيل للتحرر من نمطية العلاقة الجنسية في مجتمع زنجبار. مع سندس تمردت على ثنائية العلاقة الجنسية التي كانت تعيشها مع زوجها. فقد كانت متلقية وتابعة له لأن الثقافة المهيمنة في زنجبار تحد من حرية المرأة الجنسية، «وهذا ما كانت تفتقده في زوجها المرحوم، إذ كان يفسد لحظاتها، بسيطرته على جسدها، بحرمانها من المبادرة وإحساسها بضعفها وحاجته إليها». تجربتها الجنسية الغير مكتملة مع سندس حررتها من الهيمنة الجنسية والجسدية للرجل ولم تعد جزء من ممتلكاته. بل أصبحت تمتلك جسدها وباستطاعتها أن تبادر لان سندس لا يهيمن عليها بل العكس، « يعجبها الجانب الأنثوي في سُندُس، جانب الاستسلام الكامل، إنه يوقظ فيها ذكورة منسية ونائمة في كهف أنوثتها… تُريد أن
تكون رجلاً وامرأةً أيضًا، بحرًا وبرًّا»
و حرية سندس ترتبط بجسد الأميرة سندس فاختار الهروب بالأميرة من قصرها عند مهاجمة الأفارقة له،«لم يستطع أن يقول لها، إنها حريته الفعلية، أو بصورة أدق جسدها هو حريته». فهو بدوره يبحث عن الحرية خارج المجتمع الاستعماري ويحلم بالعيش مجتمع يتساوى فيه جميع الأفراد، « سئمت الحياة في المدينة، تلك المدينة التافهة، التي لا تحتوي سوى على نوعين من البشر؛ إما سادة وإما أسرى، إنني أحصل على حريتي، إنها فرصتي«.
مَواَنَا وا إمْبُوا يبحث عن تحرير وطنه بطرد المستعمر فهو قائد مجموعة من المحاربين. ويريد أن يحرر روحه من كابوس وهو الانتقام لأمه التي ماتت جراء اغتصاب السلطان لها، “»كانت دائما ما تحضر في حلمي، وتطلب منّي الانتقام لها، ويبدو أن وقت الانتقام قد حان، للأسف أنا سأفعل بك كما فعل أبوك بأمّي، سأنكحك إذا قبلتِ ذلك بإرادتك، ثم أقتلك، وإذا لم تقبلي
أيضًا سأغتصبك ثمّ أقتلك».. مقاومته لثقافة وهيمنة السيد العربي وتعطشه للانتقام يشابه شخصية كاليبين Caliban في مسرحية العاصفة The Tempest الذي هو أيضا وحش مشوهكاد أن يغتصب ميراندا البنت البريئة , انتقاما من أبيها الذي يمثل السيد في الجزيرة. راحة وتحرر روحمَواَنَا وا إمْبُوا لن تتحققا إلا بقتل الأميرة والقصاص رغم علمه ببراءة الأميرة، « سامحني يا قلبي، فإنّني لن أكون رحيما روحُ أمي تنتظر الآن.القتلى لا يغفرون، تقول لي أمي كلّ يوم في الحلم: أريد أن أرتاح.ولا ترتاح أرواح المقتولين أبدًا ما لم يُقدّم إليهم الدّمُ المستحق». مَواَنَا وا إمْبُوا يغتصب ويقتل شخص بريء وهو ما يناقض مبادئ قبيلته. لأن التشابه مع أفعال القاتل يجلب النحس واللعنة للقبيلة. وهو ما يذكر القارئ ب اوكونكوOkonkwo في رواية شنوا أكيبي الذي جعله المستعمر البريطاني ينتحر ويتعدى على شريعة ومعتقدات قبيلته لأن الانتحار محرم ولا يدفن المنتحر.
ينتهي الاستعمار العربي الإسلامي بزنجبار مخلفا ورائه فظاعات إنسانية واجتماعية تجاه الساكن الأصلي للأرض. اجتث الساكن الإفريقي من أرضه وافتكها. كما دمر القرى وامتلك أهلها وسادتها،«
-حطّم 805 قرية إفريقيّة تحطيما تامًا وسبى أهلها.
-سبى 90 بالمائة من مجمل سُكان أنغوجا«.
وحرمهم من ممارسة معتقداتهم وفرض عليهم تنظيم اجتماعي وعقائدي يتناقض مع الثقافة الأصلية التي تميزهم. فأربك هويتهم وعلاقتهم بالعالم. الاستعمار العربي شوه الساكن الأصلي لإفريقيا جسديا ونفسيا. تعرض المواطن الإفريقي لأبشع أنواع الاضطهاد والإذلال في أرضه. كما عوملت المرأة باحتقار ودونية بسبب جنسها في مجتمع ذكوري يعلي من قيمة السيد العربي والغير إفريقي،« تلاشى كما تتلاشى الظّلمة في الضّوء، دون أثر يُستدل به.
وفي هذه المدّة الزمنيّة الّتي لا يمكن التيقّن من مقدارها:
– قتل 883 إفريقيًّا، وسبعة من العرب العمانيّين، وعشرين يمنيًّا.
-أباد جميع الحيوانات الضخمة، مثل الزّرافات والأفيال والفهود
والأسود الّتي كانت تعيش في جزيرة أنغوجا.
-باع من السبي نساء وأطفالا ورجالا 2.779.670.
-نكح 300 سبية، وأفرغ في مهابلهن ما يقارب 15 جالونًا من
المنيّ.
-أنجب طفلة واحدة.
-وبما أنّه كان مفتونا أيضًا بنكاح الغلمان، فقد أفرغ في مستقيماتهم
ما يساوى جالونا من المنيّ، ولم ترتح منه أدبار الأطفال الأفارقة
المسبيّين وفُقراء العرب».
وذكرعبد العزيز بركة ساكن في سماهاني أن تاريخ انتهاء الاستعمار العربي لزنجبار كان سنة 1965. وهذا تاريخ استقلال زنجبار من الاستعمار البريطاني. وقصد بركة ساكن بهذا التاريخ أن الاستعمار البريطاني لم يكن يختلف عن الاستعمار العربي. أي أن الخطاب والمعاملة الاستعماري لمواطني زنجبار ستتواصل مع أي استعمار. لكن بريطانيا أخرجت العرب بحجة القضاء على الرق وإرساء حقوق الإنسان وسيقع استغلال ثروات الأرض وساكنيها. كما ستظهر مقاومة الساكن الأصلي من جديد لأن شخوص الرواية كانوا واعيين بخطورة الخطاب «الإنجليز أسوأ، والألمان أسوأ منهم، والفرنسيّون لا فرق بينهم وبين الإنجليز، كلّهم يريدون الاستيلاء على بلادنا، إ مّهن لا يتردّدون في القتل إذا شعروا بأنّ هناك من يهدّد مصالحهم، علينا أن ننهي حكم العرب والإنجليز وغيرهم بأنفسنا».
يمكن اعتبار رواية سماهاني إعادة لكتابة للتاريخ العربي الإسلامي من زاوية مختلفة لما هو متعارف عليه. محتوى الرواية مبني على وجهة نظر المستعمر « the perspective of the colonized ». المستعمر الذي أفتكت منه أرضه وأصبح عبدا للسيد المستعمر العربي والغير إفريقي. استهلال الرواية بمقطع سردي مروي من طرف ساكن أصلي لإفريقيا ساهم في الهجوم على قصر من قصور السلطان المستعمر، »قُبيل الصباح ذهب عددٌ من رجالنا ليروا القتلى من أعدائنا ». اعتمد عبد العزيز بركة ساكن على تواريخ حقيقية لبداية قدوم المستعمر العربي لزنجبار ليموقع روايته في أرضية افريقية زمانا ومكانا،«في العام 1652، رستْ سفنٌ شراعية عملاقة قادمة من عمان، على ساحل ما يُسمّى أنغوجا -في وقت ما من ظلمات التاريخ- وزنجبار حاليًا». ويمكن اعتبار الرواية قصة منقولة شفهيا من جيل لجيل وليست رواية مكتوبة،«ويسرُّ الراوي أيضًا أن يسردَ قليلا عن مكان حدوث الرواية، ونشأة الحكايات بها» و«ويودّ الراوي أيضًا، أن يقترح عليكم قراءة فقرة من كتاب مذكرات سالمة بنت سعيد». هذا يؤكد أن رؤية الأحداث في الرواية هي افريقية لأن الثقافة الإفريقية تنبني أساسا على الرواية الشفهية،«أن الكثيرين منهم لم يعرفوا أنّ هناك شيئًا يُسمى كتابًا، فالمعرفة شفاهة من فم لأذن، وبالممارسة اليومية والمحاكاة،كما تتوارث الأخلاق والقيم من جيل إلى جيل». كما احتفت الرواية بتصوير المجتمعات الإفريقية التي لم يدمر أساسها الاستعمار. الأفراد يعيشون في انسجام مع معتقداتهم ورؤيتهم للعالم. فهم يعبدون للرب الإفريقي الذي يوجد في الكهف. ويؤمنون باللعنات والنحس إن ارتكب احد الشر. يعتقدون أن أرواح أجداده تحميهم،«يمضون بسرعة بينما تحلّق على رؤوسهم أرواح أجدادهم التي تحميهم وتباركهم وترعاهم،وتخفي أَثرهم عمّن يلاحقهم وينوي بهم شرّا، تتدلى من أعناقهم التمائم التي زوّدهم بها ساحر القرية وزعيمها، إنها ضد الثعابين والعقارب وهوام الأرض الأخرى. لقد خرجوا من ديارهم بعد إذن الربّ الإفريقي المقيم في كهفه البعيد». علاقتهم بفكرة الرب تجعلهم مطمئنين وامنين. مثل اعتقادهم أن الرب يحفظ لهم أعضاء الذكورة بعد خصيهم. وهو ما ينقص هول المصيبة والصدمة عليهم يبعث فيهم الأمل والحلم بأن يستردوا أعضائهم. عدم إيمانهم برسالة سماوية كالمسيحية والسلام لم يمنعهم من أن يحملوا مبادئ وقيم إنسانية رفيعة. إذ لم يتحرش الرجال بالأميرة عندما أخذوها معهم وكذلك الزعيم لم يقبل اختطاف الأميرة رغم كرهه لأبيها والسعي للانتقام منه،» لم أعرف طوال حياتي الّتي تمتد قرابة الثمانين فصلا مطيرا أنّ رجلاً كري نبيلاً من قومنا قد أخَذَ امرأةً من أسرتها عنوة،وهرب بها أينما شاء وكيفما شاء، دون زواج، ودفع المَهر هذه أخلاق النخّاسة الّذين أتى بهم المحيط من اليابسة البعيدة «. ومن بين القيم الإنسانية،التي يؤكد الزعيم على ترسيخها في أبناء قبيلته، هي العدل والابتعاد عن الظلم. فليس أخلاقي أن يدفع بريء ثمن خطا إنسان أخر وإلا يصبح مثله، «تحدث الزعيم، بعد أن تحرّك في مجلسه يمنة ويسرة، قائلاً: «إذا عملت عمل الشّيطان فستصبح شيطانًا، إنّك لا تجفّف النّهر انتقامًا من تمساح ابتلع والدك. وأَي سيّدة، مهما كانت سلالتها، يطرد اللّعنة الّتي يجلبها ذلك الفعل، ولا يمكن أن تتحمل فتاة مسؤولية جرائم والدها، ولماذا لم تأتوا بالأب نفسه؟!». يعيشون داخل تنظيم اجتماعي منظم لعلاقاتهم وتنبني على التوافق والالتزام بقوانين القبيلة. مثل قبيلة المحاربين الذين هاجموا قصر الأميرة يحتكمون إلى مجلس القبيلة ويرأسه زعيم يهتم بمشاكلهم في كامل الأوقات، “فزيارة الزّعيم لا تحدّد بوقت، وهو دائما في انتظار من يزوره، فمهمّته هي الاستماع إلى الجميع في كل الأوقات”. كما أن جميع الأفراد متساويين إنسانيا. فلا يوجد في المجتمعات الإفريقية تقسيم الناس إلى عبد وسيد،”وأخذت الدموع تجرى من عينيه وهو يرى القرويين يستقبلونهم بالأغنيات والأبواق والطبول الإفريقية فقد افتقد كلّ ذلك منذ طفولته التي اختطفها منه النخاسون، يعود إلى أرضا لا ينقسم أهلها سادةً وخُدّامًا”.